السودان: ثورات تبحث عن علم سياسي (2-2)
تاريخ النشر: 23rd, December 2024 GMT
عبد الله علي إبراهيم
ملخص
أفضل مَن شخّص التغيير واصطراع القوى حوله بعد ثوراتنا الثلاث هو منصور خالد في كتابات له بعد ثورة أكتوبر عام 1964 نشرها في كتابه "حوار مع الصفوة" (1979). فالصراع عنده قائم بين بما قد نصطلح عليه بـ"القوى الكسبية" و"القوى الإرثية". فالقوى الكسبية هي التي اشتهرت بالأفندية وهي طبقة طارئة على المجتمع السوداني أسسها الاستعمار الإنجليزي لأغراضه وتقلدت منزلتها كسباً.
جاءت الطبقة الكسبية بمأزقها مع الديمقراطية إلى ساحة ثورتي 1964 وأبريل 1985، وكان التغيير الجذري الذي طلبته هو إصلاح عميق في البرلمانية يأذن لها بتمثيل مرموق فيها يمكّنها من وضع بصمتها على التشريع صوب الحداثة. فسعت في ذلك الإصلاح إلى "التحايل"، إذا شئت، على مبدأ "صوت واحد للمواطن" الذي يربح منه الإرثيون بينما يكاد يلغي وجود الكسبيين في البرلمان. وكان لب اقتراح طبقة الكسب هو افتراع كليات مهنية وقطاعية انتخابية لها فيها نفوذ مؤكد تكسر به حدة غزارة جمهور الطبقة الإرثية.
فتبنت الطبقة الكسبية، ناظرة لمأزقها السياسي المشاهد، ثلاثة إصلاحات تؤمن بها لنفسها تمثيلاً معتبراً في البرلمان يعوضها قلة نفرها الاقتراعية.
الإصلاح الأول
طالبت هذه القوى مرتين بعد ثورتي 1964 و1985، تطويل المرحلة الانتقالية قبل إجراء الانتخابات للجمعية التأسيسية المنتظرة، فواضح أنهم كانوا يريدون شراء الوقت وهم في "عسى ولعل" أن دروس الثورة والتغيير تنسرب لوعي الجمهور، فيميل ناحيتها ويرجح كفتها في تلك الانتخابات، وكانت الأحزاب التقليدية تريد الفترة الانتقالية "قصيرة وعسل" في عبارة إنجليزية ماتعة. فطمعت الطبقة الكسبية بعد انتفاضة 1985 أن تطول الفترة الانتقالية لخمس سنوات، وكانت حجتهم للتطويل أن البلد بحاجة إليه لإزالة "آثار مايو"، أي حكم نميري الذي جاء بانقلاب في مايو (أيار) عام 1969، ووضع القواعد لسودان ليبرالي موحد. ثم اكتفوا بسنتين للمهمة الانتقالية في مفاوضات صاخبة مع الطبقة الإرثية والمجلس العسكري الانتقالي الذي فرض ولايته على البلاد بعد نجاح الثورة بعزم التدرج بها للحكم الديمقراطي. وقد أرادها المجلس أيضاً قصيرة وعابرة، ثم عادت القوى الحديثة من الغنيمة بعام واحد للفترة المقصودة لإصرار المجلس والقوى التقليدية على تقصير الفترة الانتقالية. وفي ثورة 2018 نجحت هذه القوى بجعل الفترة الانتقالية ثلاث سنوات قابلة للتمديد.
الإصلاح الثاني
وكانت حيلة الطبقة الكسبية الثانية أن يقوموا بإصلاح يؤمن لهم تقلد زمام الفترة الانتقالية وما بعدها، فبعد ثورة أكتوبر نادوا بأن تصبح جبهة الهيئات التي قادت الثورة كياناً دائماً ليؤمن مسار الثورة، ورفضت القوى الإرثية تلك الدعوة ووجهت منسوبيها للتحريض على سحب نقاباتهم من عضويتها. وعام 1985 اقترحوا حكومة ثلاثية التكوين قوامها مجلس وزراء تنتخب النقابات 60 في المئة من عضويته، ويأتي 40 في المئة منه من الأحزاب الإرثية مع حرمان الإخوان المسلمين (الجبهة الإسلامية القومية) من التمثيل فيه جزاء وفاقاً لتعاونهم مع نظام الرئيس نميري حتى قبيل خلعه بقليل، ومجلس منتخب من النقابات بمثابة مجلس تشريعي، إضافة إلى مجلس سيادة، ورفضت القوى الإرثية الخطة بالكلية.
