الشاعر الأوزبكي شمشاد عبد اللهيف.. كيف قاوم الاستعمار الثقافي السوفياتي بالروسية؟
تاريخ النشر: 21st, December 2024 GMT
كان اسم شمشاد عبد اللهيف ذاته تقاطعًا بين الثقافات، حيث يجمع بين اسم فارسي ("شجرة تشبه الصنوبر")، ولقب عربي ("عبد الله")، والنهاية السلافية "يف" التي تعني ببساطة "من".
هذه التوليفة الثقافية كانت ممكنة في قلب طريق الحرير العظيم السابق، وتحديدًا في أوزبكستان السوفياتية السابقة، الدولة الواقعة في آسيا الوسطى والتي ارتبطت -في الحقبة السوفياتية- بالمأساة السياسية وعمالة الأطفال في صناعة القطن.
بمظهر يشبه نجمًا سينمائيًا إيطاليًا متقدمًا في العمر وسلوك أرستقراطي رفيع، كان شمشاد عبد اللهيف، الذي توفي هذا العام بسبب السرطان عن عمر ناهز 66 عامًا، شاعرًا وكاتبًا يبدع بالروسية. إنتاجه الأدبي كان متواضعًا، عدة كتب صغيرة من الشعر والمقالات، وسيناريو لفيلم لم يُنتج، ولكنه ساعده في شراء شقة في مدينة فرغانة الأوزبكية في أواخر الثمانينيات.
رغم افتقاد قصائده للقافية والوزن الثابت، فإن حياته وأعماله تقدم إجابات على أسئلة شائكة تواجه الفنانين اليوم: هل يمكن للفن أن يكون مسؤولا عن الحروب والإمبريالية؟ وكيف يمكن إزالة الاستعمار من ثقافتك إذا كنت تكتب بلغة المستعمر السابق؟ ومع استمرار الحرب الروسية الأوكرانية في عامها الثالث، يبرز سؤال آخر: إلى أي مدى يجب أن ترفض اللغة والثقافة الروسية؟ خاصة إذا كانت هذه اللغة هي أداة التعبير الفني لشخص غير سياسي يكره الاستبداد، وليس له أصول روسية، وتعرض للنقد لعدم اتباعه التقاليد الشعرية الروسية.
إعلانونشر عبد اللهيف أول مجموعة شعرية له بعنوان "الفجوة" في سانت بطرسبورغ عام 1994 من خلال مجلة Mitin. لاقت المجموعة إشادة نقدية واسعة وحصلت على جائزة أندريه بيلي في العام نفسه، وهي واحدة من الجوائز الأدبية الأكثر أهمية في روسيا.
فرغانةيرتبط اسم "فرغانة" بالنسبة لمعظم من يعرفون آسيا الوسطى السوفياتية السابقة بوادي يقطنه 16 مليون شخص، وهو المنطقة الأكثر خصوبة وكثافة سكانية بين الصين وإيران وروسيا. لعب هذا الوادي دورًا محوريًا في طريق الحرير العظيم، حيث جمع بين الثقافات والأديان والتكنولوجيا. ورغم تقسيمه بين أوزبكستان وطاجيكستان وقرغيزستان، أصبح موقعًا للتوترات السياسية والمجازر بعد الحقبة السوفياتية.
لكن عبد اللهيف جعل من اسم "فرغانة" رمزا لمزيج ثقافي غير تقليدي من خلال كتاباته. ففي سبعينيات القرن الماضي، جلب عبد اللهيف تيارات الحداثة الغربية المحظورة إلى الشعر الروسي، وأسس عبد اللهيف "مدرسة فرغانة الشعرية" عام 1990 إلى جانب الشعراء الأوزبكيين حميد إسماعيلوف وهمدام زاكيروف. تميزت هذه المدرسة بتركيزها على كتابة الشعر باللغة الروسية واعتبارها أداة للحوار الثقافي بين الشعوب ما بعد السوفياتية.
