الأمة وأهداف قوى الهيمنة والاستعمار
تاريخ النشر: 23rd, December 2024 GMT
في وطننا العربي الكبير كان هناك نوعان من الأنظمة، (أنظمة جمهورية) تحررت شعوبها من براثن الاستعمار والقهر الاجتماعي وسيطرة الأنظمة الرجعية والإقطاع، وهناك نوع آخر من الأنظمة هي (الأنظمة الملكية) التي قامت برعايتها قوى الاستعمار، وقد مُنحت هذه الأنظمة لنفسها حق الوصايا المطلقة على شعوبها، ومنحت نفسها حق تطويع شعوبها وتحويلهم إلى أتباع لدرجة ان هناك أنظمة ملكية صادرت هوية مواطنيها وحقهم في الانتماء الوطني وأطلقت على وطن بكل ما فيه من قدرات بشرية وإمكانيات مادية ومعنوية مسمى يكرس هيمنة الأسرة الحاكمة نموذج (السعودية) التي اسمها يخلد (أسرة آل سعود) وكأن البلاد ملكية خاصة لهذه الأسرة وأن لا وجود للشعب ولا هوية له.
في ذات السياق نرى أنظمة ملكية أخرى يقف فيها الجنرالات وقادة الجيش والأمن والوزراء محني الهامات أمام أطفال ونساء الأسرة المالكة التي تفرض قدسيتها على الشعب مع أن هناك علماء وقادة عظاماً ومفكرين وفلاسفة ينتمون للشعب يجدون أنفسهم مجبرين على (الركوع والانحناء) أمام الملك وأفراد الأسرة المالكة مع ان السجود لله وحده ولم يحدث أن ركع أو انحنى مسلم أمام خير خلق الله ورسوله الخاتم محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام وعلى آله..
يمكن القول أن وطننا العربي الكبير انقسم إلى قسمين قسم (جمهوري) تطلعت شعوبه للحرية والانعتاق من براثن العبودية للحاكم الفرد، وحلمت بالحرية والتقدم الاجتماعي، وأسقطت صفة (الألوهية) عن حكامها، بغض النظر عن محاولة البعض من الحكام تخليد أنفسهم من خلال السيطرة على السلطة، ولكن هذه السيطرة رغم كل عيوبها إلا أنها منحت شعوبها قدرا من الاستقرار والتقدم والتطور، بغض النظر عما آلت إليه الأوضاع في هذه الأنظمة التي واجهت المخططات الاستعمارية واستهدفت من قبل محاور التأثير الإقليمية والدولية، التي راحت تضع هذه الأنظمة تحت مجهر الاستهداف رغبة في تطويعها وفرض الوصاية عليها ، فيما القسم الآخر يتصل بأنظمة الحكم (الملكية) التي فرضت سيطرتها وسطوتها على شعوبها وصادرت حق شعوبها في التعبير عن قناعتهم وحقهم في ممارسة الحرية في كل ما يتصل بشؤون أوطانهم وقضاياهم الاجتماعية والحياتية، ومارست وتمارس بحق شعوبها كل صنوف القهر والقمع والاستبداد وأن جعلت من أوطانها (بازارات) تعرض فيها كل منتجات العالم وأحدثها متخذة من حياة الرفاهية والانفتاح أداة لتطويع وإخضاع شعوبها في ذات الوقت الذي منحت فيه قرارها السيادي للآخر الحضاري الذي منحها حمايته وجعلها تحت وصايته من خلال قواعده العسكرية وتحالفاته المقدسة معها..
على خلفية هذا الواقع العربي كان من الطبيعي أن تصطدم الأنظمة الجمهورية بالقوى الاستعمارية وقوى الهيمنة الباحثة عن مصالحها والحريصة على تطويع هذه الأنظمة وتطويع شعوبها أو تدجين تطلعاتهم في التقدم والتطور وصناعة مستقبل أوطانها وشعوبها، في ذات الوقت الذي فرضت فيه قوى الهيمنة والاستعمار وجودها وسيطرتها على الأنظمة الملكية العربية والتحكم بقدراتها وثرواتها ومصيرها ومستقبلها وجعلها في خدمة أهدافها الاستعمارية.
