#تأملات_قرآنية
د. #هاشم_غرايبه
يقول تعالى في الآية 44 من سورة الأنعام: “فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّىٰ إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ”.
يبين الله تعالى بعض سننه في تقدير إنعاماته على الناس، وهي أن عطاء الله لبعض خلقه ليس بالضرورة مكافأة على حسن عملهم، بل قد يكون للكافرين امدادا فيوغلوا بالضلالة، وهكذا يصبح عقوبة لأنه أعشى عيونهم عن الهدى، فيحق عليهم العذاب.
لقد أنبأنا بأنه لعدالته، فعطاؤه عام لكل خلقه ابتداء، بغض النظر عن طاعة المخلوق أو عصيانه: “كُلًّا نُمِدّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاء رَبّك وَمَا كَانَ عَطَاء رَبّك مَحْظُورًا” [الإسراء:20]، ثم يتفضل على من يشاء من الشاكرين منهم بفضله زيادة أو انقاصا، بقصد الإبتلاء والتمحيص، وأما الجاحدون المنكرون لفضله، فعقوبته لهم أنه يحرمهم من فرصة التوبة، التي تؤهلهم لنوال مغفرته وثوابه في الآخرة.
من خلال التفكر في هذه الآية، يمكننا الإلمام بشيء من الحكمة في تصريف الأمور التي تتم في الحياة الدنيا، وكيف أن هنالك ارتباط لها بالحياة الآخرة ومنها:-
1 – إن عطاء الله لعباده أصلا منتج ابتدائي لكرم الخالق، فهو ليس مثوبة ولا عقوبة.
2 – هذا العطاء يكون على وجهين أساسي: وهو شامل للنعم المعطاة للجميع كالحياة والعقل وكمال الوظائف الجسدية، والإنتفاع بالجوارح والحواس ..الخ، والوجه الثاني تخصيصي لبعض دون آخرين وبدرجات متعددة، مثل الإمداد بالمال والبنين والجاه والعلم والمواهب ..الخ.
3 – في العطاء الأساسي الشمولي، لا يشترط التساوي، وهذا التمايز الظاهري من أجل إظهار قيمة النعم الممنوحة لكن ذلك لا ينتقص من العدالة الإلهية المطلقة، فقد يتم التعويض في الفوارق في أمور أخرى، إنما كان التباين للتنبيه، فلا يحس المرء بمدى نفع النعمة إلا حين نقصها.
4 – في العطاء التخصيصي، قد لا يمكن الالمام بكل الحكمة العميقة حتى لأولي الألباب، بل ببعضها والظاهر منها، ويكون على أبواب كثيرة منها:
أ- عطاء دنيوي جزاء الإخلاص في العمل وبذل الجهد، مثل المجد والمردود المادي الذي يناله العالِم والمخترع والحاكم العادل والمصلح الإجتماعي، حتى لو كان غير مؤمن، وهذه مكافأة لمن نفع الناس أو أزال عنهم ضررا، لكن أثرها يبقى في الدنيا ولا ينفعه في الآخرة: “وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ” [الشورى:20]
ب – وهنالك جزاء في الآخرة فوق جزاء الدنيا لمن يفعل كل ذلك وهو مؤمن ويبتغي به وجه الله “وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا ۚ وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ” [آل عمران:145].
ج – عطاء الدنيا قد يكون جزاء من جنس العمل، مثل البركة في المال أو زيادة الدخل لمن ينفق على عياله أويتصدق على غيره، وقد يكون في غير جنسه، مما قد يكون المرء بحاجة إليه ولا يحل المال مشكلته، كالشفاء من العلل “داوو مرضاكم بالصدقة” [حديث شريف]، أو بالنجاة من حادث، أو بمخرج من ضيق، أو التوفيق في العمل، أو صلاح الذرية، أو الذكر الحسن.
