جدلية الخطاب الأبوي بين المسؤولية والاعتذار
تاريخ النشر: 21st, December 2024 GMT
أحمد بن محمد العامري
الأسرة هي الخلية الأولى التي يتكون فيها الإنسان وفيها تنشأ أولى علاقاته الاجتماعية والنفسية، فالعلاقة بين الزوجين تشكل العمود الفقرى لهذه المؤسسة حيث يتشاركان مسؤولية التربية والرعاية بما يضمن لأفراد الأسرة بيئة صحية ومستقرة. ومع ذلك، يظهر في هذه العلاقة أحياناً خطاب يعكس اختلافات في التصورات بين الزوجين حول دور كل منهما في حياة الأبناء، ومن أكثر العبارات لفتاً للانتباه هو خطاب الزوجة الذي يتبدل بين "أولادك" عند الحديث عن المشكلات أو الأعباء، و"أولادي" عند الحديث عن الإنجازات أو اللحظات المشرقة أو العكس، هذا التباين الظاهري في اللغة يعبر عن أبعاد نفسية واجتماعية وثقافية عميقة تستحق التأمل.
عندما تلجأ الزوجة إلى استخدام عبارة "أولادك" أثناء مواجهة المشكلات أو تحمل أعباء المصاريف فإنها تعبر عن محاولة نفسية لتخفيف الضغط الواقع عليها، علم النفس يفسر ذلك على أنه آلية دفاعية تُعرف بالإسقاط، حيث يُلقى جزء من المسؤولية على الطرف الآخر لتخفيف الشعور بالعبء أو الفشل، هذا الخطاب قد يعكس كذلك شعوراً بعدم التوازن في تقسيم المهام داخل الأسرة، حيث تحمل الأم العبء الأكبر من العناية اليومية بالأبناء وتنتظر من الأب أن يشارك بشكل أكبر عند ظهور التحديات.
على الجانب الآخر، عندما تقول الزوجة "أولادي" في لحظات الفخر أو الاعتزاز بإنجازات الأبناء فإنها تعبر عن ارتباط عاطفي عميق معهم وشعور بأنها المساهم الأكبر في تربيتهم ونجاحهم، هذه اللغة تتماشى مع ما يُعرف في علم النفس بنظرية الإنجاز الذاتي، التي تبرز كيف يرى الفرد إنجازات الآخرين، خاصة المقربين منه، كامتداد لجهوده الشخصية وهويته، هذا الفخر ينبع أيضاً من القرب اليومي والعاطفي الذي يربط الأم بالأبناء، وهو نتاج الدور التقليدي الذي يجعلها الأقرب إلى تفاصيل حياتهم.
على المستوى الاجتماعي، يعكس هذا الخطاب توزيع الأدوار داخل الأسرة كما تحدده الثقافة، كثير من المجتمعات تُعتبر الأم الحاضن العاطفي الأول للأبناء والمسؤولة عن تفاصيل حياتهم اليومية، بينما يُنظر إلى الأب كمصدر للسلطة والمسؤول عن توفير الموارد وحل الأزمات. لذلك، عندما تواجه الأم تحديات مع الأبناء، ترى في الأب شريكاً يتحمل المسؤولية عن الأزمات التي لا تستطيع السيطرة عليها بمفردها، مما يجعل عبارة "أولادك" أداة ضمنية لدعوته إلى التدخل. في المقابل، يُبرز استخدام "أولادي" في اللحظات الإيجابية شعوراً بأن الأم هي الأقدر على فهم الأبناء ورؤية جهودها في نجاحاتهم.
لكن الأثر الحقيقي لهذا الخطاب لا يتوقف عند الزوجين، بل يمتد ليطال الأبناء أنفسهم. اللغة التي يُخاطب بها الأبناء تؤثر بشكل كبير على تكوين شخصيتهم وشعورهم بالانتماء داخل الأسرة، فعندما يسمع الأبناء عبارة "أولادك" في سياقات سلبية قد يشعرون بأنهم عبء أو مصدر للمشكلات، مما يضعف ثقتهم بأنفسهم أو يعزز شعورهم بالانفصال عن أحد الوالدين. على النقيض، استخدام "أولادي" في سياقات إيجابية يعزز شعور الأبناء بالفخر والانتماء لكنه قد يُشعرهم أحياناً بأن العلاقة بينهم وبين الأب أقل قوة إذا لم يُظهر الأب نفس التقدير.
إن الخطاب الأبوي المتوازن يلعب دوراً محورياً في تعزيز استقرار الأسرة وبناء الثقة بين أفرادها، واستخدام لغة تشاركية مثل "أولادنا" يعكس إحساساً مشتركاً بالمسؤولية ويُظهر للأبناء أنهم ثمرة شراكة بين الوالدين، كما أن إظهار التقدير المتبادل بين الزوجين لجهود كل منهما في التربية يعزز روح التعاون ويُزيل أي شعور بالتنافس أو تحميل المسؤولية. من المهم أيضاً أن يتم التعامل مع المشكلات المتعلقة بالأبناء كقضايا مشتركة بعيداً عن إلقاء اللوم، ما يُظهر نموذجاً إيجابياً للأبناء حول كيفية حل المشكلات بطريقة بناءة.
