سامح قاسم يكتب: الأدب السوري وازدواجية الألم
تاريخ النشر: 20th, December 2024 GMT
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
سوريا إحدى المنارات الثقافية الكبرى في العالم العربي، امتزجت فيها الأصالة بالحداثة لتشكّل مدرسة شعرية متفردة. برزت في العصر الحديث مجموعة من الشعراء السوريين الذين أعادوا تشكيل القصيدة العربية بأساليب مبتكرة، وحمّلوها معانٍ وطنية، وقومية، وإنسانية، فضلًا عن غوصهم العميق في الذات والوجدان.
وقد تميز الشعر السوري بالتنوع، حيث جمع بين الشكل التقليدي والقصيدة الحرة، وظهر فيه مزج فريد بين التقاليد التراثية وروح الحداثة. عالج الشعراء قضايا التحرر الوطني، الاغتراب، الحب، والموت، بلغة تجمع بين الرمزية والتعبير الواقعي.
يُعتبر بدوي الجبل أحد أعمدة الشعر التقليدي في سوريا، حيث صاغ قصائده بلغة عربية فصحى تحتفي بالبيان الكلاسيكي، وتعكس ولاءً قويًا للوطن والقيم الإنسانية. كان شعره غنائيًا وعموديًا، لكنّه حمل بين أبياته أصوات الثورة والتمرد.
ديوان الشعر السوري يضم أيضا عمر أبوريشة الذي تغنّى بالوطن، وكرّس شعره لخدمة القضية الوطنية والقومية. امتازت قصائده بالأسلوب البلاغي العميق واستخدام الرمز للتعبير عن التحديات السياسية والاجتماعية.
لا يُمكن الحديث عن الشعر السوري دون الوقوف عند محطة نزار قباني، شاعر الحب والثورة. نقل قباني القصيدة العربية إلى عصر جديد، حيث كسر التقاليد الشكلية، وجعلها أقرب إلى حياة الإنسان العادي. تناولت قصائده موضوعات الحب، المرأة، الحرية، والقضايا القومية.
عند الحديث عن الشعر السوري لا نستطيع أن ننسى شاعر الحداثة وصوت الفقراء، محمد الماغوط، وهو أحد أبرز رواد قصيدة النثر في العالم العربي. تميز شعره بالبساطة، وعمق الدلالة، واحتفاء بالإنسان المُهمش، وغلبت عليه النزعة السوداوية والتأمل في معاني الحياة.
هناك أيضا رياض الصالح الحسين الذي استطاع أن يصوّر الحياة اليومية بكل بساطتها وتعقيداتها. كُتبت قصائده بلغة حداثية تعبر عن صراع الإنسان مع الفقد والوحدة.
لا يُذكر الشعر العربي بوجه عام والشعر السوري بوجه خاص إلا ويُذكر معهما أدونيس أحد أبرز المجددين في الشعر العربي، وقد أثرى الشعر السوري بمضامين فلسفية وصوفية عميقة. غاص في النفس البشرية، واستعان بالرموز والأساطير لتقديم رؤيته للعالم.
يمكننا القول بعد الاطلاع على والتأمل في الأدب والشعر السوري أن الهوية الشعرية السورية امتازت بالقدرة على التجدد، حيث استطاعت أن تحتضن الإرث العربي الكلاسيكي وتُدخل عليه أساليب الحداثة. شكّلت سوريا من خلال شعرائها محطة ثقافية ذات ثقل، فصارت قصائدهم شاهدةً على روح عربية تتطلع دومًا للحرية والجمال.
الشعر السوري هو سجلّ حافل للحياة السورية بأبعادها الوطنية والإنسانية. لقد عبّر الشعراء السوريون عن معاناة شعبهم وأحلامه بحساسية عالية ولغة متجددة، فحفروا أسماءهم في الذاكرة الأدبية العربية. إن هذا الإرث الشعري الكبير ليس مجرد كلمات، بل نبض حياة وشهادة على حقبة من الزمن، حيث امتزج الألم بالأمل، والنضال بالحلم.
الأدب السوري قبل "الثورة" حمل في طياته بذور المقاومة بشكل رمزي، حيث عالج القضايا الكبرى من خلال اللغة الشعرية والثورية. إلا أن أحداث "الثورة" أجبرت الأدب على أن يصبح أكثر وضوحًا، وأكثر مواجهة للواقع السياسي والاجتماعي. فجاءت النصوص الأدبية تعبيرًا مباشرًا عن الألم السوري، عن الدماء المسفوكة، والمنازل المدمرة، والأحلام المنكسرة.