د – ليس شرطا تلازم العطاء مع الفعل الحسن، فالتوقيت يقدره الحكيم الخبير، ولأنه علام الغيوب فتقديره فيه الخير للعبد أكثر من تقدير العبد ذاته.
5 – كل ما سبق ذكره من عطاء الله خير ومثوبة، أمّا ما جاء ذكره في هذه الآية الكريمة فهو العطاء الخطير، وهو أن يمد الله للعاصين والظالمين والطغاة، حتى يتمادوا في غيهم ويظنوا أن الله غافل عما يفعلون، فيصلوا الى نقطة لا يمكنهم فيها العودة عن ضلالهم، فيكونوا قد استحقوا العقاب.
إن الله لا يكره أحدا من خلقه، بل يكره التوجه الى الضلال بعد تبين الهدى، لذلك يمقت أفعال الضالين وليس أشخاصهم، ولو علم في أحدهم خيرا لهداه ولفرح باهتدائه، لكنه يعلم أن دخاءلهم فاسدة، ولو تاب عليهم لعادوا لما نهوا عنه، هؤلاء يكره اختلاطهم بالصالحين، فلا يهديهم ولا يصلح بالهم، مثلما كره انبعاث المنافقين في غزوة العسرة فثبطهم، فخسروا فرصة التوبة وانكشف زيفهم للمؤمنين.
لذلك فالخاسر الأكبر هو المنافق الذي يعتقد أنه بنجاحه بإخفاءه عداءه لمنهج الله عن الناس قد نجى، فالله قد يكون مد له ليتمادى، ليستحق عقابه الأليم.
المصدر: سواليف
كلمات دلالية: تأملات قرآنية هاشم غرايبه قد یکون
إقرأ أيضاً:
من الذكورة السامة إلى التحرش: تأملات في فلسفة السلطة والجسد
في عالم ما بعد الحداثة، حيث تتفكك الهويات الثابتة وتنسف الرؤى التقليدية للمعرفة، يصبح التحرش ليس مجرد فعل مادي يحدث في الشارع أو مكان عام، بل هو أيضًا بنية معرفية تخلق التفرقة بين “الذات” و”الآخر”. هو ثمرة لحقب تاريخية حملت في طياتها اختلالات فكرية جعلت من الجسد الأنثوي ساحة للصراع الرمزي، بين ما هو مقدس وما هو مدنس، وبين ما يُقبل وما يُرفض. فالتوترات بين الجنسين ليست مجرد صراع بيولوجي، بل هي صراع ثقافي مرتبط بالعلاقات الاجتماعية التي تعيد إنتاج نفسها على مدار الزمن.
من خلال هذه الفكرة، يظهر الجسد الأنثوي ليس ككيان ذاتي يُعبّر عن حرية الفرد، بل كفضاء يُخضع لسلطة ثقافية، حيث يُنظر إليه كجسم للاستهلاك، التسلية، أو حتى كأداة للسيطرة. وعليه، يصبح التحرش بكل أشكاله ليس فقط سلوكًا فرديًا أو تصريحًا كلاميًا، بل هو أسلوب لتأكيد الوجود في نظام اجتماعي يدافع عن امتيازات طبقية وذكورية قديمة، حتى وإن تغيرت أشكالها. هذا السلوك يعكس ضرورة وجود الآخر ليظل المُهيمن في مكانه، وبالتالي فإن التحرش يصبح أداة لصيانة الهياكل الاجتماعية التي تقوم على الهيمنة الذكورية، وهو ما يعزز من استمرار هذه الأنماط القمعية.