الظهيرة – مشدود – بجلد ليلكي (لون زهر الليلك)
تشق على طول طية، تكشف عن طريق إلى التفتح،
العش يشعر بثقل، والموت
لا يغرق في إناء من العسل المتقزح الألوان"
(من قصيدة "الظهيرة، 1975″، مترجم بواسطة أليكس سيغال)
"النجم الشرقي"تميز أسلوب عبد اللهيف بالهروب الداخلي الذي كان مناهضًا لنبرة ولغة وأسلوب الأدب السوفياتي الرسمية، واستطاع الابتعاد عن رقابة السلطات بفضل موقع فرغانة النائي عن موسكو. أصبحت المدينة الهادئة، المغطاة بأشجار الجميز، مهدًا للإبداع غير التقليدي بعيدا عن رادار المسؤولين الشيوعيين والخدمات السرية التي أجبرت الكتاب الأكثر تسييسًا -والحائزين جائزة نوبل في المستقبل- ألكسندر سولجينتسين ويوسف برودسكي على الخروج من الاتحاد السوفياتي.
إعلانوفي فرغانة قدم موسيقيون وفنانون مثل إنفر إزمايلوف وسيرجي أليبكوف إبداعات مميزة، حيث طور الأول أسلوبًا فريدًا في العزف على الجيتار، بينما دمج الأخير بين الفن الأوروبي والآسيوي.
ظهرت أعمال عبد اللهيف فقط بعد إصلاحات البيريسترويكا التي فتحت الاتحاد السوفياتي للعالم. ومنذ عام 1991، عمل عبد اللهيف محررًا للشعر في المجلة الأدبية "زفيزدا فوستكا" ("النجم الشرقي")، ونشرت المجلة أعمال الحداثيين الغربيين التي كانت محظورة، إلى جانب الترجمة المنقحة للقرآن الكريم، وأعمال الفلاسفة الصوفيين، والفلاسفة الطاويين الصينيين، والشاعر السوري أدونيس.
برز شمشاد عبد اللهيف كأيقونة بين الفنانين غير التقليديين في الجمهوريات السوفياتية السابقة، في حين قوبل بازدراء من قبل الكتّاب المحافظين.
يقول دانييل كيسلوف، أحد أتباع عبد اللهيف الذي أصبح لاحقًا محررًا للموقع الإخباري المؤثر "فيرجانا.رو" ومحللًا لشؤون آسيا الوسطى: "في الثمانينيات، كان شمشاد قد بدأ بالفعل في استخدام لغة شعرية جديدة اخترعها بنفسه، مما أثار استياء جميع التقليديين في الأدب الروسي".
في عام 1994، حصل عبد اللهيف على جائزة تحمل اسم الشاعر الروسي البارز أندريه بيلي، وهي جائزة ثقافية مضادة يتمثل رمزها في كأس من الفودكا وتفاحة، كان على الفائز تناولها أمام لجنة التحكيم والجمهور الأدبي. ورغم أن عبد اللهيف لم يكن من هواة الكحول، فقد أجبر نفسه على "قبول" الجائزة.
شهدت مجلة "زفيزدا فوستكا" قفزة هائلة في شعبيتها، حيث بلغ توزيعها رقمًا مذهلا وصل إلى 250 ألف نسخة، معظمها بيعت في روسيا المستقلة والجمهوريات البلطيقية.
صديقي ومرشديفي تلك الفترة، تعرفت إلى شمشاد عبد اللهيف وأصبحنا صديقين. على الفور، أقنعني بترجمة عدة قصائد من الإنجليزية والإيطالية. كنت طالبًا في التاسعة عشرة من عمري أدرس الأدب الإنجليزي، وسعدت برؤية اسمي منشورًا في مجلة "جادة".
إعلانلاحقًا، بعد أن حصلت على وظيفة مكتبية، توليت كتابة عشرات من قصائده على الحاسوب لإرسالها عبر البريد الإلكتروني إلى ناشريه وأصدقائه المنتشرين على مسافات تبعد آلاف الكيلومترات.
كان عبد اللهيف يكرر لي مقولته الشهيرة: "مركز العالم ليس في أي مكان، وهو في كل مكان"، مؤكدًا أن الأدب من الطراز العالمي قد يُنسى في أماكن نائية من آسيا الوسطى.
لكن مجلة أدبية رائدة لم تكن شيئًا يمكن لرئيس أوزبكستان السلطوي إسلام كريموف أن يتسامح معه. ففي عام 1995، أمر بفصل جميع أعضاء هيئة تحرير مجلة "زفيزدا فوستكا".
شاعر بلا عملأصبح عبد اللهيف شاعرًا عاطلًا عن العمل، يعيش في حالة رثة قريبة من الفقر، لكنه ظل يسافر بشكل متكرر إلى مهرجانات أدبية في الاتحاد السوفياتي السابق وأوروبا والولايات المتحدة.