لم يكن الشعر السوري وحده في طليعة من عبّروا عن روح الثورة. كانت الرواية أيضا بمثابة وسيلة لتوثيق الواقع بجرأة. حيث تناولت الروايات السورية موضوعات النزوح، فقدان الأحبة، انهيار المجتمعات، وأهوال الحرب. أحد أبرز الأصوات في هذا السياق كان خالد خليفة، الذي قدّم في روايته "الموت عمل شاق" شهادة مؤثرة عن معاناة العائلة السورية في ظل الحرب.
القصة القصيرة في سوريا كانت سلاحًا آخر. كاتب مثل زكريا تامر، الذي اشتهر بلغة مكثفة وحادة، قدم صورًا رمزية وثورية منذ زمن بعيد.
مع تهجير ملايين السوريين إلى المنافي، أصبحت الغربة موضوعًا محوريًا في الأدب السوري. استطاع الأدباء في الشتات أن يوثقوا الحنين للوطن والتجربة المرة للجوء، مقدمين أدبًا يعكس ازدواجية الألم: ألم الغربة وألم الوطن الجريح.
المصدر: البوابة نيوز
كلمات دلالية: سوريا العالم العربي سامح قاسم الأدب السوري الشعر السوری
إقرأ أيضاً:
موقف حركة النهضة وحلفائها من الثورة السورية
في خاتمة المقال السابق، كنا قد أشرنا إلى أن قراءة مواقف الفاعلين السياسيين والمدنيين التونسيين من الثورة السورية لا تكتمل إلا بالاشتغال على موقف أحد أهم الفاعلين السياسيين خلال مرحلة الانتقال الديمقراطي؛ ألا وهو حركة النهضة. ولا يمكن فصل هذه الحركة عن حلفائها سواء أولئك الحلفاء الاستراتيجيين (ائتلاف الكرامة أو حزب المؤتمر بقيادة الدكتور منصف المرزوقي) أو أولئك الذين التقوا معها موضوعيا دون اعتراف مبدئي. فرغم الالتقاء البراغماتي بين حركة النهضة والتكتل الديمقراطي (خلال مرحلة الترويكا)، والالتقاء بينها وبين حركة نداء تونس أو تحيا تونس (خلال مرحلة التوافق) والتقائها مع حركة قلب تونس (بعد انتخابات 2019)، فإننا لا نعتبر هذا الالتقاء من باب التحالف الاستراتيجي أو الاعتراف المبدئي بهذه الحركة، بل هو مجرد تقاطع مصالح ظرفي لم يكسر التقابل الجذري الذي حكم المشهد السياسي التونسي منذ المرحلة التأسيسية، أي التقابل بين "العائلة الديمقراطية" وبين النهضة وائتلاف الكرامة باعتباره -حسب ما يسمى بالقوى الديمقراطية- مجدر "واقي صدمات" أو جسما وظيفيا في خدمة النهضة مثلما كان شأن "لجان حماية الثورة".
لو أردنا فهم موقف حركة النهضة من الثورة السورية، فإن الانطلاق من بيان المكتب التنفيذي للحركة يوم 9 كانون الأول/ ديسمبر سيكون مدخلا جيدا، ولكنه مدخل لا يختزل تعقد الملف السوري -محليا وإقليميا- ولا تعقد المتغيرات التي حكمت مواقف الحركة منذ انطلاق الثورة السورية بصورة سلمية وتحولها التدريجي إلى نزاع مسلّح ذي تداعيات على الأمن الوطني التونسي، خاصة في ملفي الإرهاب والتسفير. ولكننا سنترك ذلك البيان ولن ندرسه إلا في موضعه من مسار الموقف النهضوي من الثورة السورية.
