بنوك "الأُفشور".. النظام السِري للثروة!
تاريخ النشر: 22nd, December 2024 GMT
علي الرئيسي **
"أعظم المُراقبين لكيفية تأثير المال على النَّاس وإفساد المؤسسات ليسوا- كقاعدة عامة- أولئك الذي يمتلكونه؛ بل هم أولئك الذين يعيشون ويعملون بالقرب منهم"، وفقًا لما أدركه الروائي الأمريكي الشهير إف. سكوت فيتزجيرالد قبل قرن من الزمان، وهذه الرؤية هي التي تُلهم عالمة الاجتماع بروك هارينجتون في كتابها الجديد اللاذع "الثروة الخفية والاستعمار الجديد".
في كتابها هذا، تحاول هارينجتون أن تُجيب على عدد من التساؤلات، فيما يتتبَّع الكِتاب استخدام الأثرياء لبنوك الأُفشور (بنوك خارجية بدون ضرائب ولا تخضع للرقابة الدولية) لتجنب الضرائب، والالتفاف على القيود المالية، وتجنب العواقب القانونية، و"تقويض الديمقراطية، فضلًا عن الرأسمالية" في هذه العملية، كما تقول المؤلفة.
وهذا بدوره يقودها إلى منطقة الأُفشور الغامضة للغاية، وهو عالم يضم كل شيء من الشركات المجهولة في ديلاوير إلى "الملاذات المالية الطرفية" مثل جزر كوك وبنما وجزر الباهاما، حيث يتألف جزء كبير من الاقتصاد من "مساعدة الأجانب الأثرياء على انتهاك قوانين بلدانهم". ويقدر الخبير الاقتصادي جابرييل زوكمان أن إجمالي الثروة الخارجية تمثل 10% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي وأن هذا التهرُّب الضريبي المؤسسي يكلف 200 مليار دولار من العائدات العالمية سنويًا.
لا شك أن هذه المسألة تحتاج بشدة إلى دراسات علمية؛ فالجميع، من القِلة الحاكمة في روسيا إلى الطغاة في العالم الثالث، يستغلون عالم المال السري المتنامي باستمرار، والذي يتألف من شركات وهمية مجهولة الهوية وتفسيرات غامضة لقوانين غير واضحة. وتساعد مجموعة من المحتالين من الحكومات والمحامين والمحاسبين أغنى الرجال والنساء في العالم في إخفاء أموالهم، ليس فقط عن مأموري الضرائب؛ بل وأيضًا عن المنافسين السياسيين ورجال الأعمال، ناهيك عن الزوج السابق في بعض الأحيان.
لكن هارينجتون سرعان ما تصطدم بالجدران الفولاذية في محاولتها لمعرفة المزيد عن هذا النظام السِريّ للثروة، إلى أن تتذكر شيئًا لاحظته لأول مرة عن العائلات الغنية التي واجهتها عندما كانت طفلة؛ إذ إنهم نادرًا ما يفعلون أي شيء لأنفسهم. إنهم يحتاجون إلى المساعدة، حتى في شيء عادي مثل تغيير مصباح كهربائي. وينطبق نفس الشيء عندما يتعلق الأمر بشيء مُهم مثل إدارة واستثمار الأموال. لذا تحصل هارينجتون على اعتماد في إدارة الثروات، وتتخصص في هدفها: بنوك الأُفشور. لاحقًا تدرس المؤلفة الأثرياء من خلال دراسة مستشاريهم الماليين ومُمكِّنيهم.
وبينما كانت تُجري بحثًا ميدانيًا في هذا النظام، كانت التبريرات التي تسمعها لا حصر لها. فقد تم تقديم التمويل الخارجي إلى الدول المُستقلة حديثًا بعد الحرب العالمية الثانية كوسيلة للازدهار المالي مع التمسُّك بأسيادهم السابقين. ويمكننا أن نُطلق على ذلك شكلًا من أشكال "مقاومة ما بعد الاستعمار". ويُنكر العديد من مديري الثروات الذين يُمكِّنون التمويل الخارجي، خطورةَ ما يفعلونه، وإن لم يكن كلهم! ويقول أحد هؤلاء المسؤولين الماليين لهارينجتون: "معظم ما نقوم به هو أعمال ورقية"، لكن هذا مجرد نوع آخر من اختلاق الأعذار؛ فالأمر لا يتعلق فقط بالأعمال الورقية.
لكن على النقيض من ذلك، فإن هؤلاء الرجال المتناقضين أحيانًا، ولكنهم متباهون في كثير من الأحيان، يُسهِّلون عن غير قصد تدمير الاقتصادات، ناهيك عن الأنظمة السياسية، في جميع أنحاء العالم. ويتعاطف عدد منهم أكثر مع عملائهم الأثرياء. ويقول أحدهم: "إن الديمقراطية الاجتماعية تخلق مطالب كبيرة للغاية على خالقي الثروة". والأموال المفقودة الناتجة (على الأقل من خزائن الدولة) ليست جزءًا صغيرًا من الانهيار المستمر لكل من خدماتنا العامة وثقافتنا السياسية. وكقاعدة عامة، تتراجع الديمقراطية مع ارتفاع التفاوت في الثروة، كما إنها تُشوِّه اقتصاد الحياة اليومية. ولقد تسببت الأموال المجهولة في ارتفاع قيمة كل شيء من الفنون الجميلة إلى العقارات؛ حيث يلجأ الأثرياء إلى تبييض أموالهم في أصول بديلة وفي شقق سكنية في مدن مثل نيويورك ولندن.
