عربي21:
2025-03-12@01:23:04 GMT

تهافت مفكري العرب

تاريخ النشر: 18th, August 2023 GMT

تبدو محيّرة إلى أبعد حدود الظاهرة التي شهدتها السنوات الأخيرة في عوالم الفكر والثقافة والإعلام، والتي تتمثل بانحدار أكاديميين كانت لهم بصْمتهم في انفتاح الثقافة السياسية العربية على أحدث ما أنتجته مدارس السياسة في العالم، وما انطوت عليه من قيم عصرية في نظم الحكم والعلاقة بين الشعوب وحكامها، بما تضمنه ذلك من نقد، وإن كان غير مباشر، لبنى الحكم في العالم العربي وأساليبها، بما في ذلك الفساد، في استمرار العطالة العربية وإضعاف الوحدة الوطنية وتدمير كل فر التطور.



المفارقة العجيبة، أن ذات النخبة التي كتبت وترجمت ونقلت، والتي كان لها دور في صناعة توجهات جزء كبير من الشباب العربي، الرافضة للاستبداد والمطالبة بالتغيير، قد جرى استخدامها من قبل الثورات المضادة، لإعادة توجيه التفكير العربي ضد الثورات وقيمها، عبر تحميل مرحلة الربيع العربي والفاعلين المؤثرين فيها، مسؤولية الأوضاع التي آلت إليها مرحلة التآمر على ثورات الربيع العربي، من فقر وفساد وانهيارات اقتصادية وارتفاع معدلات الجريمة وتهتك نسائج الوحدة الوطنية، دون ربط منطقي بين هذه النتائج والمعطيات المتوفرة.

يمارس هؤلاء نوعا من البلطجة المعرفية، بلبوس رغائبي عاطفي إلى أبعد الحدود، تخالف ما سبق أن تناولته أبحاثهم في السياسات العامة والمقارنة، وتحليلهم للأسباب التي تعوّق تطور المجتمعات العربية
يمارس هؤلاء نوعا من البلطجة المعرفية، بلبوس رغائبي عاطفي إلى أبعد الحدود، تخالف ما سبق أن تناولته أبحاثهم في السياسات العامة والمقارنة، وتحليلهم للأسباب التي تعوّق تطور المجتمعات العربية، عبر استخلاصهم للنظريات السياسية الحديثة وما أنتجته الأكاديميات الغربية من مناهج بحث متطورة قادرة على قراءة الواقع بفكر موضوعي علمي لا ينحاز سوى للحقائق.

تنتشر كتابات هؤلاء على طيف واسع من المنابر الإعلامية، من صحف ومواقع الكترونية وحتى مراكز بحث ودراسات، وليس من الصعب اكتشاف وجود التطابق والتشابه بينها إلى حد بعيد، من خلال تهجمها على فواعل مرحلة الربيع العربي وإتهام الخارج بالمؤامرة على الأنظمة العربية، وربط الحراكات العربية بمؤامرات خارجية، ونزع أي صفة وطنية عنها. واللافت أن مستوى التحليل في هذه المخرجات" الإبداعية" وصل إلى حد التسطيح والسفه، في سبيل إثبات صحة المقولات والفرضيات التي يحاول هؤلاء ترويجها وحشرها عنوة في العقول العربية، الأمر الذي يدعو للتأسي على الحال الذي وصلت له هذه النخب.

