حصن السنيسلة بولاية صور .. عبقرية المبنى المستدام وذكاء البنّائين القدامى
تاريخ النشر: 21st, December 2024 GMT
عندما دخلنا الحصن بصحبة المظلة الشمسية في الظهيرة الحارقة التي لا تشي بليل بارد في صور. بناء مربع وعلى كل واحدة من الزوايا الثلاث يستقر برج دائري وفي الرابعة برج مربع.
في البداية، أوحت لي الباحة الخارجية الواسعة لحصن السنيسلة بولاية صور أن الحصن ممتد لمسافات بعيدة، وتوقعت أن المدخل إليه أيضا بعيد. هذه المرة الأولى التي أدخل فيها حصنا بفناء واسع جدا، ويضم الكثير من مواقف السيارات، وظننت أنه يجب أن أتأهب للمشي لساعات طويلة، لكن ما أبحث عنه كان موجودا أمامي.
«الحصن يتنفس أيضا! أترين البقع على الجدران؟!» هذا أول ما قاله المهندس المعماري أحمد بن محفوظ العلوي المختص في الآثار بمديرية التراث في وزارة التراث والسياحة -الذي كان يقود الجولة-، ألن نبدأ بعمر الحصن على الأقل؟! قلت في نفسي: يقول لورانس فيشبورن في دوره الذي مثله في فيلم «باب القبو»: «المنهدسون المعماريون يكتشفون المشاكل أو يتسببون فيها»، لم يكن «الحصن يتنفس» وصفا مجازيا بل كان حقيقة، والبقع التي يخلّفها هذا التنفس هي «مشكلة» كما قال لي، وتعلمت فيما بعد كيف يمكن أن تُقرأ وتُفهم وتُحل، لأنه وبطريقة ما جعل للحصن عينين ولسانا وشفتين، ساردا قصة المواد الخام التي قام عليها بناء عمره أكثر من 300 عام في واحدة من أقدم الموانئ والمدن البحرية في العالم، وهذا ما يحدث عندما يتحدث عما يحب ويتقن «العمارة».
هندسة الحماية في العمارة التراثية: عبقرية الدفاع والهجوم
كانت الأسوار في الحصن عالية، فإذا كان طولك لا يتجاوز 160 سم، ستضطر إلى الوقوف على أطراف قدمك لتنظر خلف السور، أو من بين الشرفات المسننة كما تسمى، مشيرا إلى أنه ليس علوّا عشوائيا، بل يتجلى من خلال عبقرية التصميم الدفاعي كباقي الحصون والمباني التراثية في عُمان، التي صممت بعناية لتلائم القتال. وقال العلوي: «هذه الشرفات، التي تُشبه الأسنان، توفر حماية كبيرة للمدافعين، وتمنحهم القدرة على التصويب بسهولة. الفتحات المستطيلة والدائرية الموجودة في الجدران ليست مجرد فتحات للتهوية، بل صُممت خصيصًا لتكون صغيرة من الخارج وكبيرة من الداخل، مما يسمح بالتهوية والمراقبة الفعالة، مع تعزيز الدفاع ضد أي هجوم محتمل».
وعن فتحات مائلة تخترق السقف عند المدخل علمت فيما بعد أنها «مصبات الزيت» فكانت أدوات دفاعية حيوية تستخدم لصب المواد الساخنة على المهاجمين. وهذا ما أصر العلوي على تأكيده بقوله: «التفاصيل الصغيرة تعكس استراتيجية متكاملة في التصميم، حيث يتشابك الجانب الدفاعي مع الراحة التشغيلية للمدافعين».
تقنيات التسقيف والبناء: استغلال الموارد المحلية بذكاء
الأبواب في الحصن ضيقة، لم يكن ممكنا أن أدخل والمظلة مفتوحة، وإن كان كذلك فسيلزم أن أدخل قبلها. جمال السقف المعقد بجذوع سوداء جعلني أتساءل: من جاء أولا، فتحة الباب أم السقف؟
أعلمني العلوي أن تلك الجذوع هي أخشاب الكندل وجذوع النخيل التي اعتمد البناؤون القدامى عليها كمواد محلية لتستخدم في التسقيف، حيث يتم تقسيمها إلى قطع صغيرة، لتحديد أبعاد الغرف وفق أطوال هذه الجذوع، ويصل طول خشب الكندل إلى 3.8 متر، مما يجعل عرض الغرف لا يتجاوز 3.6 متر بعد تثبيت الجذوع داخل الجدران.
