في إصلاح الواقع العربي: الكشف عن الهويات المستترة للعنف
تاريخ النشر: 21st, December 2024 GMT
يجد مفهوم العنف حيزًا واسعًا من التداول الأكاديمي في حقول العلوم الإنسانية، والسبب وراء هذا الاهتمام المتزايد ما نعيشه من شرعنة غير معلنة لأشكاله المختلفة، فالعنف مغذٍ رئيس لجملة مظاهر السلوك المؤذي والمصوب من الفرد تجاه الآخر، ولذا فإن العنف يُفَسر على أنه فعل فردي يعتمد القوة البدنية لإلحاق الأذى بالآخرين.
إن اقتصار العنف على المعنى المادي باعتباره يملك تأثيرًا مباشرًا على الجسد؛ جسد الآخر، فإنه يقودنا مباشرة للكشف عن أبعاد أخرى يتمظهر فيها العنف أكثر حضورًا وتشكل، وهي الأبعاد الرمزية له، فالعنف أو أي فاعلية اجتماعية تملك شكلها المادي ما هي إلا تعبير مشخصن لحالات لا نملك الكشف عنها رغم محايثتها الجوهرية مماسةً كل فعل خطر، ورغم الأشكال المختلفة للعنف من «مادي ورمزي، فردي وجمعي، عفوي ومؤسسي..» إلا أن الهدف من العنف دائمًا هو إحراز أكبر قدر من الإخضاع للآخر المستهدف، آخر مطلوب منه في أثناء ونهاية الفعل المركب ضده أن يوفر للأنا العنيفة إذعانا مقتلعا بقوة الأذى، هو تشريس يعتمد قهر الإرادة، وسحق الذات عبر بسط المسافة بين الكرامة والإذلال. لكننا أيضًا لا نزال نوظف التعريفات التقنية لماهية العنف، ونفعل ذلك رغم الحاجة الماسة لمعرفة من أين تتغذى هذه الفاعلية العنفية، فاعلية: «الإذلال والامتهان والتحقير...إلخ» وتستمد جدارتها، فليس تقوم الأفعال الاجتماعية على استقلال ماهويٍّ، بل هي في أصلها عرضٌ لا يعيش زمانين، ولذا فإن المستتر خلف القدرة على ممارسة هذه الأشكال من الفعل تتكشف فيه حالات المغايرة، فلو عُرضت على فاعلها في غياب سياق توظيفها لأنكر قدرته على الإتيان بها، بل واستقبحها واعترضته بلاغة الإنكار، ولذا السؤال هو: من أين يستمد المستعَنِف هذيانه الذي يجعله يغيب عن إنسانيته، بل تتخفى عنه إنسانية المستعَنَف وكأنه لا شيء؟
والحقيقة أن في ثقافة كل الشعوب بنىً للعنف يتراجع مدها بحسب انتقال البنية الأم لها من الحقائق إلى التمجيز، فالشعوب التي قطعت مع ماضيها البدائي أو على الأقل حجَّمت من حضوره الممتد استطاعت أن تُخَلِص نفسها من تبعات الإرهاق غير الخلاَّق والذي يشدها إلى ماضٍ كانت تقوم فيه العلاقات بين الأفراد على معنى واحد أصيل، وهو: الإخضاع «..فكرة الصياد والفريسة» كملمح من مظاهر البدائية البشرية، وهي شعوب لم تصل إلى هذا الحد مما يسمى بالتحضر إلا بعد أن اجتازت ودون عفوية بل وبكلفة عالية مراحل من قطيعة مع ماضيها البذيء، ومن يتتبع لحظات كبرى في تاريخ الفلسفة الغربية سيجد أن العنف كان هو المادة التي انسلت منها مظاهر الحداثة، فهيجل (القرن الثامن عشر) يرى أن الصراع ومادته العنف هو الذي يوفر للفرد إمكانية التحقق والوجود، بالطبع وفق منطق القوة، بل حتى