وفي حين يستفيد الأغنياء بشكل كبير، فإنَّ هذا لا يساعد حقًا سكان الملاذات الضريبية العالمية المتنوعة. ونادرًا ما يتدفق النقد إليهم. وبدلًا من ذلك، يستمر العديد منهم في العيش في فقر وشبه فقر، حتى مع الازدراء العلني لقوانين الضرائب في الدول الأخرى؛ مما يؤدي إلى زيادة الازدراء لقوانينهم الخاصة، وكل شيء يزداد من الفساد البسيط إلى الجريمة العنيفة. ويقول صيّاد في جزر كوك لهارينجتون: "الجميع يطلقون علينا جزر التحايل الآن"، بينما كانت مدينة بنما، وهي وجهة مفضلة أخرى، في وقت ما، وبها واحدة من أعلى معدلات الجريمة في العالم.
وتضيف هارينجتون: "إن كان هذا يبدو مألوفًا بعض الشيء، ذلك أن مصطلح "الأُفشور" في حد ذاته يُشكِّل تسمية خاطئة إلى حد ما؛ فالولايات المتحدة هي الوجهة الأولى لأولئك الذين يرغبون في إخفاء الأموال، وذلك بفضل بعض فضائلنا الوطنية مثل: التراخي التنظيمي، والفساد القانوني. فلماذا نكلف أنفسنا عناء التعامل مع جزر الباهاما إذا كانت شركة ديلاوير السرية كافية؟".
وتمضي تقول: "إن هذا التكتم مُسبِّب للتآكل بطريقة أخرى أيضًا؛ ذلك أن نفس القوانين وأساليب الاستثمار المالي التي تُمكِّن من التهرب الضريبي مسؤولة أيضًا إلى حد كبير عن تدفق الأموال المشبوهة إلى سياستنا. وهذا سبب آخر يجعلنا نتمتع بأفضل حكومة يمكن شراؤها بالمال، لصالح النخبة الثرية. فقد وجدت دراسة أجراها قبل عقد من الزمان مارتن جيلينز- الذي كان يعمل آنذاك في جامعة برينستون، وبنجامين بيج من جامعة نورث وسترن- أن تصرفات وسياسات الحكومة الأمريكية أكثر استجابةً لمشاعر الأثرياء من الأغلبية. والواقع أن التوجه المناهض للديمقراطية الذي تتسم به التمويلات الخارجية يقدم لنا سببًا وراء ذلك."
الواقع أن كتاب "الأُفشور" ليس أول كتاب لهارينجتون حول هذا الموضوع، فقد صدر لها كتاب في عام 2016 تحت عنوان "رأس المال بلا حدود.. مديرو الثروات والواحد في المائة"، لكن كتابها الأخير يستفيد مما يقرب من عقد من الزمان من المعرفة والأحداث. وقد دفع انتخاب دونالد ترامب لرئاسة الولايات المتحدة، كثيرين إلى التأمل في مقدار ثروته التي لم تأت من استراتيجيات الاستثمار الذكية؛ بل من تحويل أبراجه السكنية التي تحمل اسمه إلى ساحة انتظار لثروات الأوليجاركيين (الأقلية الثرية) الروس الهائلة. كما كشفت تسريبات مثل "أوراق بنما" و"أوراق الجنة" للعامة تفاصيلَ مُروِّعة حول كيف أخفى الجميع- من الملكة إليزابيث إلى كبار المسؤولين المنتخبين- أموالهم في ترتيبات مالية خارجية مُعقَّدة. ونحن نعرف الآن أكثر كثيرًا مما اعتدنا عليه عن عواقب بنوك الأُفشور، ولدى هارينجتون المزيد من الأسرار التي تريد أن ترويها لنا. لكن هذا ما يزال غير كافٍ!!
** باحث في قضايا الاقتصاد والتنمية
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
الجماعة التي اختطفت الثورة.. الإخوان سجل حافل من الإجرام
دأبت جماعة الإخوان على الخيانة ونقض العهود والتأمر على مصر وإعلاء مصلحتها الشخصية فوق أي اعتبار، واتخذت من العنف والاغتيالات والتفجيرات منهجا متأصلا في عقيدتها وفكرها.
واختطفت جماعة الإخوان ثورة 25 يناير 2011 وتصدرت المشهد وجنت الثمار، ولم تضع في اعتبارها الشعب الذي خرج للمطالبة بـ"العيش، الحرية، العدالة الاجتماعية".