الإصلاح الثالث
وجاءت مشاريع إصلاح النظام الانتخابي للقوى الكسبية متوافقة مع خطتها لاكتساب الغلبة في البرلمان المنتظر غلبةً لا تستحقها بأعدادها القليلة بين السكان، فبعد ثورة أكتوبر 1964 استلهموا تجربة الناصرية فطالبوا بأن تقوم الانتخابات، إلى جانب الأسس الجغرافية، في دوائر مخصصة لمهن الناخبين وقطاعاتهم، وعليه ستكون للعمال والمزارعين والمثقفين دوائر مخصصة. وأذاع الحزب الشيوعي في ديسمبر 1985 مشروعاً لإصلاح الانتخابات جعل للقوى الحديثة 110 مقاعد في برلمان منتظر من 360 مقعداً، وجعل للعمال 35 مقعداً وللمثقفين المهنيين 15 مقعداً. واقترح التحالف النقابي الوطني الذي قاد الانتفاضة في 1985 برلماناً من 225 مقعداً جعل للعمال منها 19 مقعداً. ووقف "الحزب الاتحادي الديمقراطي"، المشكّل من القوى الإرثية، بقوة ضد أي مشروع لتمثيل القوى الحديثة. ولم تقوَ لجنة الانتخابات على بتّ الخلاف الذي نشأ حول المسألة. واجتمعت مع المجلس العسكري الذي رفض فكرة تمثيل هذه القوى بترتيب غير الانتخاب بصوت لكل مواطن.
الثورات والتغيير
إذا كان التغيير الجذري شرط بعض نخبتنا لتسمية الحراك الذي أسقط نظاماً قديماً ثورة، فواضح من عرضنا أن الثورات السودانية لم تخلُ من رؤية للتغيير، أو همة لتنزيله كسياسات للدولة بعد سقوط النظام. فلا يجوز نزع صفة الثورة من ثورات السودان إذا بدا لهؤلاء الكتّاب أنه لم يتغير شيء بعد سقوط النظام، والأحرى بهم تحري الأسباب التي أدت إلى "إجهاض" ذلك التغيير لا قبوله ضمن طبائع الأشياء. فقد كان الصراع حول مشروع التغيير الانتخابي الذي طرحته القوى الكسبية صدامياً، لا كما وصفه الأكاديمي عبدالوهاب الأفندي الذي قال إن حصيلة ثورة أكتوبر، مهما قلنا عنها، تطور طبيعي "في إطار تفاهمات وتنافس نخبة صغيرة تتشارك في الرؤى والمصالح، جرت في جو حميمي أقرب إلى الاسترخاء منه إلى الانفجار". فيكفي أن القوى الإرثية التي كرهت مشروع القوى الكسبية الانتخابية وغيرها، روعت الخرطوم بتحشيد جماهيرها من الريف في شوارعها في الـ18 من فبراير (شباط) عام 1965 لتُسقط حكومة ثورة أكتوبر الأولى التي غلبت فيها القوى الكسبية على الإرثية. فاستقال سر الختم الخليفة، رئيس الوزراء، ولم يمضِ في الحكم سوى أربعة أشهر، حرصاً، في قوله، "على مصلحة البلاد وسلامتها وعلى تجنيب أبنائها الشقاق والخلاف الحاد".
اشتراط وقوع التغيير بالثورة ضربة لازب وإلا انتفت عنها صفة الثورة، وجه آخر من وجوه قلة حيلة علم السياسة عندنا في دراسة الصراع في الفكر والممارسة على بينة من صدام الإرادات والمصالح والرؤى. فالثورة التي قصرت دون التغيير في رأي هذا العلم ليست من الثورة في شيء. وهذا الحكم عقوبة وليس تحليلاً ترحل بالمسألة لضبط المصطلح لا لدراسة معينة في ديناميكية إجهاض الثورة.
