يتسم التحليل التاريخي لمسارات الثورة السودانية بجدلية معقدة بين النخب السودانية حول طبيعة الحراك الثوري وما حققه من تغييرات. منصور خالد، في كتابه "حوار مع الصفوة", يعد من أبرز من شخصوا طبيعة الصراع الذي شق طريقه عبر تاريخ السودان الحديث، خاصة في أعقاب ثورة أكتوبر 1964. يرى خالد أن هناك صراعاً دائماً بين القوى الثورية ذات الفكر الأيديولوجي، التي تحمل رؤية حداثية تسعى لتجاوز الأنماط التقليدية، وبين القوى التقليدية المتماسكة بالقيم القديمة، التي تعتمد على قواعدها الاجتماعية في الأرياف وتتشبث بهياكلها المحافظة.


هذا الصراع بين قوى التغيير الحداثي وقوى المحافظة الاجتماعية يتجسد في طبيعة العلاقة مع التحولات الديمقراطية والاقتصادية والاجتماعية التي كانت دائماً محل تنازع. القوى الثورية، التي تستمد شرعيتها من مشاريعها الفكرية المتأثرة بالإيديولوجيات العالمية مثل الاشتراكية والقومية العربية أو الإسلام السياسي لاحقاً، تجد نفسها في مواجهة القوى التقليدية التي ترتكز على إرث عميق من السلطة الاجتماعية، مستندة إلى الهياكل القبلية والطائفية التي طالما سادت في السودان.
القوى التقليدية لم تكن مجرد بقايا من الماضي، بل استطاعت تطوير نفسها لتتماشى مع متغيرات الحداثة، حيث أدركت أهمية الحفاظ على السلطة من خلال التكيف مع أدوات الدولة الحديثة مثل الأحزاب السياسية والديمقراطية الشكلية. محمد أبو القاسم حاج حمد، في كتاباته الفكرية، أكد أن القوى التقليدية في السودان طورت خطاباً مرناً يخدم مصالحها، مما مكنها من امتصاص ضربات القوى الثورية دون أن تفقد هيمنتها الكاملة على المشهد.
ثورة أكتوبر 1964 وانتفاضة أبريل 1985 تجسدان هذا التوتر الحاد بين المشروع الثوري والرؤية التقليدية. ثورة أكتوبر جاءت كنتيجة لتحالف بين القوى الثورية في المدن، خاصة النقابات والطلاب، وبين القوى التقليدية التي استغلت الحراك الشعبي لإعادة إنتاج النظام السياسي وفقاً لرؤيتها. القوى التقليدية لم تتوانَ عن تقديم وعود بالإصلاح، لكنها عملياً عملت على استعادة السيطرة من خلال أطرها السياسية والاجتماعية التقليدية.
فشل القوى الثورية: خطاب خشبي وإقصاء الشارع الثوري
إحدى الإشكاليات الكبرى التي عانت منها القوى الثورية في السودان كانت جمود خطابها الفكري واللغة الخشبية التي سيطرت على طرحها السياسي. بالرغم من الطموح الكبير الذي حملته هذه القوى لإحداث تغيير جذري، إلا أن خطابها غالباً ما كان أسيرًا للتصورات الأيديولوجية الجامدة التي تسعى إلى فرض رؤية الجماعة الفكرية بدلاً من استلهام روح الشارع الثوري.
هذا الخطاب الخشبي، الذي يتسم بالإصرار على عمل الفكر الجماعي الخاص بالنخبة الثورية، أدى إلى عزل القوى الثورية عن الجماهير. في وقت كانت فيه الجماهير تبحث عن خطاب يعبر عن تطلعاتها اليومية واحتياجاتها المباشرة، ظل الخطاب الثوري محصورًا في نقاشات أيديولوجية مجردة لا تجد طريقها إلى الترجمة العملية.
عبد الله علي إبراهيم تناول هذا التناقض، مشيراً إلى أن الثورة ليست مجرد مشروع فكري للنخبة، بل يجب أن تكون فعلًا شعبيًا شاملاً يعبر عن طموحات الجماهير، وليس فقط عن الأطر النظرية للنخبة الثورية. إصرار القوى الثورية على فرض رؤيتها الفكرية الخاصة أدى إلى تجاهل المطالب الحقيقية للشارع، ما أضعف قدرتها على بناء قاعدة جماهيرية واسعة ومستدامة.
إضافة إلى ذلك، فإن هذا الإصرار على الطرح الأيديولوجي أدى إلى أزمة ثقة بين القوى الثورية والجماهير، حيث أصبحت الحركة الثورية في كثير من الأحيان تعبر عن مصالح النخبة فقط، بعيدًا عن واقع الشعب. هذا الخلل في التواصل والتفاعل مع الشارع الثوري مكن القوى التقليدية من استغلال الثغرات لصالحها، حيث استطاعت تقديم نفسها كبديل عملي وأكثر ارتباطًا بواقع الناس.
الانعكاسات المستقبلية
اليوم، تواجه القوى الثورية تحديًا حقيقيًا يتمثل في إعادة صياغة خطابها ليكون أكثر تماسكًا مع تطلعات الشارع السوداني. يجب أن يتجاوز الخطاب الأيديولوجي الجامد ليصبح خطابًا شموليًا يعبر عن حاجات الشعب، ويطرح مشاريع نهضوية ملموسة تسهم في تحسين حياة الناس على الأرض.
النجاح في تحقيق هذا التحول يعتمد على قدرة القوى الثورية على التخلص من لغة الخطاب الخشبي، والانتقال إلى خطاب يجمع بين الفكر والعمل، ويعيد ربط الحراك الثوري بجذوره الشعبية. السودان، بتعقيداته الاجتماعية والسياسية، يحتاج إلى قوى ثورية تمتلك رؤية تستند إلى الشارع الثوري، وتتجاوز الانقسامات الفكرية نحو مشروع وطني جامع وشامل.