من بديهيات علم السياسة أن نخب الحكم، بالدرجة الأساسية، هي المسؤولة عن إدارة الأزمات التي تتعرض لها البلاد، وتصبح هذه المسؤولية أكبر في بلاد تتفرد بها فئة معينة في إدارة الحكم، حيث تكون نسبة مشاركة المجتمع المدني والقوى السياسية والأحزاب والنقابات في صناعة القرار متدنية إلى أبعد الحدود، أو غير موجودة في الأصل، وبالتالي فإن مخرجات إدارة الأزمة تقع على مسؤولية هذه النخب، من خلال تبنيها للخيارات المناسبة لإدارة الأزمة والتي قد تشتمل على تقديم تنازلات معينة للمجتمع، يمكن من خلالها إعادة المجتمع إلى حالة الاستقرار. وفي هذه الحالة تتبع أنظمة الحكم ما يسمى بسياسة "إدارة التوازنات" بين الدولة والمجتمع؛ حتى لا يتزعزع الاستقرار وتسقط هيبة الدولة أو يُصار إلى سحق المجتمع ودفعه عنوة إلى السلبية واللا فعالية، وهي نتيجة كارثية على مستقبل العلاقة بين الشعب والسلطة.

ماذا فعلت الأنظمة العربية في إدارتها للأزمات، التي باعتراف نخب الثقافة العربية (قبل أن ترتد على أفكارها) أنها هي التي صنعتها عبر سياساتها غير المتلائمة مع السياسة؟ اتبعت خيارا وحيدا وهو خيار القمع، بدون أي مبرر منطقي، وأفقرت مؤسسات الدولة ودمرت النسائج المجتمعية وزجت بملايين الشعوب في السجون، وقتلت أعدادا يصعب إحصاؤها، ودفعت القوى الحية، وخاصة الشباب والمهنيين والأكاديميين، إلى الغرب بعيدا عن أوطانها، ثم رسمت سياسات أقل ما يقال فيها إنها تؤبّد الأوضاع الكارثية في المجتمعات العربية، خاضت الأزمة بمنطق إما قاتل أو مقتول، إما ان أحكمكم أو أقتلكم، أو نحرق البلد ونقتل الولد، هذا جوهر إدارة الأزمة الذي ابتدعته الأنظمة العربية.

الجواب الأول، أن ما قدمه هؤلاء من أفكار وأنماط سياسية لم يكن الهدف منها الاطلاع على منتجات علوم السياسة والاجتماع العصرية وتشربها من قبل نظم الحكم والفاعلين السياسيين والاجتماعيين، بقدر ما كانت عملية استعراض معرفية لا هدف آخر لها، اُريدَ منها تحقيق مكانة علمية ومعرفية، وأن هؤلاء في الأغلب لم يتوقعوا أصلا أن الشعوب العربية قد تثور يوما للمطالبة بتغيير قيم السياسة وبنى الحكم وطبيعة العلاقات بين السلطة والشعب. والسبب الثاني: أن هؤلاء باتوا جزءا من نسيج الأنظمة الحاكمة
وبعد، هل يغيب هذا المشهد عن عقول مفكري الأزمة اثناء محاكمتهم لمخرجاتها وتداعياتها المهلكة، من الغريب أن من تخصص في "أنظمة الحكم" و"علم الاجتماع السياسي" و" فلسفة السياسة" و"السياسات المقارنة" أن يقرأ المشهد العربي بمنطق الاتهام والتخوين والاتكاء على نظرية المؤامرة؛ اتهام الشعوب بالمؤامرة على دولها وخيانة حاضرها ومستقبلها، ومن الغريب أيضا أن ينعزل هؤلاء عن كامل هموم وأوجاع شعوبهم، ولا يكتفون بذلك، بل يصرون على نكأ جرح الشعوب بمنطق أقرب إلى الشماتة والتشفي.

السؤال الآن: لماذا هذا التحوّل المذهل في مواقف هؤلاء عن قيم السياسة، كما سبق وأن أوصلوها للعقل العربي؟ لا يوجد سوى إجابتان لهذا السؤال: الجواب الأول، أن ما قدمه هؤلاء من أفكار وأنماط سياسية لم يكن الهدف منها الاطلاع على منتجات علوم السياسة والاجتماع العصرية وتشربها من قبل نظم الحكم والفاعلين السياسيين والاجتماعيين، بقدر ما كانت عملية استعراض معرفية لا هدف آخر لها، اُريدَ منها تحقيق مكانة علمية ومعرفية، وأن هؤلاء في الأغلب لم يتوقعوا أصلا أن الشعوب العربية قد تثور يوما للمطالبة بتغيير قيم السياسة وبنى الحكم وطبيعة العلاقات بين السلطة والشعب. والسبب الثاني: أن هؤلاء باتوا جزءا من نسيج الأنظمة الحاكمة في المنطقة ومن الطبيعي أن يدافعوا عن امتيازاتهم وأوضاعهم الجديدة.