مهما كان موقفنا من "القوى الديمقراطية"، في ملف إفشال الانتقال الديمقراطي، أو في ملف العلاقة بمحور الثورات المضادة أو في ملف دعم الأنظمة الاستبدادية، فإن مواقفها تبدو أكثر مبدئية وأقل تأثرا بالوقائع محليا وخارجيا. ذلك أن هذه القوى دافعت عن النظام السوري في أسوأ الوضعيات التي مرّ بها، وما زالت تدافع عنه حتى بعد سقوطه
لقد كان الملف السوري من أكثر الملفات التي عمّقت التقابل بين "القوى الديمقراطية" السياسية والمدنية وبين حركة النهضة والرئيس الأسبق محمد المنصف المرزوقي. ففي 2 شباط/ فبراير 2012 (أي على عهد حكومة الترويكا التي شهدت تحالفا سياسيا بين النهضة وحزب المؤتمر والتكتل الديمقراطي) استضافت تونس مؤتمر "أصدقاء سوريا" بحضور سبعين بلدا، بعد عرقلة روسيا والصين لمشروعي إدانة للنظام السوري. ورغم أن قطع تونس لعلاقاتها الديبلوماسية مع النظام السوري سنة 2012 (بعد مجزرة حي الخالدية في مدينة حمص) كان متوافقا مع توجهات جامعة الدول العربية وأغلب القوى الإقليمية والدولية، فإن هذا القرار السيادي لم يُرض أغلب "القوى الديمقراطية" التي اعتبرت الموقف التونسي دعما للإرهاب وضربا لمحور "المقاومة والممانعة".
لقد كان موقف حركة النهضة خلال عشرية الانتقال الديمقراطي خاضعا لضغطين كبيرين: ضغط القواعد الانتخابية والحلفاء من جهة (وهو ضغط يدعو إلى تصليب الموقف من لا شرعية النظام السوري، خاصة بعد اعتراف مؤتمر سوريا بـ"المجلس الوطني السوري" ممثلا وحيدا للشعب السوري)؛ وضغط الأغلب الأعم من مكونات المشهد التونسي أو النخب السياسية والنقابية والإعلامية والثقافية التي حاولت توظيف الأزمة السورية للربط بين الحركة والإرهاب، خاصة في ملف التسفير إلى سوريا.
فقد حاولت تلك القوى بعد نجاحها في إسقاط حكومة الترويكا أن تعيد صراعها السياسي مع حركة النهضة إلى المربع الأمني القضائي، سواء بملف "التنظيم السري" أو ملف التسفير. ولأن ملف تورط بعض الجمعيات المدنية في التسفير إلى سوريا مازال مفتوحا أمام القضاء، فإننا سنكتفي بالإشارة إلى حرص "القوى الديمقراطية" على التعامل بازدواجية المعايير مع هذا الملف. فالتسفير لم يشمل فقط تورط بعض التونسيين في الحركات الجهادية السورية، بل تورط البعض الآخر في المجاميع شبه العسكرية الداعمة للنظام السوري (كتيبة محمد البراهمي). ولا شك في أن إدانة "المجاميع الجهادية" (وهو أمر منطقي بحكم عملها خارج الأطر الرسمية، بل على الضد من الموقف الرسمي التونسي الرافض لتسليح المعارضة وللتدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى) لا ينفي إدانة "المجاميع التشبيحية" التي مارست السلوك نفسه، أي لا ينفي التعاطي القضائي مع التونسيين الذين حاربوا مع النظام السوري بصورة غير شرعية وخارج وصاية الدولة التونسية، بل ضد مواقفها الرسمية.
بعد دخول مرحلة التوافق مع حركة تونس منذ 2014، لم يكن لحركة النهضة من التأثير السياسي أو من القدرة التفاوضية ما يمنع الرئيس التونسي الراحل الباجي قائد السبسي من فتح مكتب للخدمات الإدارية والقنصلية في سوريا منذ وصوله إلى قصر قرطاج. ورغم أن هذا القرار لم يكن يعني تطبيع العلاقات مع النظام السوري، فإنه كان خطوة في ذلك الاتجاه. فهذا القرار هو اعتراف بشرعية النظام، ولكنها خطوة لم تكن ترتقي إلى مستوى انتظارات "العائلة الديمقراطية" ومكوناتها التي دعمته ضد السيد منصف المرزوقي بمنطق "الانتخاب المفيد". فهذه الخطوة "الرمزية" لا ترتقي إلى مستوى ما وعد به خلال حملته الانتخابية بإعادة العلاقات الديبلوماسية مع سوريا.