بداية من مؤسس الجماعة يد حسن البنا مرورا بأفكار سيد قطب حتى الجيل الجديد اتضح أن أفكارهم دموية، مبررين ذلك بالضرورة القصوى للوصول إلى السلطة، حيث قال البنا في أفكاره: "من حق الإخوان شن حرب لا هوادة فيها على كل زعيم أو رئيس لا يعمل على إقامة نظام سياسي يتوافق مع أيديولوجية التنظيم".
عملت الجماعة على اغتيال خصومها دون الدخول في أي مناقشة أو حوار، فمن يعارض أفكارهم يكون جزأه القتل والتخوين، حيث نفّذت قائمة اغتيالات للشخصيات المصرية وكبار رجال الدولة في منتصف الأربعينيات من القرن الماضي.
بدأت الجماعة باغتيال أحمد ماهر، رئيس وزراء مصر في عام 1945 في قاعة البرلمان، ثم المستشار والقاضي أحمد الخازندار 1948، وبعده بأشهر لقي رئيس الوزراء محمود فهمي النُّقراشي مصرعه في بهو وزارة الدَّاخلية.
وحاولت الجماعة في 26 فبراير 1954 اغتيال الرئيس جمال عبدالناصر، أثناء إلقائه خطابًا بميدان المنشية في الإسكندرية، بمناسبة توقيع اتفاقية الجلاء، وتورطوا في اغتيال الرئيس الراحل أنور السادات في حادثة المنصة الشهيرة أثناء العرض العسكري في 6 أكتوبر 1981.
ويعتبر اغتيال النائب العام هشام بركات واستتشهاده على يد جماعة الإخوان في يونيو 2015 عن طريق تفجير موكبه من أبرز الحوادث الإجرامية في سجل الإخوان الدموي، بالإضافة إلى حادث الواحات في أكتوبر 2017 ما أدى الى استشهاد 16 ضابطا وجنديا.
وكان اغتيال المقدم محمد مبروك في 18 نوفمبر 2013 لدوره البارز في الكشف عن مخططهم، إضافة باغتيال العميد عادل رجائي في 22 أكتوبر 2016 أمام منزله بمدينة العبور، وغيرهما من الجرائم، وكلها شواهد لا تُنسى على جرائم الإخوان، وإدانة دامغة لأحقر جماعات الإرهاب والتجارة بالدين.
شهدت مصر سنة كبيسة إبان حكم جماعة الإخوان وتولي محمد مرسي الحكم في 2012، حيث انهار الاقتصاد وتوترت العلاقات الدبلوماسية بين مصر وعدد من الدول وحدث انشقاق وظهرت الفتنة بين أطياف المجتمع، وتقلد كل من عضو في جماعة الإخوان المناصب العليا في المؤسسات الحكومية، بل وتفاقمت الأزمة في ملف الطاقة والكهرباء، ناهيك عن تدهور ملف الصحة وسوء المستشفيات ومراكز العلاج.
وأشعل الإخوان النار في البلاد وأطلقوا موجة إرهاب عارمة ضد الوطن والمواطنين بعد خروج الشعب عليهم في ثورة 30 يونيو في 2013،، وما زالوا يبثون حتى اليوم الشائعات عبر منابرهم الإعلامية الفاشلة.
لم تسلم دور العبادة من جرائم الجماعة الإرهابية، فطالت نارهم المنشآت العامة والخدمية وأقسام الشرطة ورجال الأمن والقوات المسلحة، فتم إحراق العديد من المساجد على رأسها رابعة، بالإضافة إلى اقتحامهم لمسجد الفتح في رمسيس دون وضع حرمة لبيوت الله، وكذا إحراق الكنائيس في المنيا وتفجير كنيسة العباسية وغيرها.
كان اعتصام الإخوان في رابعة العدوية ونهضة مصر بؤرة لتفريخ الإرهابيين، يشهدان على جرائم عديدة من القتل والتنكيل بالأبرياء، وإلى محاربة الدولة، وإطلاق حربهم الطويلة على الدولة لسنوات لاحقة.
إطلاق رصاص وإلقاء عبوات مولوتوف، ومئات التفجيرات وعمليات الاغتيال، ودماء لم يتورع أعضاء التعظيم عن إهدارها، في مكتب الإرشاد إلى محيط قصر الاتحادية، ومن رابعة والنهضة، وأمام الحرس الجمهوري وعند المنصة ومن داخل مسجد الفتح في رمسيس.
ومن الأحداث العالقة في ذاكرة المصريين جراء أعمال الإخوان الإرهابية، اقتحام وحرق قسم كرداسة واستشهاد 11 ضابط ومجند في أغسطس 2013، وتفجير مديرية أمن الدقهلية في 24 ديسمبر 2013 ما أسفر عن استشهاد 16 شخصا وإصابة 100 آخرين، وتفجير مديرية أمن القاهرة في 24 يناير 2014 واستشهاد 4 أشخاص وإصابة العشرات، وكذلك تفجير معهد الأورام.