كارل ماركس المؤسس لنظرية الصراع، كان حاديه في ذلك أنه وبالعنف يسع البشرية أن تصنع مجتمعها الحر، وهذا ما يعرف بالصراع الطبقي، وهو صراع يعتمد العنف كآلية منتجة وفعَّالة، بل إن منطق الغرب الآن في إخضاع كل ما هو غير غربي يعتمد بالأساس على أفحش أشكال العنف ضد الآخرين. هذا ما يتصل بالغرب أما ما يلينا نحن في ثقافتنا العربية، فتراثنا الذي يُقرأ عادة في لازمانه، ويُعمَلُ على تحيينه بالقوة، هو تاريخ مثله مثل تاريخ أي أمة فيه من العنف الكثير ولكنه العنف المتصل بالظاهرة، وحضوره في راهننا هو عين ما يشير إليه بيير بورديو بالنقطة العمياء، ويقصد بأن الترميز في الفعل الاجتماعي هو «اختلاس» غير مرئي لبنية مُغيبة عن التداول لكنها تملك قوتها الدلالية التي تمنح الفعل القدرة على الاتصال والتواصل، وهذه هي البنية المستترة في ظاهرتنا العربية والتي تتغذى عليها عمليات العنف، أي «التراث» فلأننا أمة لا زالت لا تملك الانصراف بعيدًا عن مسرحها المُسَمر في ذاكرتها، فهي تظل باستمرار تعتاش في أزماتها الكبرى على اصطفاء غير نبيل لمجريات تاريخها الثقافي، ودونكم عمليات الاستيداع التي يقوم بها من يمارسون العنف بصورة ممنهجة، وهو استيداع عكسي، أي بدلا عن أن ينطلق من التراث إلى الحاضر، فإنه ينقل هذا الحاضر ويرهنه بالكامل إلى مماثلات له في الماضي المستحضر بإرادة غلاَّبة، هذا الأمر واضح جدا، فالعنف الطائفي في مجتمعاتنا العربية رهين لصراع السقيفة، والعنف الثقافي الهوياتي ابن بكر للحظات التأسيس في تاريخنا الثقافي ولذا فإنه ليس أمام الممتهنين للعنف إلا العودة لإثبات حقيقة نتغيب عنها وهي أننا أمة لا زالت تعيش في علاقة مضطربة مع التراث والواقع، علاقة غير شرعية تتخذ بل تستل من دفتر التاريخ العربي صراعات هي بنت زمانها، لكننا وبسبب غياب الحس التاريخي، وغلونا في تمثيل أنفسنا لزمان غير زماننا، نظل نجذر للعنف ونَمُدهُ بأسباب من ماضينا، أسباب لم نعترف بعد بأنها نتيجة طبيعية لعلاقات بين البنى الاجتماعية التي تصارعت وفق قانونها الخاص حينذاك، وعمليات نقلها إلينا ستظل مستمرة إذا لم نعيد بناء علاقتنا بهذا التراث، أي أن نجعل منه مادة لانتخاب اللحظات المنتجة للبناء لا التخريب، أن نفهم أن للحاضر شروطه، ولا يعني هذا قولنا كما ينادي البعض بالقطيعة مع هذا التراث، فهذا أمر ليس من الممكن بالأساس.
إن دعوتنا ولصالح القضاء على مظاهر العنف في مجتمعاتنا العربية أن نعمل على تجفيف مصادر العنف، والكشف عن البنية الصلبة له. وهي بنية مضمرة في وعينا التاريخي، وسيظل أهم سؤال يواجه مجتمعاتنا العربية والتي تكرست فيها أشكال من العنف الممتد هو: كيف يمكن التغلب على مصادر العنف الاجتماعي التي وفرت لهذا التوحش أسباب البقاء؟ وبعد الكشف عن الهويات المستترة له، سيصبح بالإمكان إيقاف النزيف، وعلاج الجرح في مكمنه.