ونحن هنا لا نتفق مع السيدة مباركة عواينية (أرملة الشهيد محمد البراهمي) التي رأت أن إسقاط اللائحة البرلمانية المطالبة بإعادة العلاقات الديبلوماسية مع سوريا سنة 2017 كان نتيجة صفقة بين حركة النهضة وحركة نداء تونس (إسقاط نواب نداء تونس للائحة مقابل تمرير نواب النهضة لمشروع قانون المصالحة مع بعض رموز الفساد المالي والإداري خلال حكم المخلوع). فالمرحوم الباجي لم يتردد في استضعاف حركة النهضة في ملفات أكثر إحراجا لها أمام قواعدها الانتخابية، مثل ملفات الجنسية المثلية ورفع الاحترازات عن اتفاقية سيداو (مسألة المساواة في الميراث بين الجنسين)، بل لم يتردد في فرض أحد رموز التطبيع (السيد خميس الجهيناوي) لإدارة ملف السياسة الخارجية منذ المرحلة التأسيسية.
لقد كان موقف المرحوم الباجي محكوما أساسا باعتبارات إقليمية ودولية، فالجامعة العربية وأهم القوى الدولية لم تكن قد أعطت الضوء الأخضر لتونس أو لغيرها لتطبيع العلاقات مع النظام السوري. وهو ما فهمه الأستاذ عبد الفتاح مورو، مرشح حركة النهضة للانتخابات الرئاسية سنة 2019، عندما قال: "نحن بلاد منضوية تحت منظمة عربية، ولنا سياسات مشتركة مع الدول العربية لا يمكن أن نخرج عنها"، مضيفا أن "كل تغيير يحصل (في الموقف من سوريا) ينبغي الاقتناع به داخل هذه المنظمة لننفتح على واقع جديد".
ولا شك في أن بيان حركة النهضة الصادر سنة 2019 والذي تحدث عن "مصالحة وطنية شاملة يستعيد فيها الشعب السوري حقه في أرضه وفي حياة ديمقراطية، وتضع حدا للتقاتل وما نتج عنه من مآس إنسانية" لا يخرج عن هذا النطاق، ولكنه لا ينفي أيضا أن موقف الحركة مرتبط بالتوازنات السياسية الداخلية بصورة أفقدته الكثير من المبدئية. فالارتباط الشرطي بالتوازنات المحلية والخارجية جعل مواقف الحركة براغماتية ومرتبطة بموازين القوى أكثر من ارتباطها بقاعدة مرجعية صلبة.
ومهما كان موقفنا من "القوى الديمقراطية"، في ملف إفشال الانتقال الديمقراطي، أو في ملف العلاقة بمحور الثورات المضادة أو في ملف دعم الأنظمة الاستبدادية، فإن مواقفها تبدو أكثر مبدئية وأقل تأثرا بالوقائع محليا وخارجيا. ذلك أن هذه القوى دافعت عن النظام السوري في أسوأ الوضعيات التي مرّ بها، وما زالت تدافع عنه حتى بعد سقوطه.
رغم أن عودة العلاقات الديبلوماسية بين تونس وسوريا جاءت في إطار تطبيع عربي شامل مع النظام السوري (عودة سوريا إلى الجامعة العربية بعد تعليق عضويتها منذ 2011)، فإن النهضة -ممثلةً في المستشار السياسي لرئيس الحركة السيد رياض الشعيبي- قد اعتبرت أن هذا القرار "يدخل في إطار سعي السلطات إلى البحث عما يؤيد ادعاءها بـ"تورط" الحركة في ملف التسفير إلى بؤر التوتر". وإذا كان السيد الشعيبي لا يرفض -من منطلق ما يسميه بـ"الموقف الأيديولوجي المنغلق"- عودة العلاقات الديبلوماسية مع سوريا، فإنه يعتبر أن ذلك القرار قد جاء مدفوعا بـ"العقل الأمني" الباحث عما يؤيد تورط حركته في ملف التسفير، ولم يكن بحثا عن دور إيجابي في حل الأزمة السورية.
ولكن بعد مرور أكثر من سنة على عودة العلاقات الديبلوماسية بين تونس وسوريا، لا يبدو أن "مخاوف" السيد الشعيبي أو تفسيره لأسباب إعادة العلاقات مع سوريا مطابقة للحقيقة. ولذلك فإننا نعتبر أن تصريحاته لا تعكس أسباب ذلك القرار السيادي (موقف جامعة الدول العربية وحلفاء تونس الإقليميين) بقدر ما تعكس استمرارا لمنطق "المظلومية"، تلك المظلومية التي وظفتها النهضة بعد الثورة ثم أضاعت جزءا كبيرا منها بسبب خياراتها التوافقية المرفوضة حتى داخل قواعدها الانتخابية. ونحن نعني بالتوافق هنا خيار التطبيع مع المنظومة القديمة بشروط تلك المنظومة وبعيدا عن استحقاقات الثورة وانتظارات عموم التونسيين.
