بروفيسور حسن بشير محمد نور

للسودان إرث طويل في انتهاكات حقوق الإنسان والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب وصولا للاتهامات بالابادة الجماعية، التي اوصلت البلاد لمحكمة الجنايات الدولية بأحالة من مجلس الامن الدولي، ووضع ذلك السودان ضمن قائمة الدول الراعية للارهاب، وسلطت عليه عقوبات اقتصادية اقعدته عن التنمية ورفع قدرات اقتصاده وخفض انتاجيته وتنافسيته الخارجية.

من السذاحة حصر تلك الانتهاكات والجرائم في جوانبها القانونية وتحقيق العدالة والقصاص فقط، رغم الأهمية الكبرى ذلك .
كان لتلك الجرائم والانتهاكات، مع الافلات من العقاب الذي لازمها عواقب جسيمة من الناحية الاقتصادية والاجتماعية ومن حيث الكفاء والاداء الاقتصادي مجتمعة. وبالطبع لا زالت تلك الجرائم والانتهاكات مستمرة حتي اليوم، بل ان وتيرتها قد ارتفعت بشكل خطير من أطراف الحرب الدائرة الان في كل مكان، سواء في مناطق سيطرت الدعم السريع أو الجيش، ولا زالت تقارير وادانات تلك الجرائم من المنظمات الدولية والوطنية المعنية بحكم القانون وحقوق الانسان والحريصة علي تحقيق العدالة وعدم الافلات من العقاب تملأ الافاق.
منذ استيلاء نظام الإنقاذ بقيادة عمر البشير على السلطة في السودان عام 1989، دخل السودان في مرحلة مظلمة من الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان والجرائم المنظمة، التي استهدفت المعارضة السياسية والمدنيين وشمل ذلك تأييدًا للأنشطة الإرهابية. وعلى الرغم من الإطاحة بالنظام في ثورة ديسمبر (كانون الاول) 2018 (التي تمر هذه الايام ذكراها السادسة)، استمرت الممارسات القمعية من قبل المكون العسكري، مما أدى إلى إشعال حرب متوحشة ترافقها اتهامات دولية بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. يتناول هذا المقال التداعيات السياسية والاقتصادية لهذه الجرائم، وتأثير الإفلات من العقاب على مستقبل السودان، من منظور الفكر السياسي ومناهج الاقتصاد السياسي.
تم قمع المعارضة بشكل ممنهج ابتداءا مما عرف (ببيوت الاشباح) سيئة السيط وليس انتهاءا بقمع الحريات والعمل النقابي، وقد فرض حكم الانقاذ نظامًا بوليسيًا استهدف كل أشكال المعارضة السياسية، بالاعتقال التعسفي، والتعذيب، والإعدام خارج نطاق القانون. اضافة ذلك ادخل النظام البلاد في مرحلة جديدة من الحروب الاهلية رابطا اياها بالشعارات الدينية وقد حول تلك الحرب لغزوات (جهادية) مصحوبة بتعبئة جمعت بين الايدولوجيا والخرافة، ادت تلك الحرب لازهاق مئات الالاف من الارواح، اضافة لاستنزافها للموارد ودخول الاقتصاد السوداني في مرحلة طويلة من التضخم الركودي لم يخرج منها الا بعد اكتشاف وتصدير البترول في نهاية عقد تسعينيات القرن الماضي.
أدت سياسات القمع والإقصاء إلى تكاليف اقتصادية واجتماعية وتداعيات سياسية انتهت بأنفصال جنوب السودان في 2011، ويا لها من خسائر بشرية ومادية هائلة.
لم يعتبر نظام الانقاذ من محنة انفصال الجنوب كطبيعة الانظمة الاستبدادية (والاستبداد يعمي البصيرة)، اذ اشعل حرب الإبادة الجماعية في دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق، مرتكبا مجازر بحق المدنيين، حيث استخدم التطهير العرقي والقصف الجوي والتجويع كوسائل حرب، ما دفع المحكمة الجنائية الدولية إلى إصدار أوامر اعتقال بحق البشير وعدد من مسؤوليه. وكان من تداعيات ذلك اخراج اقليم دارفور ومناطق في كردفان والنيل الازرق من دائرة الانتاج والنسيج الاجتماعي، ما ادي، اضافة للخسائر الاقتصادية لنزوح ولجؤ علي نطاق واسع.
لم يكتفي النظام بذلك بل قام بدعم جماعات إرهابية كان من ضمنها تنظيم القاعدة باستضافة زعيمه اسامة بن لادن وكارلوس وغيرهم، ودفع ذلك باتهامه بجرائم خطيرة مثل تفجير السفارات الامريكية في شرق افريقيا والهجوم علي المدمرة كول، مما ادي إلى إدراج السودان في قائمة الدول الراعية للإرهاب، وفرض عقوبات اقتصادية شديدة الوطأة اقتصاديا واجتماعيا، شملت العقوبات تجميد الأصول وفرض قيود على التجارة والاستثمار وحرمان السودان من الوصول للتكنولوجيا الحديثة بل وحتي قطع الغيار. ادي ذلك لتدمير قطاعات اقتصادية كاملة في الزراعة (مثل مشروع الجزيرة) والصناعة والخدمات وادي لتعطل قدرات النقل الجوي (شركة الخطوط الجوية السوداني، سودان اير) والبحري والنهري بشكل شبه تام.