الثقافة المجتمعية تلعب دوراً كبيراً في تشكيل هذا الخطاب، حيث تحدد معايير الأدوار بين الرجل والمرأة داخل الأسرة. في المجتمعات التي تتبنى نماذج تشاركية حديثة، يظهر خطاب أكثر توازناً بين الزوجين، بينما في الثقافات التقليدية قد يميل الخطاب إلى تقسيم الأدوار بشكل يبرز الفروقات بين الأب والأم، ولكن مع تطور المفاهيم الأسرية وتزايد الدعوات للمساواة في الأدوار، يمكن تعزيز خطاب أكثر تشاركية يعكس تغيرات إيجابية في بنية الأسرة.
في النهاية، حديث الزوجة مع الزوج حول الأبناء بين "أولادك" و"أولادي" ليس مجرد تفصيل يومي عابر، بل هو مرآة تعكس التفاعلات النفسية والاجتماعية داخل الأسرة، ومن خلال العمل على تطوير هذا الخطاب ليكون أكثر شمولية وتوازناً، يمكن تعزيز الروابط الأسرية وضمان بيئة إيجابية لنمو الأبناء.
الأبناء ليسوا مجرد مسؤولية فردية، بل هم ثمرة شراكة تحمل في طياتها تحديات وإنجازات مشتركة، والنجاح الحقيقي في التربية يتحقق عندما يشعر كل فرد في الأسرة، سواء كان أباً أو أماً أو ابناً، بأنه جزء من كيان واحد يُبنى على الحب والدعم والمسؤولية المشتركة.
ahmedalameri@live.com
المصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
عاجل| العدالة انتصرت لياسين.. أول تعليق من مرتضى منصور بعد الحكم التاريخي بالمؤبد في جريمة مدرسة دمنهور
في واقعة مؤلمة هزت الشارع المصري وأشعلت مواقع التواصل الاجتماعي، أصدرت محكمة جنايات دمنهور حكمًا حاسمًا بالسجن المؤبد على المتهم بهتك عرض الطفل "ياسين"، البالغ من العمر خمس سنوات، داخل إحدى المدارس الدولية الخاصة بمدينة دمنهور بمحافظة البحيرة وتعود تفاصيل الجريمة إلى يناير من العام الماضي، حين لاحظت الأم وجود أعراض صحية غريبة على طفلها، قادتها إلى اكتشاف جريمة اعتداء جنسي مروعة داخل بيئة كان من المفترض أن تكون آمنة.
جاء الحكم التاريخي في أولى جلسات المحاكمة، لتكون رسالة صارمة لكل من تسول له نفسه العبث ببراءة الأطفال، ولتؤكد أن القضاء المصري لا يتهاون في قضايا الشرف والطفولة.
أول تعليق لمرتضى منصور
علق المستشار مرتضى منصور، رئيس نادي الزمالك السابق، على الحكم عبر صفحته الرسمية على "فيسبوك"، قائلًا:
"الحمد لله أن في مصر قضاء عظيم. القضاء المصري هو الذي أخذ حق الطفل. الأم العظيمة رحاب هي التي دافعت عن شرف ابنها. حكمت محكمة جنايات إيتاي البارود منذ قليل بالأشغال الشاقة المؤبدة على العجوز الذي تعدى على طفولة الطفل ياسين."
هذا التصريح لاقى تفاعلًا واسعًا من المتابعين، الذين أشادوا بسرعة العدالة ووقوف الأم بشجاعة لحماية حقوق ابنها.
تفاصيل الجلسة
انعقدت الجلسة الأولى يوم الأربعاء بمحكمة إيتاي البارود، برئاسة المستشار شريف عدلي، وشهدت إجراءات أمنية مشددة وحضورًا جماهيريًا كبيرًا من الأهالي والمتضامنين، الذين طالبوا بالقصاص العادل للطفل. ورُفعت لافتات تحمل شعارات:
"حق ياسين لازم يرجع" و"الإعدام.. الإعدام"، في تعبير عن حالة الغضب الشعبي تجاه الواقعة.
شهدت الجلسة حضور المجني عليه وأسرته، والمتهم البالغ من العمر 79 عامًا، إلى جانب محامي الطرفين وشهود الواقعة، في حين تم منع وسائل الإعلام من التغطية داخل القاعة.
تفاصيل الجريمة
تعود تفاصيل القضية المسجلة برقم 33773 لسنة 2024 جنايات مركز دمنهور إلى اعتداء المتهم "ص. ك"، مراقب مالي بالمدرسة، على الطفل ياسين داخل دورة مياه المدرسة خلال اليوم الدراسي. وقد أثبت الطب الشرعي وجود آثار واضحة لاعتداء جنسي، مما دفع النيابة العامة لتحريك الدعوى مباشرة.
ولاحظت والدة الطفل، السيدة رحاب، بداية التغيرات الجسدية والنفسية على ابنها، ما دفعها للذهاب إلى الطبيب، ليتبين وقوع جريمة بشعة داخل حرم المدرسة.
تضامن واسع ومطالب بالقصاصتفاعلت مواقع التواصل الاجتماعي مع القضية، وسط دعوات بالقصاص العادل وتغليظ العقوبات ضد المتورطين في الجرائم الجنسية ضد الأطفال. وقد أعادت هذه القضية تسليط الضوء على أهمية وجود رقابة صارمة داخل المدارس، وتفعيل برامج توعية للأطفال لحمايتهم من أي انتهاك.