غسان علي عثمان كاتب سوداني
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الکشف عن
إقرأ أيضاً:
إجماع على ذكرى تحرير المكلا بحضرموت واحتفاء بعدة مظاهر وأطراف متعددة
شهدت محافظة حضرموت، الواقعة شرقي اليمن، اليوم الخميس، ثلاث فعاليات في سياق المواجهة من مشروعين سياسيين يتنازعان الحق في الاستحواذ على المحافظة، التي تمثل الأكبر مساحة والأغنى نفطا في البلاد.
ونظم حلف قبائل حضرموت، المدعوم سعوديا فعالية في مدينة غيل بايمين بمناسبة الذكرى التاسعة لتحرير ساحل حضرموت من قوى التطرف والإرهاب في 24 ابريل/ نيسان؛ وهي ذات المناسبة التي يقيم “الانتقالي” مسيرته في إطارها.
في المقابل نظم المجلس الانتقالي الجنوبي المدعوم إماراتيا في مدينة المكلا، مسيرة موازية وصفها بالمليونية تحت شعار "حضرموت أولا" يزعم فيها أن هوية حضرموت جنوبية، وتمثل جزءا لا يتجزأ من مشروع دولة الجنوب العربي، التي يطمح إليها في المحافظات الجنوبية والشرقية من اليمن من خلال فك الارتباط عن شمال البلاد؛ ويرى في مشروع حلف قبائل حضرموت تهديدًا وجوديًا لمشروعه.
كما أقامت قيادة المنطقة العسكرية الثانية صباح اليوم، احتفالًا عسكريا مهيبًا في ميدان هندسة الأبطال وصقل المهارات القتالية، بمناسبة الذكرى التاسعة لتحرير ساحل حضرموت.
حضرموت نحو الحكم الذاتي
في فعالية مدينة غيل بايمين، التي أقيمت تحت شعار "حضرموت نحو الحكم الذاتي"، قال رئيس حلف قبائل حضرموت ورئيس المؤتمر الجامع، وكيل أول محافظة حضرموت الشيخ عمرو بن حبريش العليي، إن "هذه المناسبة المهمة شكلت لحظة فارقة في تاريخ حضرموت الحديث وتطهيرها من بقايا عناصر التطرف والإرهاب".
وأكد بن حبريش أن المرحلة القادمة تتطلب جهدًا مضاعف عسكري وسياسي لمجابهة كل التحديات، والاستعداد لمواجهة الإرهاب بكل أنواعه والتضحية من أجل الوطن وتحقيق تطلعات أهل حضرموت في الحكم الذاتي وحقهم في الاستقرار واستعادة قرارهم.
بدوره أشار وكيل محافظة حضرموت لشؤون مديريات الساحل والهضبة عضو رئاستي حلف قبائل حضرموت ومؤتمر حضرموت الجامع سعيد عثمان العمودي إلى أن مناسبة ذكرى تحرير مناطق الساحل تأتي تخليدًا لتضحيات الأبطال الذين قدموا أرواحهم فداءً لاستعادة الأمن والاستقرار، وتمثل عنوانًا للصمود والإصرار.
وأكد أن حضرموت ماضية في طريقها نحو تحقيق تطلعات أهلها المشروع في الحكم الذاتي، الذي نتطلع أن يكون نموذجًا يحتذى به على مستوى الوطن.
فيما وصف قائد قوات حماية حضرموت، اللواء مبارك أحمد العوبثاني، هذه المناسبة بأنها ليس مجرد محطة لاستذكار الماضي، بل فرصة لتجديد العهد على مواصلة العمل بجد وإخلاص لتحقيق تطلعات أبناء حضرموت، وتأمين مستقبلٍ واعدٍ للأجيال القادمة.