zuhair.osman@aol.com  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: القوى التقلیدیة القوى الثوریة بین القوى خطاب ا

إقرأ أيضاً:

المعاناة المزدوجة للمرأة السودانية: العنف الجسدي والتحرش عبر الانترنت

يعرف صندوق الامم المتحدة للسكان العنف الرقمي القائم علي النوع الاجتماعي الذي تسهله التكنولوجيا، ويرتكب ويتفاقم من خلال استخدام المعلومات والاتصالات والتكنولوجيات أو المساحات الرقمية ضد شخص على أساس النوع الاجتماعي، وهو يُيسّرُ من خلال تصميم التكنولوجيات الحالية والتكنولوجيات

تقرير: حسن اسحق

يعرف صندوق الامم المتحدة للسكان العنف الرقمي القائم علي النوع الاجتماعي الذي تسهله التكنولوجيا، ويرتكب ويتفاقم من خلال استخدام المعلومات والاتصالات والتكنولوجيات أو المساحات الرقمية ضد شخص على أساس النوع الاجتماعي، وهو يُيسّرُ من خلال تصميم التكنولوجيات الحالية والتكنولوجيات الجديدة والناشئة أيضاً، الأجهزة والبرمجيات على حد سواء، واستخدامها، وهو آخذ في التطور باستمرار.

عواقب صحية متعلقة بالسلامة
وبحسب دراسة صندوق الامم المتحدة، ينطوي هذا النمط من العنف على عواقب كبيرة صحية ومتعلقة بالسلامة وأخرى سياسية واقتصادية على النساء والفتيات وعلى أسرهن ومجتمعاتهن وعلى المجتمع بأسره، وفي حين تمارس النساء والفتيات الرقابة الذاتية للتصدي للعنف القائم على النوع الاجتماعي الذي تيسّره التكنولوجيا، تُكمَّم أفواههن وتتعرض الديمقراطيات للمعاناة.
يجب التركيز علي نقطة كيف تواجه النساء في السودان معركة مزدوجة - العنف الجسدي،مثل العنف القائم على النوع الاجتماعي، والتحرش عبر الإنترنت، أثناء دفاعهن عن العدالة والمساواة.
للتركيز على المبادرات التي تقودها النساء والناشطات اللواتي يستخدمن المنصات الرقمية لمواجهة الكراهية وجهودهن للضغط من أجل تحقيق العدالة للناجيات من العنف القائم على النوع الاجتماعي.
بينما يعكف صندوق الأمم المتحدة للسكان على مكافحة العنف القائم على النوع الاجتماعي الذي تسهله التكنولوجيا بفاعلية من خلال تزويد الناجين والناجيات بخدمات الاستجابة متى وحيثما احتاجوا إليها، بما في ذلك التدابير الاجتماعية والصحية والقانونية وتدابير العدالة، كما يعمل الصندوق على تعزيز الوعي بالقضية بُغْيَة تمكين الناجين والناجيات ومناصرة زيادة المساءلة والتنظيم بما في ذلك من خلال صفحتنا التفاعلية.