وأشار إلى أن شبكة التسقيف هذه تُعزز باستخدام طبقات متعددة من المواد الطبيعية لضمان تصريف المياه بكفاءة. وأيضا مثل الارتفاع في الأسوار هذه التقنيات ليست عشوائية، بل هي ثمرة خبرة طويلة تُراعي الظروف البيئية المحلية، مثل درجات الحرارة المرتفعة ومخاطر الأمطار وغيرها من العوامل الطبيعية.
الزوايا المصقولة وغير الحادة كانت سؤالا أيضا، فأوضح أنها صممت كذلك لتجنب الكسر، وهو تصميم يعكس براعة المهندسين القدامى في استخدام مواد البناء المتوفرة بحكمة على حد تعبيره. ولفت إلى أن بلاط الجدران صمم بأسلوب يُشبه «الكوب» لتوجيه مياه الأمطار إلى نقاط تصريف محددة تُعرف بـ«التقطير»، مما يمنع تآكل الجدران ويحميها من الرطوبة.
وأشار إلى أن المواد المستخدمة في البناء التراثي، مثل الطين والصاروج، هي مواد «حية» وتتنفس، مما يسمح للجدران بامتصاص الرطوبة وإطلاقها، وكل هذه الخصائص تحمي المباني من التآكل وتمنحها عمرًا أطول بسبب تكيفها مع البيئة المحيطة، على عكس المواد الحديثة مثل الإسمنت التي قد تؤدي إلى تدهور المباني التراثية إذا لم تُستخدم بحذر.
وقال: «الصاروج، على سبيل المثال، يحتاج إلى أن يُستخرج ويُستخدم من المنطقة نفسها التي يقع فيها الحصن أو القلعة لضمان التكيف مع البيئة. النماذج التجريبية في عمليات الترميم، مثل تلك التي نُفذت في حصن بركاء، أكدت أهمية استخدام مواد محلية لضمان نجاح الترميم واستدامة المباني».
وأضاف: «الهندسة المعمارية الحديثة يمكن أن تستفيد من دروس العمارة التقليدية في تصميم مبانٍ مستدامة تتكيف مع البيئة. فالمهندس المصري أحمد شكري، على سبيل المثال، نجح في تصميم منازل بسيطة تعتمد على التهوية الطبيعية دون الحاجة إلى أجهزة تكييف، من خلال أشكال هندسية خاصة للأسقف، وهكذا يعزز الربط بين الماضي والحاضر في العمارة الهوية المعمارية ويوجد تصاميم مستدامة تتماشى مع الموارد والمناخ المحلي. هذه التفاصيل الصغيرة، التي قد يغفلها البعض، تشكل الأساس لبناء مبانٍ تدوم لقرون، كما أثبتت التجربة في الحصون والمنازل التراثية في الخليج العربي».
النوافذ التراثية: تحكم ذكي بالتهوية والخصوصية
ندخل أحد الأبراج لنستظل من الحرارة المرتفعة، فتنساب النسمات بخفة من النوافذ التي يتسلل معها ضوء الشمس، وأنا ألتقط صورة للأشعة المتسللة، قال العلوي: إن النوافذ في المباني التراثية لم تكن مجرد فتحات للضوء، بل أدوات للتحكم في التهوية والخصوصية. وأنها غالبًا تتكون من أربعة أجزاء يمكن فتحها بشكل مستقل، مما يمنح سكان المنزل تحكمًا كاملًا في تدفق الهواء. وشرح: «في الصيف، تُفتح النوافذ المواجهة للرياح وتُغلق الأخرى لتجنب حرارة الشمس، بينما تُفتح النوافذ الجنوبية في الشتاء لاستقبال أشعة الشمس الدافئة، حتى ارتفاع النوافذ كان مدروسا، حيث تبدأ من مستوى القدم وتصل إلى مستوى الركبة، مما يسمح بتهوية مباشرة للجلوس الأرضي ويوفر الخصوصية دون كشف الأشخاص داخل الغرفة».
التفاعل مع المناخ: فهم حركة الشمس والرياح
لن تعمل النوافذ بشكل صحيح إن لم تُفهم حركة الشمس والرياح، وهذا ما يؤكده العلوي في أن العمارة التقليدية اعتمدت على دراسة حركة الشمس والرياح لتوزيع المرافق داخل المنزل. وأوضح: «في الخليج العربي، كانت الجهة الشمالية تُخصص للمداخل والمرافق المهمة لتجنب حرارة الصيف. أما الجدران الجنوبية فكانت تُستخدم للمطابخ والغرف والمخازن الأقل استخداما، نظرا لتعرضها المباشر للشمس».
وأضاف: «في الحصون، كانت الواجهات تُبنى باتجاه الشمال أو البحر للاستفادة من الرياح الباردة، مع إعطاء الظهر للجهات الحارة. الجدران السميكة، التي يتجاوز سمكها مترا في بعض الأحيان، كانت توفر عزلًا طبيعيًا للحرارة، مما يجعل المباني باردة في الصيف ودافئة في الشتاء، وهكذا تتنفس».