بيد أن أزمة أمتنا كامنة فيما لدى هذه الأمة من قدرات وإمكانيات بدءا من موقعها الجغرافي وسيطرتها على طرق الملاحة الدولية، إلى ما لديها من ثروات طبيعية منها ما اكتشف ومنها ما لايزل كامن في جوف الأرض، وبين الأنظمة الجمهورية والملكية يقف (الكيان الصهيوني) المزروع في قلب الجغرافية العربية والذي تستدعي حمايته حضور متواصل ويقظ للقوي الاستعمارية التي أوجدت هذا الكيان ليس لأنه ملكية قديمة لما يسمى (شعب الله المختار، وليس لأن فلسطين هي (أرض الميعاد) وفق الأساطير الصهيونية التي اتخذت من البعد التاريخي والديني مجرد شعارات الهدف منها السيطرة والتحكم بقدرات وإمكانيات الأمة التي خرجت منها رسالات السماء حاملة تعاليم الله وقوانينه وتشريعاته ومنها اختار الله رسله وأنبيائه وحملها رسائل التوحيد ونشرها على العالمين.
ويمكن القول أن المكانة التي منحها الله سبحانه وتعالى للأمة العربية وكرمها بأن اختار منها خاتم الأنبياء والمرسلين وأنزل القرآن الكريم بلغتها وجعلها (أمة وسطاء لتكون شاهدة على الناس ويكون الرسول عليها شهيدا).. هذا التكريم الرباني هو دافع قوى الشر والهيمنة لاستهداف الأمة وتمزيق قدراتها المادية والمعنوية والجغرافية، فما لدى الأمة من مقومات روحية ومادية جعلها هدفا لقوى الهيمنة والاستعمار التي تفتقد القدرات والمقومات المادية والروحية والمعنوية التي تمتلكها الأمة العربية والتي تخشاها قوى الهيمنة التي ترى في نهوض الأمة وتوحيد قدراتها خطرا يهددها ويهدد نفوذها ومكانتها الوجودية وعلى مختلف الصعد.
نعلم جيدا أن أمتنا وبعد انتشار راية التوحيد لتعم كل اصقاع الأرض، برزت (الحملات الصليبية التسع) التي قادتها الامبراطوريات الاستعمارية الغربية تحت راية (السيد المسيح عليه السلام) والهدف ليس الدفاع عن (المسيح) وقيمه وتعاليمه، بل كان الهدف هو ضرب العلاقة بين العرب مسلمين -ومسيحيين، ومحاولة استعمارية هدفها المتاجرة بمسيحيي الشرق من العرب وتوظيفهم ضد إخوانهم من المسلمين العرب بما يحقق أهدافها الاستعمارية، وحين فشلت هذه المحاولة وانتصرت إرادة الأمة وترسخت وحدة أبنائها في مقاومة الأطماع الاستعمارية، وكانت الحرب العالمية الثانية فاتحة الانطلاق نحو أمة عربية حرة مستقلة بعد تضحيات جسام قدمها أبناء الأمة، كان من الطبيعي أن تعيد قوى الهيمنة ترتيب أوراقها والبدء في مرحلة استعمارية أكثر تحضرا وأشد خطورة من سابقتها ومع بداية أحداث مرحلة منتصف القرن الماضي وانقسام الأمة بين أنظمة جمهورية وأخرى ملكية، قامت الأولى بإرادة ومباركة الشعوب، وقامت الثانية برعاية استعمارية وحماية دولية، عملت قوى الاستعمار والهيمنة على (شيطنة الأنظمة الجمهورية) والسعي لإفشال مشاريعها الوطنية والقومية وضرب كل محاولتها التقدم والارتقاء بشعوبها مستغلة الكثير من التناقضات الاجتماعية والسياسية داخل الأنظمة الجمهورية، في ذات الوقت راحت فيها قوى الهيمنة ترسخ وجود الأنظمة الملكية الدائرة في فلكها والمحمية من قبلها والتي وجدت لخدمتها وخدمة كيانها اللقيط في فلسطين..