عدم وجود ادوات لحماية الضحايا
في ورقة الثورة الرقمية للمرأة السودانية ورد الفعل العنيف للدكتورة نادية السقاف، تقول، لا يزال العنف الرقمي ضد المرأة غير مفهوم بشكل كامل، ويرجع ذلك جزئيا الي الحساسيات الثقافية، ونقص البيانات، وانخفاض استخدام للانترنت بشكل عام، ولكن مع تزايد استخدام النساء للانترنت تجد أن حالات العنف الرقمي تتزايد بشكل كبير.
تعترف نادية في ذات الوقت، لا توجد ادوات واليات كافية لحماية الضحايا، وتحسين امن النساء الشخصي مثل القوانين التي تحظر العنف الرقمي ضد النساء، مشيرة الي تعرض النساء العاملات في المجال العام مثل السياسات، والصحفيات الي عنف رقمي اكبر بسبب حساباتهن العامة الظاهرة للجميع وفقا لدراسة اجرتها هيئة الامم المتحدة للمرأة لعام 2020.

تعلق الغريق بالقشة
بينما تضيف اميرة عثمان رئيسة مبادرة لا لقهر النساء أن الحديث عن التحرش في وسائل التواصل الاجتماعي هي مثل ’’ تعلق الغريق بالقشة‘‘، هناك فتيات باحثات عن اخذ حقوقهن من المعتدي، لكن هناك معضلة توفير الادلة من جانب الضحية، والا تتحول المسألة الي اشانة السمعة، وتصبح الفتاة من معتدي عليها الي مدانة، والقوانين تطالب من تحرشوا بها، اثبات الواقعة، تري اميرة أن هذه مكشلة في حد ذاتها.

الحرب في السودان تقوم علي اجساد النساء
تقول اميرة أن في كثير من الاحيان هذه القضايا اشبه بالشخص الذي يستجير من الرمضاء بالنار، وتوضح ان هذه الجوانب، مشيرة الي وجود قوانين للتحرش، لكن الاجراءات التي توضع امام الضحية، لا تساعد في انصافها، في مثل هذه الاوضاع النساء والفتيات لا يستطعن حماية انفسهن.
تضيف اميرة أن قضية العنف الجسدي في السودان بسبب حالة الحرب التي تمر بها البلاد، وحقيقة هذه الحرب، انها تقوم علي اجساد النساء السودانيات، والعنف الممنهج من جانب قوات الدعم السريع والجيش السوداني، وبوابة هذه الحرب فتحت نوافذ للاستغلال الجنسي والجسدي علي مصرعيه.

استمرار التهديدات بالقتل
يؤكد مراقبون أن الناشطات والصحفيات في المجال العام يتعرض للمضايقات والتهديدات عبر الانترنت، في عام 2020 تلقت احدي الصحفيات تهديدات بالقتل علي منصات التواصل الاجتماعي، بعد حديثها العلني ضد العنف الجنسي والتحرش في السودان، علي الرغم من ابلاغ السلطات بالتهديدات، الا انها لم تحصل علي دعم يذكر ولم تتم محاسبة الجناة.
بينما تشير الدراسىة الي أن انتشار العنف ضد المرأة في السودان يرجع جزئيا الي الاعراف الاجتماعية الابوية في البلاد، والتي تديم عدم المساواة بين الجنسين والتمييز، واضافىة الي ذلك غياب الاطر القانونية والمؤسسية التي تحمي حقوق المرأة في المجال الرقمي، هو عامل اخر يساهم في ارتفاع انتشار العنف الرقمي ضد المرأة في السودان، والسياق القانوني المحيط بالعنف ضد المرأة في السودان معقد وغير ملائم.

استغلال صحفات النساء
تقول الاستاذة اقبال حسين في الفضاء الاسفيري هنامك صفحات عديدة مجهولة تعمل جاهده علي استغلال النساء من خلال التعرف عليهن اولا، وبعض الروابط التي تدعي توفير الفرص والمنح، ويتم استغلال البعض الاستيلاء علي صفحاتهم، ويسببوا المزيد من المضايقات والعنف النفسي وجنسي.
و يجب عدم غض الطرف عن العنف الاقتصادي، وايضا الهكرز يستغلوا النساء في الاوضاع الصعبة، والاستيلاء علي حساباتهم المالية، ويجب أن يكون هناك تدريب للنساء أن تكون هناك مهارات للحماية الرقمية، الانترنت شبكة كبيرة جدا، بها فوائد واضرار في نفس الوقت، التدريب يتيح لها فرصة تأمين التلفون، والصفحات الشخصية بطريقة احترافية.