العقل الذي يعرض هذه الظاهرة يتأثر بعوامل عديدة، منها البناء الاجتماعي والتاريخي، حيث يتم تجسيد الهويات من خلال الرموز والممارسات اليومية. أما في نظر علماء النفس، مثل سيغموند فرويد، فإن التحرش يعبر عن نزاع داخلي في النفس البشرية بين رغبات مكبوتة وأعراف اجتماعية تضغط على الفرد لكي لا يعبّر عن هذه الرغبات بشكل علني. هنا، يصبح التحرش ليس فقط فعلًا ضارًا للجسد الأنثوي، بل هو أيضًا علامة على خلل أعمق في البنية النفسية للمعتدي، وهو ما قد يعكس اضطرابًا في العلاقة مع الهوية الشخصية والسلطة. هذا الجانب النفسي يرتبط بتصورات الفرد حول الجسد والسلطة، حيث إن الشخص الذي يمارس التحرش قد يكون في الواقع يعبر عن هشاشة داخله وتوتره النفسي الذي يترجم إلى محاولة الهيمنة على الآخرين، بما في ذلك الجسد الأنثوي الذي يُعتبر رمزيًا جسد السلطة وموضوع السيطرة.
عندما ننظر إلى هذه الظاهرة من منظور كل من لويس ألتوسير وميشيل فوكو، يمكننا أن نرى أن التحرش هو جزء من عملية “التشكيل الأيديولوجي” للمجتمع. في هذا السياق، يرى فوكو أن السلطة لا تقتصر على المؤسسات القمعية فقط، بل هي موجودة في كل جانب من جوانب حياتنا اليومية، بما في ذلك الطريقة التي ننظر بها إلى الآخر وكيف نحدد مساحات الجسد والمكان. فالجسد الأنثوي في هذا السياق هو ساحة للصراع بين الأيديولوجيات التي تستمر في تهميش وتقييد النساء، مما يخلق ديناميكيات قمعية تظل محورية في الثقافة المعاصرة.
التفسير الفوكوي لهذه العلاقة بين الجسد والسلطة يُظهِر كيف أن التحرش ليس مجرد حالة فردية للعدوان، بل هو نتاج لبنية اجتماعية أوسع، حيث يتداخل الذكاء الاجتماعي مع الذكورية السامة التي تُعيد إنتاج نفسها من خلال الإعلام، التربية، والعلاقات الاجتماعية اليومية. التحرش، في هذه الحالة، لا يُفهم فقط باعتباره سلوكًا منحرفًا، بل جزءًا من دائرة السيطرة التي تُمثلها هذه البنى الثقافية المستمرة.
هذا التفسير يكشف عن كيفية تجذر التحرش في بنية مجتمعية تشجع على تبني النماذج التقليدية للجنس والسلطة، والتي تُصر على تعزيز الذكورية السامة عبر أطر تربوية وتعليمية تجعل من الجسد الأنثوي هدفًا للتسلط والهيمنة الرمزية.
وبينما نجد أنفسنا في عالم مليء بالتغيرات السريعة والتحولات الفكرية التي تعيد تشكيل هوياتنا، يجب أن نتساءل: كيف يمكن فهم التحرش في ظل هذه الفوضى المعرفية؟ هل يمكننا حقًا وضع إطار ثابت لفهمه؟
في عالم ما بعد الحداثة، تصبح الإجابة على هذه الأسئلة متشابكة، حيث لا توجد إجابة واحدة، بل تعدد للحقائق. إن التحرش، بما هو كائن ثقافي واجتماعي، يمكن أن يظهر في صورة أشكال متعددة: من الاعتداء اللفظي في الشوارع إلى تصرفات سلوكية في الأماكن العامة، وكل ذلك يشكل شبكة من الأفعال التي تُعيد تأكيد الأدوار التقليدية. هذه الأشكال المتعددة لا تنفي أنها مرتبطة ببنية فكرية وثقافية معقدة، تستمر في إنتاج آليات القوة التي تحدد “المكان” و”الحق” في التعبير عن الذات، وتؤكد على الهيمنة الذكورية في المجتمع.