المصدر: الثورة نت
إقرأ أيضاً:
الزحف الصيني التقني ومستقبل الهيمنة الأمريكية
تسابقت وسائلُ الإعلام العالمية في تناول الحدث الرقمي الأبرز في الأسبوع المنصرم الذي يتعلق بالمفاجأة الصينية المتمثّلة في نموذجها التوليدي «ديب سيك» «DeepSeek» المنافس للنماذج الأمريكية مثل «شات جي بي تي» و«جمناي»، ولم تكن المفاجأة في قدرات النموذج الصيني اللغوية والتحليلية فحسب بل في تكلفة تطويره التي لم تتجاوز 6 ملايين دولار -وفقَ تصريح شركة «ديب سيك»- في حين أن تكلفة تطوير النماذج الأمريكية وصلت إلى مئات المليارات من الدولارات؛ فأربك التفوّقُ الصيني شركاتِ التقنية الأمريكية العملاقة مثل «جوجل»، و«مايكروسوفت»، و«أوبن ايه آي»، وأركس قيمتها السوقية وكبدها خسائر باهظة أثارت حفيظة الحكومة الأمريكية؛ فأظهر الرئيس الأمريكي امتعاضه وأعاد تصعيد تهديداته للصين نتيجة زحفها السريع إلى عالم التقنية الذي يراه تهديدًا وجوديًا للهيمنة الأمريكية التقنية والاقتصادية والعسكرية. تجاوزت الأزمةُ حدودَ الامتعاض والخوف إلى مرحلة التشكيك الأمريكي بنزاهة الشركة الصينية -كما هو معتادٌ في كل معركة اقتصادية وصناعية مع الصين- المطوّرة للنموذج التوليدي عبر توجيه اتهام مباشر -غير مُثبت حتى اللحظة- من قبل شركة «أوبن ايه آي» إلى الشركة الصينية بأنها استغلت البيانات الخاصة بشركة «أوبن ايه آي» التي تستعملها لنموذجها التوليدي «شات جي بي تي» واستعملتها في نموذجها الصيني «ديب سيك»، وأنها تستعمل آلية تدريب النموذج الخاصة بالشركة الأمريكية -وفقَ تحقيق نشرته البي بي سي-، ويستند هذا الادعاء -حسب شركة «أوبن ايه آي»- إلى مبدأ استحالة تحقق تدريب للنموذج الصيني على بيانات كبيرة بتكلفة قليلة جدا جعلت منه ذا قدرات عالية منافسة للنماذج الأمريكية. في خضّم هذا الصراع الرقمي بين الصين والولايات المتحدة، رأى الرئيس الأمريكي -بجانب مخاوفه- أن هذا التفوق الصيني الجديد وزحفه الرقمي السريع ينبغي أن يكون بدايةَ استفاقة لقطاع التقنية الأمريكية، وهذا ما يذكّرنا بالمخاوف الأمريكية الوطنية المستمرة مع قوى كبرى منافسة مثل أزمة تدنّي مستويات التعليم الأمريكية في ثمانينيات القرن الماضي الذي جعلها تطلق تقريرها الشهير «أمة في خطر» الذي كان متعلقا بالصراع الأمريكي مع الاتحاد السوفييتي إبان الحرب الباردة بينهما.بعيدا عن مناكفات الصحافة وتفاعلها مع مثل هذا الحدث؛ فإن الحدث وتناوله الإعلامي -خصوصًا الأمريكي- لا يخلو من المبالغة التي تعكس مخاوفهم القديمة من التنين الصيني الذي سبق أن حذّر الخبراء الأمريكيون من مخاطر الزحف الصيني في جميع قطاعات الصناعة وقدرته على التهام الصناعة الأمريكية وسحق اقتصادها، وبالتالي قلب موازين القوة العالمية؛ لتكون الصين الدولة الأقوى في العالم، وحينها