إثر سقوط النظام السوري أصدر المكتب التنفيذي لحركة النهضة يوم 9 كانون الأول/ ديسمبر 2024 بيانا هنّأ فيه الشعب السوري بـ"انتصار ثورته". وقد حرص بيان الحركة على عدم تهنئة فصائل المعارضة أو ذكرها بالاسم، كما حرص البيان على "تصدير" التجربة التوافقية التونسية إلى سوريا تحت مسمى "الوحدة الوطنية"، وحرص أيضا على التعامل مع الثورة السورية وكأنها نسخة أخرى من الثورة التونسية وشعاراتها في الحرية والعدالة والكرامة والمساواة. كما تجنب البيان أي إشارة إلى البنية الطائفية أو الخلفية البعثية للنظام السوري. فالثورة السورية هي "انتصار الحرية على الاستبداد"، وهو موقف لا يمكن فصله عن الواقع التونسي وإكراهاته.
نرجح مواصلة الرئيس لمشروعه السياسي بمنطق البديل لا بمنطق الشريك، فإن تونس قد تعرف تقاربا بين الرئيس وبين بعض مكونات "العائلة الديمقراطية" لاستباق أي استفادة ممكنة لحركة النهضة من الثورة السورية. ولكن قد يذهب النظام إلى نوع من التهدئة أو الاحتواء لحركة النهضة، بعيدا عن منطق الإقصاء والمقاربة الأمنية للصراع السياسي. وفي كل الحالات، فإننا نستبعد حصول أي تقارب بين حركة النهضة وبين القوى اليسارية والقومية المعارضة
فالنهضة لا تستطيع مقاربة الملف السوري إلا بترسانة مفهومية "توافقية" قد تسبب لها انتقادات واسعة حتى في صفوف حلفائها السابقين (مثل الرئيس المرزوقي)، ولكنها تبعدها عن أي استهداف على أساس الهوية الأيديولوجية من طرف النظام أو حلفائه الموضوعيين، حتى داخل المعارضة اليسارية والقومية. فسقوط النظام السوري لا يعني بالضرورة سقوط سرديات الاستئصال الصلب والناعم في تونس، كما لا يعني حصول انفراجة سياسية أو تقارب بين القوى المعارضة. بل إن سقوط النظام السوري قد يعني عودة الصراعات الهوياتية في تونس على أساس ملفي التسفير والإرهاب.
ختاما، فإن سقوط النظام السوري وقيام حكومة جديدة في دمشق، هو أمر قد يفتح تونس على سيناريوهات متناقضة، وهي سيناريوهات لا يمكن أن يكون المحدد الأساسي أو النهائي فيها محليا صرفا. فطوفان الأقصى ومشروع الشرق الأوسط الجديد يلقيان بظلالهما على المشهد التونسي من خلال المحاور الإقليمية والاستراتيجيات الدولية المتناقضة.
ورغم أننا نرجح مواصلة الرئيس لمشروعه السياسي بمنطق البديل لا بمنطق الشريك، فإن تونس قد تعرف تقاربا بين الرئيس وبين بعض مكونات "العائلة الديمقراطية" لاستباق أي استفادة ممكنة لحركة النهضة من الثورة السورية. ولكن قد يذهب النظام إلى نوع من التهدئة أو الاحتواء لحركة النهضة، بعيدا عن منطق الإقصاء والمقاربة الأمنية للصراع السياسي. وفي كل الحالات، فإننا نستبعد حصول أي تقارب بين حركة النهضة وبين القوى اليسارية والقومية المعارضة.
ونحن لا نعتبر أن سقوط النظام السوري هو العلة الحقيقية لامتناع التقارب بين النهضة وبين أغلب مكونات "العائلة الديمقراطية" في السياق الحالي أو في أي سياق منظور، بل إننا نرد ذلك الامتناع إلى الجوهر الإقصائي واللاديمقراطي للسرديات الأيديولوجية الكبرى، كما نرده إلى المصالح المادية والرمزية والقضايا الصغرى التي توظَّف السرديات الكبرى لحمايتها وشرعنتها.
x.com/adel_arabi21