سوق الغزل.. رحلة عبر الزمن ومزيج من التراث والتجارة في قلب بغداد
تاريخ النشر: 21st, December 2024 GMT
سوق الغزل ليس مجرد مكان تقليدي للبيع والشراء، بل يمثل جزءًا نابضًا من الاقتصاد الشعبي في بغداد، ويعكس تاريخا عريقا وأصالة متجذرة في عمق الحضارة العراقية.
يرجع تاريخ سوق الغزل إلى العصر العباسي، تحديدا في عهد الخليفة المستنصر بالله، الذي أسس الجانب الشرقي من بغداد العباسية (الرصافة) وربطها بجانب الكرخ عبر جسر متحرك مصنوع من قوارب متصلة ببعضها.
وقد نشأ السوق حول مسجد عباسي يُعرف بـ"جامع الخلفاء"، الذي اشتهر بمنارته الشاهقة التي كانت تعد الأعلى في بغداد آنذاك.
على مر العصور، ظل السوق ينبض بالحياة، حيث كان ملتقى للتجار والزبائن لتبادل السلع والبضائع. بدأ سوقًا للغزل والصوف، ثم تحول تدريجيًا إلى سوق للحيوانات والطيور، ليصبح اليوم مقصدًا لمحبي التراث والتاريخ، الذين يجدون فيه عبق الماضي وروح الأصالة.
رواد من دول عربية وأجنبيةحسين الحسيني، صاحب أحد محال بيع الحيوانات في السوق، أكد على أهمية الحفاظ على تراثية السوق وديمومته من خلال اهتمام أكبر من الجهات المعنية بترتيبه وتوسعة الشارع الرئيسي له.
في حديثه لـ"الجزيرة نت"، أشار الحسيني إلى أن سوق الغزل يعود تاريخه إلى أقدم الأسواق في بغداد، حيث كان يشتهر بصناعة وبيع السجاد والأصواف.
إعلانوأوضح أنه في كل يوم جمعة، تشهد السوق وقفة كبيرة من جميع المحافظات العراقية وحتى من دول أخرى مثل الصين وقطر وغيرها، حيث يتم بيع وشراء جميع أنواع الحيوانات التي يتم تربيتها في المنازل أو من قبل هواة جمع الحيوانات النادرة.
من الغزل والنسيج إلى بيع الحيواناتمن جانبه، قال محمد علي، صاحب أحد محال بيع الحيوانات في السوق، إن السوق تأسس منذ زمن الدولة العباسية، مبينا أن السوق شهد تطورا عمرانيا ملحوظا من خلال بناء محال وأبنية منذ الزمن الملكي.
وأوضح علي في حديثه لـ"الجزيرة نت" أن السوق يضم جميع أنواع الحيوانات والطيور، بما في ذلك الطيور المهاجرة والصقور والشاهين، بالإضافة إلى الأفاعي بأصنافها المختلفة مثل العربيد والأرقم الصحراوي والبترا الزراعية، وهي أنواع قليلة جدًا ولا تتواجد إلا في سوق الغزل.
وأكد علي ضرورة توسعة مكان السوق للحفاظ على هويته وشهرته، حيث يعاني السوق من زحام شديد ويرتاده الناس من جميع المحافظات العراقية وحتى الدول الخليجية.
ويأمل الحسيني وعلي وغيرهما من تجار السوق في رؤية اهتمام أكبر من الجهات المعنية بتوسعة السوق وترتيبه للحفاظ على تراثه الثقافي والتاريخي.
رحلة عبر الزمنالمواطن علي حاتم، أكد خلال حديثه لـ"الجزيرة نت"، أن سوق الغزل يمثل رحلة عبر الزمن، حيث يمكن لرواده الاستمتاع بأجواء تراثية أصيلة، وشراء منتجات يدوية، وتجربة الأكلات الشعبية. يضيف حاتم: "السوق ليس مجرد مكان للتسوق، بل هو متحف حي يحكي قصة بغداد العتيقة".