محمد هاشم عوض كتابه البلوتوكرسي شخص فيه باكراً أزمة الطبقة الكسبية مع الديمقراطية الليبرالية
ibrahima@missouri.edu
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: الفترة الانتقالیة ثورة أکتوبر فی البرلمان
إقرأ أيضاً:
معيار التغيير
آخر تحديث: 20 يناير 2025 - 10:00 ص بقلم:سمير عادل التطبيل والتزمير، واستئجار الأبواق الدعائية والأقلام المأجورة خلال هذه الفترة، يُروِّجان لفكرة أن “تغييرًا عظيمًا “سيحدث في العراق. لكن في الحقيقة، هذه الادعاءات لا تعدو كونها أمنيات وأوهامًا يتبناها تيار سياسي فقد بوصلته، وربط مصيره ب”الساحر الأمريكي” الجديد في البيت الأبيض، يدعى دونالد ترامب. هذا التيار، رغم ضعفه وعجزه عن تحقيق أي تأثير ملموس، إلا أنه بارع في نشر الأوهام وخلق حالة من الانتظار في صفوف الجماهير. وهو بذلك يُسهم في تجميد أي حراك فعلي أو حركة تهدف إلى تغيير الواقع السياسي والاجتماعي لصالح الحرية والمساواة والرفاه. لا شك أن تغييرات ستطرأ على المعادلة السياسية في العراق بفعل تداعيات الضربات الموجعة التي أضعفت النفوذ الإيراني في المنطقة. لكن هذه التغييرات ستقتصر على إعادة ترتيب التوازن داخل المعادلة السياسية، دون أن تصل إلى حد إحداث تغيير جذري يؤدي إلى إسقاط النظام السياسي القائم. في زيارة سريعة أجراها وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، بعد أيام قليلة من سقوط نظام بشار الأسد، شملت إسرائيل والأردن والعراق، صرّح بأن الولايات المتحدة الأمريكية ستعمل على حماية أمن هذه الدول. حملت زيارته رسالة طمأنة عبّرت عن التزام الولايات المتحدة تجاه حلفائها، حيث وضعت الإدارة الأمريكية العراق في مصاف إسرائيل، مؤكدة أن أمنهما يشكل محورًا رئيسيًا في استراتيجيتها لتحقيق مصالحها في المنطقة. وهذا يبدد كل التخيلات واحلام هذا التيار الذي يعيش بخبز يومه، وليس قادر ان يرى اكثر من وقع أقدامه. أما فيما يتعلق بمسألة حل مليشيات “الحشد الشعبي” أو الإبقاء عليها، والادعاء بأن ذلك مرتبط بحماية مصالح إسرائيل، فإن هذه الادعاءات والمبررات أصبحت خارج نطاق الحسابات الأمريكية والإسرائيلية. وذلك بعد الهزيمة التي مُني بها حزب الله، وسقوط نظام الأسد، والإبادة الجماعية التي تعرض لها سكان غزة وتدميرها، مما أدى إلى تراجع كبير في قدرات حركة حماس العسكرية ومكانتها السياسية ضمن المعادلة الفلسطينية. سواء ادعت حماس، أو حاول مرشد الجمهورية الإسلامية علي خامنئي إيهام العالم بانتصارها على إسرائيل، فإن الواقع يظل بعيدًا عن هذه المزاعم. فضلًا عن ذلك، يدرك النظام السياسي في إيران أكثر من غيره أن الميليشيات الموجودة في العراق، سواء كانت جزءًا من الحشد الشعبي أو جماعات خارجه، غير قادرة على مواجهة القدرات العسكرية الإسرائيلية أو التصدي لهجمات القوات الأمريكية. وقد أثبتت التجربة ذلك مع حزب الله في لبنان، الذي كان أكثر تسليحًا ويتمتع بحاضنة اجتماعية أوسع، لكنه فشل في حماية نفسه، ودفع مع بيئته الاجتماعية والشعب اللبناني ثمنًا باهظًا لشعاراته “وحدة الساحات” ودعمه لغزة، بالإضافة إلى ثلاثيته التضليلية: الجيش، المقاومة، الشعب. وبعدها جاءت الضربة المشتركة والمنسقة التي نفذتها بريطانيا وأمريكا وإسرائيل في 10 كانون الثاني/يناير 2025 ضد الحوثيين في اليمن، والتي تُعد واحدة من أوسع وأشد الضربات المؤلمة. هذه الضربة حملت رسالة مباشرة – وإن لم تكن مقصودة – إلى حلفاء إيران في العراق. وفي ذات السياق، وعلى عكس تصريح خامنئي خلال لقائه بمحمد شياع السوداني، رئيس الوزراء العراقي، الذي وصف فيه القوات الأمريكية بأنها قوات احتلال يجب عليها مغادرة العراق، والذي كان بمثابة رسالة إلى القوى السياسية المحلية في العراق التي تعول على الدعم الأمريكي للوصول إلى السلطة، تفيد