twitter.com/ghazidahman1

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه الفكر الفساد القمع الفساد الثورة الاستبداد الفكر القمع مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة إلى أبعد أن هؤلاء

إقرأ أيضاً:

الساحل السوري وانكشاف الزيف الإنساني

يمانيون../
تتوارد الأخبار السوريّة المفجعة: صور ومشاهد يندى لها جبين الإنسانية، مجازر تتنقّل بحسب خطوات القتلة، إعدامات ميدانية مشهودة والتّهمة “علويّ” أو “مسيحيّ”. الساحل السوري أصبح بركة دم مسفوك بسيف التكفير والإرهاب المتعدّد الجنسيات. أطفال ونساء وعُجّز ورجال يتعرّضون لأبشع أنواع التعذيب قُبيل القتل. كلّ هذا يجري في ما يواصل المبتهجون بسقوط النظام السابق رقصهم فوق جثث ضحايا إرهاب النظام الحالي، وينكشف زيف إنسانيّتهم للمرّة الألف: هؤلاء الذين بكوا بحرقة لأجل سجناء صيدنايا يصفقون اليوم لمجازر الإبادة التي تُرتكب بحقّ الأبرياء فقط لأنّ القاتل لا يعادي “أميركا”. هذه الإنسانية المشوّهة العاملة بخدمة الشرّ، هي نفسها التي اختلقت ألف ذريعة تبيح للصهيوني أن يدوس بدباباته فوق أجساد الفلسطينيين في غزّة.

بثّت “العربية” يوم أمس تقريرًا يتحدّث عن توزيع “هدايا رمضانية” على سكان الساحل السوري، ولم يصلها تعداد الضحايا الذين ملؤوا الشوارع والبيوت مغرقين بدمهم. للوهلة الأولى، يشعر المتلقي أنّ تقريرًا كهذا هو اشتراك فعلي بالقتل، فمحاولة التستّر على الجريمة جريمة أيضًا، فما حال محاولة التعتيم التّام على مجزرة لا يوجد في معجم توصيف الوحشية مفردة تفيها وحشيّتها.

وكما العربية، دول وشخصيّات رسمية، عادت سورية وحاربتها طوال سنين بذريعة أنّ النظام فيها يقمع شعبه، تغضّ طرفها اليوم عن جريمة متواصلة، يستهدف فيها القاتل السوريين العُزّل في بيوتهم وأحيائهم، ويستقدم مرتزقة متوحشين من كلّ أصقاع الأرض كي يرتكبوا كلّ ما يمكن من فِعال مجرمة: سبي واغتصاب وتنكيل وإذلال وقتل بمختلف الطرق وبعد القتل تنكيل بالجثث وانتهاك لكل الحرمات!

يتحدّث القتلة عن فعالهم بفخر في فيديوهات لا يخجلون من بثّها على منصات التواصل، ويتبجّح مؤيدوهم بما يسمّونه انتقامًا من “فلول النظام السابق”. لنسلّم جدلًا أنّ هؤلاء الضحايا وبالأخصّ الأطفال هم من مؤيّدي النظام السابق، هل يبيح هذا الأمر التنكيل بهم وقتلهم؟! دعنا من كلّ الشعارات الزائفة التي تمجّد الديمقراطية وحريّة الفكر والاعتقاد، ما الذي قد يبرّر هذا المستوى من العنف، هذا الإرهاب، هذا التطهير الديني والمذهبي؟ وما الذي قد يدفع بالأنظمة والدّول للسكوت عنه بهذا الشكل الذي لا يمكن إلّا أن يكون اشتراكًا في الجريمة؟