من جانبه، أكد الإعلامي برزان ملامين، وهو من سكان محافظة أخرى، أن السوق جميل جدا وله نكهة خاصة وشعبية، مبينا أن الجو التراثي الذي يعيشه السوق لا يمكن إيجاده في أي مكان آخر حيث يمكنك أن تشعر بروح بغداد القديمة وتجربة الأكلات الشعبية التي لا تجدها إلا هنا.
ومع ذلك، لا يخفى على مرتادي السوق بعض التحديات التي يواجهها، حيث يشير ملامين إلى أن موقع السوق الحالي في قلب المدينة يسبب بعض الإزعاج بسبب الزحام والروائح، مقترحا نقل السوق إلى مكان أكثر اتساعًا في أطراف العاصمة للحفاظ على رونقه التراثي وتطويره مع توفير بيئة أكثر راحة للزوار.
إعلانالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات رحلة عبر الزمن سوق الغزل
إقرأ أيضاً:
المهرجانات.. لحن الأصالة والهوية
علي عبد الرحمن
أخبار ذات صلةتعتبر المهرجانات التراثية والفنية في دول الخليج العربية، نافذة حضارية، تجمع بين الإرث الثقافي العميق وروح الحداثة المتسارعة. ولطالما كانت الموسيقى في الخليج العربي أكثر من مجرد وسيلة ترفيهية، إنها نبض التاريخ وشريان الهوية الثقافية، تروي عبر أنغامها قصص المكان وسير الأجيال، وترسم مشاهد من الحياة البدوية والبحرية التي شكّلت ملامح المنطقة.
في دولة الإمارات، نجد «العيّالة»، أكثر من مجرد رقصة شعبية، إنها رمز يتجلى فيه معنى الكرامة واللحمة الاجتماعية التي كانت ولا تزال تعبّر عن وحدة القبيلة، بينما ينبثق «الصوت» الكويتي من عمق البساطة، حاملاً في طياته رهافة المشاعر التي تنبض في وجدان الأجيال. أما فنون البحرين الشعبية، فتمتزج فيها إيقاعات البحر بنبض الإنسان، فيما يتغنى «فن الطارق» السعودي بصدى الصحراء الواسعة، وأصواتها الحية التي تعكس عراقة المنطقة وروحها الأصيلة.
لكن الإرث الموسيقي لا يعيش في الماضي وحده، بل يجد مكانه في الحاضر عبر إعادة إحياء مبتكرة توازن بين التراث وروح العصر، وهنا تتجلى العبقرية في قدرة المهرجانات الخليجية على تقديم تجربة موسيقية تمزج بين العود والقانون كأوتار تحكي الأصالة، وبين الكمان والبيانو كأصوات تستدعي الحداثة، إنها تجربة تحاكي التناغم بين القديم والجديد، حيث تتلاقى الألحان التقليدية مع التوزيعات الموسيقية العصرية، ما يخلق جسراً حياً يربط بين جيل الأجداد وجيل الشباب دون أن يفقد التراث هويته أو جوهره العريق.
تتصدر دولة الإمارات المشهد الخليجي في الحفاظ على الهوية الموسيقية، فالموسيقى ليست مجرد نغمات وأصوات، بل لحن متواصل يعزف على أوتار الزمان والمكان، مستحضرة الماضي في قلب الحاضر. وبإيقاع متقن، تعزف الإمارات لحنها الفريد الذي يجسّد إرثها الثقافي ويعبّر عن هويتها المتميزة، ففي مهرجاناتها ومبادراتها، تتناغم الأنغام التقليدية مع الابتكار العصري، لتخلق سيمفونية متكاملة. وتتألق الإمارات من خلال مهرجاناتها الموسيقية والتراثية التي تُعدُّ بمثابة منصة مفتوحة للتجسيد الموسيقي للذاكرة الجماعية، مثل «مهرجان الحصن» في أبوظبي، حيث تبرز الألوان الصوتية للدفوف والطبول التقليدية، مختلطةً بالألحان الحديثة التي تستدعي الزمان والمكان في سيمفونية متجدّدة.