ولفت إلى أن هذا اللقاء ليس مجرد اجتماع بل هو تجديد للعهد والولاء لحضرموت أرضًا وهويةً وسيادةً وتعزيز الإرادة الصلبة لتحقيق التطلعات وبناء قوة حضرمية مستقلة تحمي أرضها وتصون كرامتها وتضمن مستقبل أجيالها بكل فخر واعتزاز
وقال إن مديرية غيل بن يمين ليست مجرد مكان إنها رمزية تاريخية وشاهد على تأسيس جيش البادية الحضرمي عام 1939 النواة الأولى للقوات الحضرمية، والمجد الحضرمي، ومنها وبرمزيتها شهدت عام 2015م ميلاد قوات النخبة الحضرمية لبناء قوة حضرمية خالصة.
دغدعة عواطف أبناء حضرموت
في المقابل قال نائب رئيس المجلس الانتقالي الجنوبي، أحمد سعيد بن بريك، في كلمة خلال الفعالية الموازية إن "هذا العام سيكون عامًا حاسمًا بعد مرور عقد كامل من النضال، ولن يتم التهاون في الحفاظ على مكتسبات النخبة الحضرمية".
وأفاد أن حضرموت تواجه اليوم تحديات جديدة ومتغيرات دولية، تقف خلفها جهات تحاول إعادة الفوضى إلى المحافظة بعد أن نعمت بالأمن عقب تحرير ساحلها من الإرهاب في العام 2016، حد زعمه.
وفي محاولة لدغدغة عواطف أبناء حضرموت الرافضين لمشروع الانتقالي وجه بن بريك ثلاث رسائل، كانت الأولى منها موجهة إلى التحالف العربي، أشار فيها إلى أن حضرموت، رغم ما تملكه من ثروات، ما تزال تعاني من تردي في مستوى الخدمات الأساسية، وعلى رأسها الكهرباء.
احتفاء عسكري وتنكيس علم الانفصال
وفي الحفل العسكري لقيادة المنطقة العسكرية الثانية منع قائد المنطقة اللواء الركن طالب سعيد بارجاش، رفع علم التشطير الذي يرفعه الانتقالي بكل فعالياته ومؤسساته.
وأشاد بارجاش بالإرادة الصلبة والمعنويات العالية التي تحلى بها الضباط والجنود، إضافة إلى عنصر السرية الذي كان له دور بارز في نجاح العملية.
وتحولت هذه الذكرى إلى فرصة سانحة للمجلس الانتقالي وحلف قبائل حضرموت لإطلاق رسائل سياسية من المكلا عاصمة المحافظة، في إطار تصاعد المطالبات بإدارة مستقلة.
وتبرز حضرموت في إطار التحولات السياسية المتسارعة التي يشهدها اليمن، بوصفها عنصرا حاسما في أي تسوية سياسية قادمة.
رغم بقاء حضرموت بعيدة عن المواجهات المباشرة بين الحكومة الشرعية والحوثيين خلال سنوات الحرب، إلا أنها لم تكن محصنة من تداعيات الصراع، فقد دخلت لاحقا في صراع نفوذ محلي وإقليمي ودولي.
من الداخل تشهد المحافظة تنافس الأجندة السياسية المختلفة، المتمثلة بالحكومة وحلف قبائل حضرموت والمجلس الانتقالي، كما يتمثل التدخل الاقليمي بتباين أجندات السعودية والإمارات، بينما تظل الحلول الوطنية غائبة عن المشهد.
ويتمثل البُعد الدولي في الموقف الأميركي، إذ أعربت الولايات المتحدة، عبر سفارتها، عن قلقها من تصاعد التوترات في حضرموت محذّرة من تحوّل المحافظة إلى بؤرة اضطراب قد تُقوّض فرص التهدئة السياسية في اليمن. ودعت كافة الاطياف إلى توحيد الجهود في حضرموت ومواجهة تهديدات الحوثيين.
وأكدت السفارة ضرورة الحفاظ على الأمن والاستقرار في حضرموت، وشددت على أهمية الحوار الشامل بين الأطراف اليمنية كمسار أساسي لتفادي التصعيد ومواجهة التحديات الوطنية.