مثل مئات الفنانين ذوي الفكر المستقل، الذين يتجنبون رعاية الدولة وضجيج الإعلام والسياسة، جسد عبد اللهيف بشكل رمزي استعادة الفن الراقي لنقائه الأصلي.
بين التضحيات والإمبراطورياتيتطلب الفن الراقي عقودًا من التفاني في شكل فني – سواء كان موسيقى أو أدبًا أو رسمًا – ويستند إلى قرون من التقاليد. ورغم ذلك، فإنه يزدهر غالبًا في البلدان الغنية التي عادة ما تكون إمبراطوريات، إذ تقوم هذه الدول أحيانًا بتلميع سجلها الملطخ بالدماء من خلال دعم الفنون.
كان "المؤلف" الأول المعروف في التاريخ هو الشاعرة الأكدية الأسطورية إنخيدوانا، التي جعلها والدها سرجون الأكدي الكاهنة الكبرى لإله القمر "نانا"، بينما كان يوحد إمبراطورية قديمة كبرى بالشرق الأوسط.
في روما القديمة، أغدق الإمبراطور أغسطس بالذهب على الشاعر الروماني فيرجيل، الذي أصبحت قصيدته الطويلة "الإنيادة" محور الأدب اللاتيني، وجاءت هذه الثروات من غنائم حروب الإمبراطورية في حوض البحر الأبيض المتوسط.
وبالنسبة للإيرانيين، تمثل "شاهنامه"، الملحمة التي كتبها الفردوسي، الروح الوطنية الإيرانية. لكن هذه الملحمة دُعمت ماليًا من قبل السلطان محمود الغزنوي، الذي غرق في بحور من الدماء خلال حملاته شمال شبه القارة الهندية وما يعرف الآن بباكستان.
إعلان الفنانون المستقلون ودروس التاريخمع ذلك، لم يكتب فنانون مثل فنسنت فان جوخ، ومعلم الهايكو الياباني ماتسو باشو، والشاعر الفرنسي شارل بودلير، وعبد اللهيف، أناشيد مدح للحكام. لم ينحنوا أمام السلطة، ولم يقبلوا بالعمولات الغنية أو المعاشات الحكومية، ودفعوا ثمن صدقهم بحياتهم:
"أغنية الطائر المحاكي تتسرب إلى طعم الكرز الأسود
خاصة هنا في ساحة الأب والأم
حيث للمرة الأولى يُسمع السؤال
والجواب بالتناغم
انتعاش المناطق النائية المختفية في
نهاية القرن عندما
تشبه المرحلة النهائية لأي كون صغير فجرًا طويلًا."
(من قصيدة "العائلة"، ترجمة أليكس سيجال).
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات آسیا الوسطى
إقرأ أيضاً:
مجلس صحار الثقافي يُثري المشاركات العُمانبة في مهرجان الحرفة الدولي بالسعودية
الرياض- الرؤية
يشارك وفد عُماني برئاسة صالح بن سعيد بن صالح الحمداني رئيس مجلس صحار الثقافي في فعاليات مهرجان الحرفة الدولي الذي انطلق عصر الخميس بمحافظة الزلفي بالمملكة العربية السعودية الشقيقة.
ويزخر المهرجان بروح التراث الأصيل ويجمع بين عراقة الماضي وإشراقات الحاضر وسط حضور رسمي وشعبي كثير ومشاركة واسعة من مختلف دول الخليج. ومهرجان الحرف الدولي بالزلفى تظاهرة ثقافية خليجية تحتفي بالثقافة والادب والتراث والأصالة بمشاركة عُمانية لافتة.
ورعى افتتاح المهرجان سعادة صالح بن سيف الرافع محافظ الزلفي وبإشراف الغرفة التجارية بالزلفي وبالتعاون مع جمعية التراث والوثائق والحرف. ويستمر المهرجان خلال الفترة من 1 إلى 9 مايو 2025م ليشكل منصة فريدة للاحتفاء بالثقافة والادب وبالحرف التقليدية والتقاليد الثقافية المتنوعة التي تزخر بها دول الخليج والمنطقة العربية.
ويسعى المهرجان إلى إبراز الثراء الثقافي والحرفي بروح عصرية تجذب الأجيال الجديدة وتحافظ في ذات الوقت على الهوية والتراث.