ويجسّد «مهرجان الشيخ زايد التراثي» مزيجاً فنياً يعكس تفاعل الجماهير مع إيقاعات الهوية، وتنساب أنغام الصوت والآلات التقليدية في توازن فني مدهش. وتشبه «أيام الشارقة التراثية»، آلة العود التي تردد أنغامها في فضاء زمني يتنقل بين الماضي والحاضر، في هذا المهرجان، تتشابك أغاني الصحراء وطبول البادية مع الرقصات التقليدية، لتصبح كأنها نوتات من تاريخ طويل، ترسم لوحة فنية تخلّد ذكرى الأجداد وتستقطب الأجيال الجديدة. ويمثل «رأس الخيمة التراثي»، سيمفونية كبيرة تجمع الأصوات التقليدية من عود وقانون وأصوات البحر والصحراء، لتخلق مزيجاً متناغماً من الأصالة والابتكار. وتتواصل الأنغام الإماراتية عبر هذه المهرجانات، حيث يُعيد التراث الموسيقي تشكيل نفسه في قوالب مبتكرة تواكب العصر دون أن تفقد هويتها، ولا تعبّر الموسيقى عن الماضي فحسب، بل تكتب ألحان الحاضر وتبني نغمات المستقبل، لتظل أداة محورية في الحفاظ على الهوية الثقافية والتراث الموسيقي.
بوابة الثقافة
تُشَكّل المهرجانات الكبرى في الخليج العربي بوابةً رئيسة للتعريف بالهوية الثقافية والموسيقية التي تتميز بها المنطقة، فهي ليست مجرد فعاليات ترفيهية، بل نوافذ للروح الخليجية تُفتح على العالم، وفي قلب المهرجانات، يتعانق الماضي مع الحاضر، والألحان التقليدية مع الأنغام الحديثة، لتُقدم تناغماً موسيقياً ينبض بالحياة والتاريخ.
في السعودية، يظل «مهرجان الجنادرية» واحداً من أبرز هذه الفعاليات التي تحتفل بالتراث الوطني، وأصبح أكثر من مجرد مهرجان شعبي، فهو سيمفونية متكاملة تدمج بين الألوان الموسيقية المختلفة، حيث تمتزج إيقاعات «الليوة» و«العرضة» مع الرقصات الشعبية التي تحاكي الحياة اليومية في البادية والمدن، ليشهد الحضور على لحن من الماضي والحاضر، يعكس تنوع المناطق السعودية.
ويُعد «مهرجان البحرين للموسيقى» من الفعاليات التي تتماهى مع النبض الثقافي العالمي، حيث يُحتفى بالموسيقى كوسيلة للحوار والتواصل بين الثقافات، وتلتقي الأنغام الخليجية مع الموسيقى العالمية، لتُجسد تفاعل الشرق بالغرب من خلال عروض موسيقية مبتكرة.
وتصدح آلات بحرينية تقليدية مثل «العود» و«الربابة» جنباً إلى جنب مع الآلات الحديثة مثل البيانو والكمان، لخلق تناغم فني يعكس الروح البحرينية المتجددة.
يتبوأ الشباب المكانة الأهم كمحرك رئيس لاستدامة التراث الموسيقي، وهناك العديد من المبادرات الرائدة، التي تساهم في ربط الأجيال الشابة بالتراث، مثل «الأوركسترا الوطنية لدولة الإمارات العربية المتحدة»، التي تُعد واحدة من أبرز المنصات التي تعكس التزام الدولة بتطوير الفنون والموسيقى من جميع الأشكال والأنماط، وتُعد جسراً ثقافياً يربط بين الماضي والحاضر، حيث تُسلط الأضواء على التراث الموسيقي الإماراتي، بدءاً من الألحان التقليدية التي نشأت في الصحراء، وصولاً إلى التوليفات المعاصرة التي تعتمد على التقنيات الحديثة.
من خلال هذه الأوركسترا، تُتاح الفرصة للشباب للمشاركة في تقديم أعمال موسيقية تدمج بين الأصالة والابتكار، والموسيقى التي تُعزف ليست مجرد ألحان معاصرة، بل مزيج من الأشكال القديمة التي تتلاقى مع الأصوات الجديدة التي تعتمد على التقنيات الصوتية الحديثة، وبذلك تصبح الأوركسترا فضاءً مميزاً، يحث الشباب على الانفتاح على تجارب جديدة، بينما يحافظون في الوقت ذاته على ارتباطهم بجذورهم الثقافية.