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: إلى أن
إقرأ أيضاً:
الآبار اليدوية القديمة في الحدود الشمالية.. شواهد على عبقرية الإنسان وصموده في مواجهة الطبيعة
المناطق_
تعد الآبار اليدوية القديمة شواهد شامخةً في قلب البيئات الصحراوية بمنطقة الحدود الشمالية، على عبقرية الإنسان قديمًا وصموده أمام قسوة الطبيعة، إذ مثّلت هذه الآبار منذ القدم مصدرًا مهمًا أسهم في استمرارية الاستيطان بالقرى التاريخية.
وبرع الأجداد في حفر هذه الآبار بدقة وجهد يدوي شاق، لاستخراج المياه الجوفية العذبة من أعماق الأرض، وإحاطة جدرانها بالحجارة حمايةً لها من الانهيارات، مبتكرين وسائل بدائية كالدلاء لرفع المياه، ونقلها عبر “الراوية” الموضوعة على ظهور الدواب إلى المنازل.
أخبار قد تهمك مكافحة المخدرات تقبض على شخصين بمنطقة الحدود الشمالية لترويجهما مادة الإمفيتامين المخدر 25 أبريل 2025 - 5:51 مساءً جامعة الحدود الشمالية تعلن فتح باب القبول في 32 برنامجًا للماجستير 25 أبريل 2025 - 5:43 مساءًوتحكي الآبار اليدوية المنتشرة في المنطقة قصة الإنسان مع الأرض، وتوثّق قدرته على التكيّف مع بيئته، وتجاوز تحدياتها الطبيعية.
وأوضح الباحث والمهتم بالتاريخ والآثار عبدالرحمن التويجري, أن منطقة الحدود الشمالية تحتضن أكثر من ألفي بئر قديمة حُفرت منذ آلاف السنين، ولا تزال قائمة حتى اليوم شاهدةً على حضارات تعاقبت ووجود بشري ممتد وسط الصحراء.
وأشار إلى أن هذه الآبار شكّلت شريان الحياة الرئيس لسكان المنطقة، وأسهمت في استدامة الاستيطان في قرى تاريخية بارزة مثل قرية (لينة)، التي تحتوي على أكثر من 300 بئر، وفي قرية (لوقة) قرابة 300 بئر، ما يعكس أهميتها كمراكز بشرية نشطة عبر العصور.
وأفاد أن قرية (زبالا) الأثرية تحتوي على عشرات الآبار، التي كانت تزود سكانها والمارين على طريق درب زبيدة بالمياه، فيما تحتوي قرية (الدويد) على أكثر من 200 بئر، فضلًا عن العديد من الآبار المنتشرة في أم رضمة، والهبكة، وقيصومة فيحان، وحدق الجندة، وأعيوج لينة، والمصندق، والخشيبي، وغيرها من المواقع التي مثّلت مراكز استيطان لقبائل قديمة.
من جانبه، أفاد المرشد السياحي والمهتم بالتراث خلف الغفيلي، أن عملية حفر الآبار كانت تتم بطرق تقليدية دقيقة، عبر الاستدلال على وجود المياه الجوفية بالاستماع لصوت جريان الماء تحت الأرض، واستخدام العصي أو قضبان الحديد لتحديد أماكنها.
وبيّن أن هذه الآبار لا تزال تمثل إرثًا تاريخيًا عظيمًا، لا سيما لكبار السن الذين يحتفظون بذكريات ترتبط بها، كونها كانت رمزًا للصمود والاعتماد على الذات في بيئات قليلة الموارد.
وأشار الغفيلي إلى أن العديد من هذه المواقع تحوّل لاحقًا إلى قرى قائمة مزودة بالخدمات الحديثة، فيما ظلت الآبار القديمة قائمة كمعالم تراثية وسياحية يمكن استثمارها في تعزيز الوعي بالتراث وتشجيع السياحة الثقافية.
وأكد أن الآبار اليدوية ليست مجرد حُفر في الأرض، بل رموز تاريخية نابضة تحكي قصص التحدي والتكيف مع الطبيعة، وتجسّد ملاحم الأجداد في مواجهة شح الموارد.
وتبقى الآبار اليدوية القديمة إرثًا إنسانيًا يجب الحفاظ عليه وصيانته، بوصفه مرآةً للتاريخ المحلي، ومصدر إلهام للأجيال القادمة لمعرفة الجهود العظيمة التي بذلها الأجداد في سبيل بناء الحياة وسط الصحراء.