كل ذلك قاد لعزلة دولية للسودان وحرمانه من الدعم الدبلوماسي، كما ادي الي تفكيك البنية المؤسسية للدولة وتحويلها إلى أداة قمعية تخدم النظام فقط. اما من الناحية الاقتصادية فقد كان لذلك تداعيات جسيمة علي الاستقرار الاقتصادي في انخفاض معدلات النمو، ارتفاع معدلات التضخم وتراجع سعر صرف العملة السودانية بمعدلات عالمية قياسية، اضافة لاختلال التوازن الخارجي وكان لكل ذلك اثار هائلة علي تنامي معدلات الفقر والبطالة.
لم تنجح ثورة ديسمبر(كانون اول) 2018 في تحقيق التحول الديمقراطي المنشود، حيث ظل المكون العسكري، مدعوما بدولة الانقاذ العميقة يسيطر على المشهد السياسي والقدرات الاقتصادية والخدمة المدنية، اضافة للقضاء والنيابة العامة، وكان ان استمرت انتهاكات حقوق الإنسان. تصاعدت التوترات بين المكون العسكري والمدني خلال الفترة الانتقالية، وقد عجزت الحكومة المدنية من انجاز العديد من المهام المحورية مثل تفكيكك البنية المؤسسية لنظام الانقاذ، استرداد الاموال المنهوبة وتلك التي تحت سيطرت المكون العسكري بما فيه الدعم السريع، اضافة لاصلاح الخدمة المدنية والقضاء والتيابة العامة، واجازة قانون النقابات وغيرها من المهام الداعمة لروافع الانتقال الديمقراطي. أدى الاستقطاب الحاد إلى انقلاب 25 اكتوبر 2021 ، الذي كان المقدمة الموضوعية للحرب الحالية بين الجيش وقوات الدعم السريع
تفاقمت الازمات والتداعيات الخاصة بالجرائم والانتهاكات بعد الحرب المستمرة بين الجيش والدعم السريع، التي فاقمت من الازمة الاقتصادية وادت لأزمة أنسانية توصف بانها الاسوأ في العالم، اضافة لاتهام الطرفان بارتكاب جرائم قتل جماعي، واغتصاب، ونهب ممتلكات المدنيين، ما أدى إلى نزوح الملايين داخليًا وخارجيًا، وتدهورت او انهارت الخدمات الأساسية. وبالرغم من الاتهامات الدولية بارتكاب جرائم حرب، لا يزال القادة العسكريون يتمتعون بحرية التنقل وممارسة السلطة، مما يعزز ثقافة الإفلات من العقاب ويؤدي لتطبيع الانتهاكات والاجرام.
ما يهمنا هنا هو التأكيد علي ان الإفلات من العقاب يؤدي إلى انهيار ثقة المواطنين في مؤسسات الدولة، ما يعزز النزعات الانفصالية والصراعات القبلية، ويؤدي لتعميق الازمة السياسية ويشجع النخب العسكرية علي التشبث بالسلطة. بالتالي فان استمرار الجرائم دون محاسبة يكرّس صورة السودان كدولة فاشلة لا تحترم القانون الدولي ويقوض فرص الاستثمار الأجنبي والتعاون الدولي مما يؤدي لتعميق الأزمة الاقتصادية.
تتصاحب تلك الازمات باعاقة التنمية بشكل تام وتزيد من معدلات الفقر والبطالة، ما يؤدي إلى أزمات اجتماعية مستعصية علي الحل. اضافة بالطبع لغياب العدالة والعدالة الانتقالية الذي يؤدي بدوره لدوامة العنف وعدم الاستقرار السياسي وتفاقم النزاعات الإهلية وتعطيل فرص السلام، ونتيجة لذلك سيظل السودان في حالة انكماش اقتصادي تفاقم من معاناة مواطنيه.
نخلص من استعراضنا الي ان الإفلات من العقاب يمثل تحديًا خطيرًا لمستقبل السودان سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، حيث يقوض أسس الدولة ويؤدي إلى استمرار دوامة الأزمات السياسية والاقتصادية. من منظور الفكر السياسي، يتطلب الخروج من هذه الأزمة الاخذ في الاعتبار جوانب العدالة والعدالة الانتقالية وتعزيز سيادة القانون، بالتزامن مع استصحاب التداعيات الاقتصادية والاجتماعية والتكاليف الناتجة عن كل ذلك في جميع اساليب البحث عن حل مستدام ونهائي لمشاكل البلاد. ومن الجدير بالاعتبار عدم اغفال الجوانب الاقتصادية/ السياسية، التي تؤكد علي ان تحقيق الاستقرار الاقتصادي يعتمد على إنهاء النزاعات وبناء نظام حكم ديمقراطي قادر على استقطاب الاستثمارات وتطوير البنية الإنتاجية، وان ذلك لن يحدث بدون محاسبة حقيقية تخلص السودان من ان يكون رهينًا للفوضى المزمنة والازمات والتخلف.