ومن هذا المنظور، لا يُمكن أن يكون التحرش مجرد فعل فردي، بل هو تجسيد لثقافة من التسلط تتجذر في الفكر الاجتماعي والنفسي للأفراد. هذا التسلسل من الأفعال يحمل في طياته تناقضات معمارية في المجتمع الذي لا يزال يراهن على الهويات الثابتة للذكورة والأنوثة، ويستمر في تكرار أنماط القمع الرمزية والجسدية. يُصبح التحرش إذاً ليس مجرد حالة من الفوضى الجنسية، بل هو عملية منتجة لقوى اجتماعية وثقافية تعمل على استمرارية الهيمنة وتثبيت الفوارق بين الجنسين. كما أن هذا التكرار للممارسات القمعية لا يقتصر على الأفراد، بل يمتد إلى المؤسسات والأنظمة التي تعزز هذه الفوارق وتعزز من منطق “الآخرية” لدى النساء، مما يعيد إنتاج السياسات الاجتماعية التي تساهم في تفشي التحرش على المستوى المجتمعي.
وعليه، فإن التقليل من أهمية هذه الظاهرة أو محاولة تقليصها إلى مجرد “أفعال فردية” هو تهرب من المسؤولية الاجتماعية التي تتحملها المؤسسات الثقافية والنفسية في إعادة تشكيل هذه الهويات. لا يمكن أن تكون الحلول للقضاء على التحرش محدودة بالقوانين التي تُعاقب الفعل فقط، بل يجب أن تشمل أيضًا إعادة بناء ثقافة كاملة تُعيد التفكير في مسألة الجسد، السلطة، والهوية. لذلك، يجب أن تكون المعالجة أكثر شمولًا بحيث تتضمن تغييرًا بنيويًا في طريقة فهمنا للجسد والعلاقات بين الجنسين. وهذا يتطلب جهدًا جماعيًا يشمل المجتمع المدني، والمؤسسات التعليمية، ووسائل الإعلام، التي تستطيع إعادة تشكيل الفكر الجماعي تجاه الجنس والسلطة.
هذه الثورة الثقافية والمعرفية، إن تمت، ستكون مدخلًا للتحرر الحقيقي من التسلط، وسيبدأ المجتمع في فهم التحرش ليس فقط كحالة تضر بالنساء، بل كجزء من جرح أعمق في بنية السلطة الاجتماعية التي تستمر في تكريس هيمنة الذكور على الفضاءات العامة والخاصة.
إن التحليل العميق للتحرش باعتباره بنية ثقافية واجتماعية يُبرز ضرورة مواجهة هذه الظاهرة من جذورها، وليس فقط معالجة أفعالها الظاهرة. فالتصدي للتحرش يتطلب أكثر من مجرد تطبيق قوانين ردعية، بل يستدعي تغييرًا ثقافيًا حقيقيًا يعيد تشكيل فهمنا للجسد والسلطة. علينا أن نعيد التفكير في طريقة تربية الأجيال القادمة، في كيفية بناء هوياتهم الجنسانية والاجتماعية بعيدًا عن الأنماط التقليدية التي تساهم في تعزيز الهيمنة الذكورية.
فإذا كانت السلطة المجتمعية قد عملت على تكريس هذه الهياكل القمعية على مدار عقود، فإن الطريق إلى التحرر يتطلب جهدًا جماعيًا يشمل التغيير في بنية الفكر الاجتماعي والنفسي. الثورة الثقافية والمعرفية التي نتحدث عنها ليست مجرد رفاهية فكرية، بل هي شرط أساسي لإرساء مجتمع أكثر عدلاً، حيث يُحترم الجسد البشري، ويُعاد تحديد العلاقات بين الأفراد وفقًا لقيم الحرية والمساواة.
عندها فقط، ستتمكن الأجيال القادمة من العيش في بيئة لا تحكمها قوة هيمنة أو ثقافة قمعية، بل بيئة تشجع على احترام الآخر وتقديره بعيدًا عن التصنيفات الجندرية الجامدة.
إبراهيم برسي
zoolsaay@yahoo.com