بعض التسريبات الإعلامية بوجود مساعٍ رسمية عراقية لطلب تمديد وجود القوات الأمريكية في العراق. ويأتي هذا الطلب تحت ذريعة احتمال عودة تنظيم داعش بعد التحولات الكبرى في سوريا، إثر سقوط نظام الأسد. إلا أن هذه الذرائع لا تكشف عن الحقيقة كاملة. فالواقع يشير إلى أن حكومة السوداني، التي تمثل الإطار التنسيقي والميليشيات المرتبطة به، كانت على مدار أكثر من عام محمية بمظلة أمريكية ضد العمليات العسكرية الإسرائيلية. وتدرك هذه الحكومة جيدًا أن غياب الحماية الأمريكية سيضع العراق في وضع مشابه للوضع في لبنان، حيث تُضطر الحكومة وداعموها إلى البحث عن وساطات لوقف إطلاق النار مع إسرائيل، وربما توقيع اتفاقية إذعان معها، كما فعل حزب الله بكامل إرادته ووعيه. إن معضلة سلطة الأحزاب الشيعية وميليشياتها لا تكمن في ترددها بشأن الحفاظ على الحشد الشعبي أو التخلي عنه بحجة “السيادة”، فهي في الواقع غير مكترثة بهذه السيادة. فجميع الأطراف المعنية متورطة في انتهاك سيادة العراق. يكفي أن نُذكِّر بما تفعله القوات التركية في العراق، حيث تمتلك 60 نقطة وقاعدة عسكرية في إقليم كردستان دون أي اتفاقية رسمية مع الجانب العراقي، وتُسيّر طائراتها المسيرة متى تشاء في الأجواء العراقية لاغتيال معارضي الحكومة التركية. هذا فضلًا عن حرق المزارع، وقصف القرى، وقتل المزارعين الأبرياء. أما إيران، فهي لا تتردد في قصف الأراضي العراقية بالصواريخ، مستهدفة مدينة أربيل تارةً بحجة وجود أوكار للجواسيس، في رد فعل على العمليات الإسرائيلية التي تستهدف مواقعها الحساسة، من اغتيالات إلى تفجير مراكز أمنية وعسكرية ونووية مهمة داخل أراضيها. وفي السياق نفسه، يكشف تصريح أبو فدك، رئيس أركان الحشد الشعبي، عن عمق التبعية لإيران، إذ أكد أنه ينتظر أوامر المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية للرد على اغتيال إسماعيل هنية، رئيس المكتب السياسي لحماس، في طهران. إن معضلة سلطة هذه الجماعات تكمن في مساعيها اليائسة للحيلولة دون ميل كفة المعادلة السياسية نحو جهة تؤيد السياسة الأمريكية أو النفوذ التركي أو الخليجي بشكل خاص، والعربي بشكل عام، في العراق. فذلك قد يُبدد جهود سنوات من العمل، بدءًا من عمليات التطهير الطائفي، مرورًا بالتغيير الديموغرافي في مناطق الموصل وديالى وصلاح الدين وبابل، وصولًا إلى استغلال المادة 4 إرهاب لتصفية المعارضين، وانتهاءً بالحفاظ على الامتيازات والنفوذ، واستمرار الفساد والسرقة والنهب دون أي رادع. هذه الأحزاب لا تجد أي حرج في تقديم الميليشيات الولائية – الموالية لولاية الفقيه- ككبش فداء للسياسة الأمريكية تحت أي مسمى أو ذريعة، وذلك في سبيل الحفاظ على سلطتها. فمن عرف طريقه إلى السلطة عبر الدبابة الأمريكية وينزل منها، يدرك تمامًا كيف يعود ويصعد عليها متى ما اقتضت مصالحه ذلك. ومن هنا، فإن ما سيحدث في العراق من تغيير نتيجة صراع النفوذ بين الولايات المتحدة وإيران لا يعنينا نحن، العمال الساعين إلى حياة أفضل لنا ولأسرنا، ولا النساء الطامحات إلى المساواة وإنهاء حياة العبودية والتمييز والهيمنة الذكورية، ولا الشباب التواقين إلى الحرية والحياة الكريمة والمستقبل الآمن، ولا المثقفين التحرريين الذين يناضلون من أجل الحرية والأمان. التغيير الوحيد الذي يعني جماهير العراق هو اشتعال الجمرة التي لا تزال متوقدة تحت رماد انتفاضة أكتوبر. تلك الجمرة هي ما يرعب السوداني وبقية أطراف العملية السياسية. وهي السر وراء حملة الاعتقالات التي نفذتها حكومة السوداني ضد متظاهري أكتوبر-تشرين. كما أن هذه المخاوف هي التي تقف خلف تقديم مسودة قانون الحريات النقابية إلى البرلمان في هذه الأيام، وهو قانون يهدف إلى قمع حق الإضراب والتنظيم والتظاهر، ويمنع كافة أشكال التنظيمات المستقلة للعمال.