 

mnhassanb8@gmail.com

   

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: الإفلات من العقاب الدعم السریع السودان فی نظام ا

إقرأ أيضاً:

الأمين العام المساعد لمجلس الوحدة الاقتصادية العربية: نتطلع إلى تكامل اقتصادى عربى

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق

أكد الدكتور أحمد الشريف الأمين العام المساعد لمجلس الوحدة الاقتصادية العربية وممثل السودان، تطلعه إلى تكامل اقتصادى عربي فى مواجهة التحديات الراهنة التي أثرت بالسلب على رفاهية الشعوب العربية ، مطالبا ببذل كافة الجهود لوقف الحروب والصراعات في الدول العربية والتوجه نحو البناء والاستقرار.

وأشار على هامش مشاركته فى الدورة العادية رقم 118 على المستوى الوزاري، التى عقدتها الأمانة العامة لمجلس الوحدة الاقتصادية العربية، فى مقر جامعة الدول العربية بالقاهرة، إلى ضرورة مواجهة التحديات والظروف الاستثنائية التى تمر بها المنطقة العربية، وصولا إلى تحقيق الاستقرار المنشود لجميع الشعوب العربية .


من جانبه أكد الدكتور محمد عبد الرحيم على، الرئيس التنفيذى لاتحاد المصدرين والمستوردين العرب ، أن هناك تعاون مشترك وتنسيق عالى مع كافة الاتحادات العربية النوعية المتخصصة العاملة تحت مظلة مجلس الوحدة الاقتصادية العربية من أجل بحث قضايا التنمية فى الدول العربية.

 وأشار إلى أن المرحلة الحالية تتطلب تضافر كافة الجهود العربية من أجل مواجهة التحديات والأزمات التى تمر بها منطقتنا العربية، والتى تستوجب العمل بكل جهد وإخلاص للنهوض بالأمة العربية وتحسين مستوى معيشة شعوبها .


وأكد على شكره وتقديره لجمهورية مصر العربية وخاصة الرئيس عبدالفتاح السيسى لما تقوم به مصر العربية من الدفاع عن القضايا العربية، مشيرا إلى أنه وجه الشكر لمصر قيادة وحكومة وشعبا للوقوف بجوار الشعب السودانى فى محنته وأزمة الحرب هناك، مؤكدا أنه نقل تحيات كافة أصحاب العمل فى السودان للرئيس عبدالفتاح السيسى؛ حيث عبر للدكتور طارق شعراوى مساعد وزيرة التخطيط والتنمية الاقتصادية والتعاون الدولى، عن عظيم شكره لما تقدمه مصر إلى الشعب السودانى الذى فر من الحرب إلى بلده الثانى مصر، مقدرا جهود كافة المؤسسات فى مصر على استقبال اللاجئين السودانيين ومعالمتهم أفضل معاملة وتقديم يد العون ليهم ، مشيرا أن الشعب السودانى لا ينسى تلك المواقف النبيلة من الشعب المصرى مدى الحياة .


من جانبه أشار عبد الوهاب البرهان، عضو وفد السودان المشارك فى اجتماعات الدورة الوزارية التى عقدتها الأمانة العامة لمجلس الوحدة الاقتصادية العربية ، أن السودان يقدر وقوف الدول العربية فى محنته وخاصة مصر قلب العروبة النابض بالإضافة إلى مواقف جمهورية الصومال الفيدرالية التى أثبتت أن الشعوب العربية على قلب رجل واحد نحو استقرار السودان ووقف الحرب الدائرة هناك ، مشيرا إلى تقديره إلى جميع مندوبى ليبيا والأردن واليمن على دفع عجلة التعاون العربى المشترك إلى الأمام .

مقالات مشابهة

  • أزمة السودان.. جهود دولية إنسانية دون حل سياسي في الأفق
  • دبلوماسي تركي: مستعدون لدعم العملية السياسية في السودان
  • تركيا تجدد استعدادها لدعم العملية السياسية في السودان
  • 42 حزبًا سياسيًا يرحبون بإعلان القاهرة.. ويؤكدون: قمة دول الثماني تحمل فرصًا كبيرة للارتقاء بالعلاقات الاقتصادية
  • وفد السودان باجتماع مجلس الوحدة الاقتصادية يشكرالرئيس السيسى وشعب مصرعلى مساندة السودان في أزمته
  • الأمين العام المساعد لمجلس الوحدة الاقتصادية العربية: نتطلع إلى تكامل اقتصادى عربى
  • أوروبا في قلب العاصفة.. كيف ستتعامل مع عودة ترامب وسط حالة من الفوضى السياسية؟
  • أستاذ في العلوم السياسية: الدعم الأمريكي يمنح نتنياهو نفوذا إقليميا
  • محلل سياسي: الحرب السورية تؤثر على الأمن والاستقرار في أوروبا