وللمفارقة، حين يقوم “مسلم” أو “عربي” أو “ذو أصول عربية” بارتكاب جريمة قتل في الغرب، ولو بخلفية جنائية، يتمّ تحويلها إلى جريمة إرهابية بخلفية دينية أو مذهبية، وتسارع دول وسفارات لتصدير بيانات إدانة وشجب، ويتسابق عربٌ ومسلمون وذوو أصول عربية للتبرّؤ من فعلة الفاعل، وكذلك تسارع منظمات حقوقية لتبرير الإسلاموفوبيا ومداواة المجروحة قلوبهم من المشهد. أما أمام المشهد السوريّ الدامي والواضح، يصمت بعض هؤلاء متجاهلًا المشهد، وبعضهم الآخر يصفّق له أو يجتهد في صناعة المبرّرات والذرائع.

تحدّثت “فوكس نيوز” عن أربعة آلاف قتيل من العلويين والشيعة والمسيحيين في الساحل السوري خلال اليومين الماضيين، وأعلن المرصد السوري لحقوق الإنسان عن تخطّي عدد الضحايا للألف بين نساء ورجال وأطفال وعجّز. تمتلأ منصّات التواصل بالتسجيلات والفيديوهات المرعبة. وتتردّد أصداء نداءات الاستغاثة وأنّات الاحتضار من شوارع وبيوت الساحل السوري؛ ويصمت الذين ملؤوا الدنيا ضجيجًا في كلّ مرّة تحدّثوا فيها عن النظام السوري السابق! يصمت المنادون بحقوق الإنسان، والمحاضرون بحريّة المعتقد، والمبتهجون بتحرير السجناء مهما كان نوع الارتكاب الذي أدى إلى سجنهم.. يصمت الخطباء الذين كانوا يبلّلون المنابر بدموعهم إشفاقًا على “الأبرياء” في إدلب مثلًا.. يصمت الذين استخدموا كلّ وسائل الإعلام كي يدينوا ارتكابات النظام بحقّ الجماعات التكفيرية على مدى سنوات.. يصمت كلّ هؤلاء، في ما يتدفّق الدم المظلوم المستباح بخلفية دينية ومذهبية.. ما نشاهده اليوم هو ليس مجرّد انكشاف إنسانية مزيّفة وشعارات كاذبة.. ما نشاهده من صمت حيال الأحداث الدامية هذه هو اشتراك ميدانيّ بجريمة تطهير وإبادة، وفي مكان ما قد يكون تحريضًا عليها.
في الساحل السوريّ الآن، رائحة الدم المسفوك أقوى من كلّ الكلمات.. وأقوى من الصمت التعتيميّ والسكوت الذي يدفع القاتل إلى مواصلة جريمته.

موقع العهد الإخباري – ليلى عماشا

مقالات مشابهة

  • محمد بن حم يستقبل وفداً دبلوماسياً وأكاديمياً
  • محمد بن حم يستقبل وفدًا دبلوماسيًا وأكاديميًا
  • دكتوراه في الجهل
  • راتكليف ينتقد بعض نجوم يونايتد
  • صفعة على الوجه.. هؤلاء ندموا لتصويتهم لصالح ترامب
  • لبنان في مركز مُتقدّم.. إليكم ترتيب الدول العربية التي لديها نساء متعلمات أكثر من رجالها
  • الساحل السوري وانكشاف الزيف الإنساني
  • وزارة الإعلام: ننوه إلى وسائل الإعلام العربية والغربية التعامل بدقة ومصداقية مع الأحداث الجارية وعدم الوقوع في فخاخ الشائعات التي يتم ضخها على مواقع التواصل الاجتماعي بشكل متصاعد وممنهج
  • هالة المثالية وهم الرموز
  • في رمضان تختلف قصص الشعوب وعاداتهم.. تعرف على أبرزها