تدريب المرأة في مجال الحماية الالكترونية
تؤكد الصحفية حبيبة يوسف أن المرأة السودانية لها دور كبير تلعبه في العديد من المجالات مجالات، خاصة بعد اندلاع حرب 15 ابريل 2023، وتناشد المنظمات أن توفر للنساء التدريبات الكافية في مجال الحماية الالكترونية، وكيفية التعامل مع الظواهر التي تسئ الي المرأة المنخرطة في العام السوداني.
تطالب حبيبة أن تكون هناك مبادرات تساهم في تطوير العمل النسوي في السودان في مثل هذه الظروف الحرجة، حتي ينعكس عملها علي المستوي الاجتماعي والثقافي، قضية التحرش علي المستويات، هي قضية تحتاج الي عمل كبير وجاد، لما لها من تاثير سلبي علي الفاعلات في المجال العام السوداني.

انفتاح المراة علي مواقع التواصل
وكذلك تقول الصحفية مودة حمد أن المرأة السودانية لتحرش بشكل كبير على السوشيال ميديا خاصة في الاونة الاخيرة نتيجة للانفتاح الكبير في الميديا وانتشار الفيديوھات عبر الريلز وفيديوھات التيك توك، فالانفتاح والعرض الجسدي الذي تقوم بھ المرأة بقصد او غير قصد عبر الحرية العالمية المتاحة صعد من لھجة التحرش اللفظي عبر الميديا فأصبحت المرأة محط تجريم امام اي مادة تقوم بنشرھا في الميديا حتى وان كانت بعيدة عن المحتوى الجسدي ..
مشيرة مودة كذلك الي خطاب الكراھية الذي تقوده اطراف الصراع جزء كبير منھا يتم توجيهه للنساء في السودان بشكل ممنھج خاصة تجاه السيدات الناشطات في مجال المجتمع المدني، والمغنيات والصحفيات وكل من لديھن نشاط بارز في دعم احد طرفي الصراع او دعم ايقاف الحرب.
فاللغة الكريھة التي توجه عبر السوشيال ميديا ازمت من الامر، وجعلت الكثير من النساء ينزوين عن قول رأيھن لكي لا يتعرضن لعنف لفظي وتحرش.

في الختام
يتبلور العنف القائم على النوع الاجتماعي الذي تسهله التكنولوجيا في أشكالٍ عدّة، بما في ذلك الابتزاز الجنسي، الابتزاز من خلال التهديد بنشر المعلومات أو الصور أو مقاطع الفيديو الجنسية، والإساءة القائمة على الصور، مشاركة الصور الحميمة دون تراض، والتشهير، نشر المعلومات الشخصية الخاصة.
والتنمر السيبراني، والتحرش الجنسي عبر شبكة الإنترنت، والمطاردة السيبرانية، والإغواء عبر شبكة الإنترنت لغرض الاعتداء الجنسي، والاختراق، وخطاب الكراهية، وانتحال الشخصية عبر شبكة الإنترنت، واستخدام التكنولوجيا لتحديد موقع الناجين من الاعتداء من أجل ممارسة مزيد من العنف، من بين العديد من الأشياء الأخرى.

 

ishaghassan13@gmail.com

   

مقالات مشابهة

  • مشاهد لقاعدة الحرس الثوري الإيراني التي هاجمت الاحتلال.. عشرات الصواريخ
  • لجنة المعلمين: 400 ألف طالب و طالبة حرموا من امتحانات الشهادة السودانية
  • الأسرة الثورية تُعرب عن استنكارها للتحرشات العدائية الفرنسية التي تستهدف الجزائر
  • اتفاقيات السلام السودانية (1972-2020)
  • تشخيص الذهنية السياسية السودانية والحلول الممكنة
  • المعاناة المزدوجة للمرأة السودانية: العنف الجسدي والتحرش عبر الانترنت
  • الشيخ حسين حازب : أدعو القوى السياسية أن تعلن السيد عبد الملك الحوثي قائدًا ومرجعيةً لليمن
  • السلاح خارج السيطرة: خطر المليشيات على سيادة الدولة السودانية
  • المصطلح في الثقافة السياسية السودانية
  • ليس الخطأ في الجولاني بل في القوى التي دعمته