ما نراه من حماس إعلامي أمريكي بشأن النموذج التوليدي الصيني ليس إلا جزءًا من السردية الأمريكية المعادية للنمو الصيني؛ فعبر تجربة شخصية، وجدت أن النموذج الصيني في مستويات توليدية لغوية وتحليلية عالية، ولكن مستوياته -الحالية- لا تجعله متفوقا -بالشكل الذي صوّرته لنا التقارير الإعلامية- على النسخة المدفوعة لـ«شات جي بي تي»، في حين أن المقارنة عادلة مع نسخة «شات جي بي تي» المجانية من حيث تفوّق النموذج الصيني «المجاني» على نظيره الأمريكي «المجاني». لا أجد الصراع الأمريكي-الصيني بشأن ظهور النموذج الصيني إلا في نطاق سياسي واقتصادي يعكس السباق على الهيمنة الرقمية في العالم التي تشكّل العمود الفقري للاقتصاد العالمي في زمننا الحالي؛ فنحن في عصر رقمي يتصدّر الذكاء الاصطناعي ونماذجه المدهشة صدارة الاقتصاد والتفوّق العسكري، فيكفي أن تخرج لنا تقارير عن الحرب التي شنّها كيان الاحتلال على غزة موثّقة استعمالات حصرية غير معهودة لأسلحة دمار وقتل تعمل بالذكاء الاصطناعي.لا بد من الإقرار أننا دخلنا مرحلةً رقمية تتصاعد فيها الصناعات الرقمية بتباين أنواعها واستعمالاتها في كل قطاعات حياتنا، ولا يمكن أن نتصور -كما يريد الإعلام الأمريكي والغربي- أن الأنظمة الرقمية والذكاء الاصطناعي محصورة في نماذج توليدية مثل «شات جي بي تي» و«ديب سيك»، ولكن هناك أنظمة ذكية تعمل بواسطة خوارزميات الذكاء الاصطناعي أكبر قيمةً للمطورين وأصحاب القرار من الدول الكبرى مثل الولايات المتحدة والصين في جوانب يرونها تخدم مصالحهم الصناعية والاقتصادية والعسكرية، وفي حين لا تكون مخرجات هذه الأنظمة الذكية بالنسبة إلينا -العالم المتفرّج المستهلك- في غالبها إلا وبالا تأتي في صور لا نملك كثيرا من المعلومات عنها، ولكنها في صور حروب بيولوجية متطورة سريعة الانتشار والفتك، وفي صور «روبوتات» عسكرية قاتلة بأحجام صغيرة «نانوية» قادرة على الولوج إلى داخل أجسادنا، وحينها لا أجد أن الصراع بين الولايات المتحدة والصين في واقعه خاص بظهور النموذج التوليدي الصيني؛ فهذا صراع أعمق من نمطية النماذج التوليدية التي تأتي أخبارها ومناكفاتها لتسطيح الوعي المجتمعي العالمي وإبعاده عن ما هو أكثر أهمية وخطرا من هذه النماذج؛ فتشير التوقعاتُ العلمية -التي لا تظهر رصانتها ودقتها إلا في منشورات علمية صُلبة- أن الصراعات بين هذه الدول أكبر من ظاهرة سباق تطوير النماذج التوليدية؛ فيتمثّل السباق الرقمي في مظاهر رقمية متقدمة منها ما ذكرناه آنفا في النمو العسكري الذكي بما فيها السلاح البيولوجي والتطوّر التقني العسكري الفضائي؛ فالصراع الحقيقي صراع وجود يقود العالم بأسره إلى تشكيل نظامه الجديد الذي لا يُستبعد أن يكون صينيًا آجلًا أم عاجلًا.
د. معمر بن علي التوبي أكاديمي وباحث عُماني