وحظيت فعاليات المهرجان منذ انطلاقها بتفاعل لافت من الحضور الذين تنوعت اهتماماتهم الثقافية والادبية من خلال والمحاضرات والفنون الشعبية والمشغولات اليدوية والمعارض الفنية، إذ أقيمت أجنحة تمثل الدول المشاركة إلى جانب ورش عمل تفاعلية وأمسيات أدبية وفنية تُثري المشهد الثقافي وتعزز من التواصل بين الجمهور والموروث الشعبي.
ويُسلط جناح مجلس صحار الثقافي الضوء على عمق الثقافة والأدب والتراث العُماني في مشاركة متنوعة متميزة تؤكد الحضور العُماني الفاعل في المحافل الخليجية والدولية. ويضم الجناح سلسلة من الأنشطة التي تجذب أنظار الزوار حيث سيقدم عروضًا للفنون الشعبية العمانية مثل فن الرزحة والعازي، الذي يقوده الشاعر هزاع الشبلي بمشاركة نخبة من الشعراء، إضافة إلى معرض للفنون التشكيلية، وركن للأدب العُماني، وآخر للصور الفوتوغرافية التي تجسد ملامح التاريخ والطبيعة في سلطنة عُمان.
كما ستبدع العضوات الحرفيات المشاركات من مجلس صحار الثقافي في عرض مهاراتهن في الصناعات التقليدية مثل السعفيات والفخار والنسيج وصياغة الفضة، حيث أتيحت للزوار فرصة التعرف عن كثب على أدوات وتقنيات هذه الحرف الأصيلة، ولم تغب الضيافة العُمانية عن المشهد إذ خُصّص ركن لتقديم الحلوى العُمانية والقهوة العربية مما أضفى طابعًا من الحفاوة على الجناح.
وشارك متحف الحمراء للنقود العُمانية بجناح خاص يستعرض تاريخ العملة في عُمان، بينما نشر مصنع الحوجري للّبان عبير اللبان العُماني الأصيل في أرجاء المهرجان ليمنح الزوار تجربة عطرية فريدة.
وأكد القائمون على جناح مجلس صحار الثقافي أن المشاركة جاءت تجسيدًا لرؤية المجلس في مد جسور التواصل الثقافي بين سلطنة عُمان وشقيقاتها من دول مجلس التعاون الخليجي، وتعزيز العلاقات التاريخية الوثيقة التي تجمعها لاسيما مع المملكة العربية السعودية.
وأشاروا إلى أن المشاركة تهدف أيضًا إلى تبادل الخبرات والمعارف مع الوفود الخليجية المشاركة بما يسهم في تطوير الفكر الثقافي والأدبي والحرف التقليدية وتحديثها عبر تبادل الأفكار والابتكارات بين الحرفيين والمثقفين.
ويأتي حضور مجلس صحار الثقافي في مهرجان الحرف الدولي ضمن سلسلة من المشاركات الخارجية التي دأب المجلس على المشاركة فيها حيث سبق أن شارك في مهرجان جرش بالأردن ثلاث مرات متتالية، كما سجل حضورًا فاعلًا في فعاليات يوم التأسيس بالمملكة العربية السعودية عام 2024 إضافة إلى مشاركته في احتفالات الكويت الوطنية في ذات العام.
ويُولي المجلس هذه المشاركات أهمية كبيرة في إطار سياسته الرامية إلى تمثيل سلطنة عُمان ثقافيًا في المحافل الإقليمية والدولية تحت إشراف وزارة الثقافة والرياضة والشباب بما يتسق مع الرؤية الوطنية لتعزيز الحضور العُماني عالميًا.
وأكد أعضاء المجلس أن هذه المشاركة تأتي ضمن خطة طموحة للعام 2025م تتضمن تنظيم عدد من الفعاليات والورش والمعارض بالشراكة مع مؤسسات ثقافية خليجية وعربيةبهدف نشر الثقافة العُمانية وتعزيز الوعي المجتمعي بأهميتها.
ويمثل مهرجان الحرف الدولي بالزلفي محطة مهمة في خارطة الفعاليات الخليجية، لما يحمله من رسائل نبيلة حول صون التراث وإحياء الحرف التقليدية، ولما يتيحه من فرص لتعزيز العلاقات الإنسانية وتبادل الثقافات بين الشعوب.
ودعا مجلس صحار الثقافي زوار المهرجان إلى زيارة الجناح العُماني للاستمتاع بتجربة ثقافية متكاملة تبرز ثراء الحرف والفنون والأدب العُماني بما يعكس روح التسامح والحوار التي تشكل جوهر الثقافة العُمانية.