إسرائيل وخطة الهيمنة على الشرق الأوسط
تاريخ النشر: 19th, December 2024 GMT
منذ عدة أيام، كثّفت إسرائيل غاراتها على طرطوس، مواصلةً نهجها التصعيدي الذي يعكس شهيتها المفتوحة للعدوان. وقبل ذلك بأسبوع، خرج نتنياهو في مؤتمر صحفي، مستعرضًا ما وصفه بإنجازات إسرائيل خلال العام الماضي، أو بصياغة أدق، مستعرضًا إنجازاته هو وأفضاله على إسرائيل، ولماذا يتوجب عليها التمسك به، وهو من يستطيع إدارة الأزمات، مهما استفحلت، بحزم وقوة.
اللافت أنه أبقى كل الملفات مفتوحة، رغم أنّه يستطيع إغلاقها، على الأقل ملفّ لبنان الذي أنجز فيه اتفاقية مبرمة، محددة المعالم. ولكن بطبيعة الحال، كان نتنياهو يحاول أن يشير إلى أن إسرائيل ما زالت تحتاج إليه، وهذا ما كان يعنيه عندما صرّح بكلمات واضحة أنه: "يأمل أن إسرائيل سوف تبقى في المستقبل إلى الأبد". فهو يقول بطريقة غير مباشرة: إن هذا كله منوط بخياراتكم وتعاملِكم معي أنا "المخلّص".
لكن بعدها بيوم واحد فقط، يقف نتنياهو على منصة الاتهام، ليذكره هذا بأن ما تبقّى أمامه ليس سوى سنوات قليلة، قد تكون ثلاثًا لا أكثر، (إذا لم تتدخل أي عوامل خارجية) ليصدر القرار الحاسم لحياته السياسية. أضف إلى ذلك أنه سوف ينهي العقد الثامن، وبالتالي يتوجب عليه أن ينهي ميراث حياته السياسية.
إعلاننتنياهو كان واضحًا، على الأقل في الأشهر الأربعة الأخيرة، أن إسرائيل، أو لنسمّه مشروع نتنياهو، يتمثل في خطوتين: الأولى هي بسط نفوذ إسرائيل بالكامل ما بين البحر والنهر، وبات واضحًا أن هناك مطامع حقيقية في ألا تخرج إسرائيل القطاع عن سيطرتها.
وهو كذلك لم يخفِ أبدًا طمعه في أن تكون إسرائيل ذات سيادة وهيمنة داخل الشرق الأوسط.
ثم تأتي سوريا. يسقط نظام الأسد، حامي حمى جبهة إسرائيل منذ عام 1974. فهذه الحدود (حدود هضبة الجولان المحتل) كانت تعتبر الأهدأ إسرائيليًا منذ ذلك التاريخ، بل وأكثر هدوءًا من حدود إسرائيل مع الأردن ومصر بعد اتفاقيات السلام. بلغة مكتوبة أو غير مكتوبة، كان من الواضح أن هناك تفاهمات مبيّتة بين النظام المخلوع وإسرائيل، وأن إسرائيل تقدّر جهود النظام في كبح جموح الفلسطينيين وثوّار الفلسطينيين، كما كان واضحًا في محطات تاريخية مهمة.
ومع ذلك، لم تكن إسرائيل راضية أبدًا عن "أوتوستراد طهران- الضاحية الجنوبية". وبالتالي، كان جُلّ استباحتها واستهدافها للأجواء السورية يقتصر فقط على ضرب هذا الأوتوستراد، ضمن شروط "حق الرد" السوري الأسدي في الزمان والمكان المناسبين.
لهذه الأسباب تحديدًا، عندما تحرك الثوار جنوبًا، دخلت إسرائيل إلى كابينتها على مدار ليالٍ متواصلة، تحاول فحص السيناريوهات المحتملة لتعاملها مع الوضع السوري القادم. فالوضع القائم سوف يكسر، والسيناريو المفضل لإسرائيل هو أن تتحول سوريا إلى ساحة حرب أهلية مليئة بالدماء تؤرّق أرواح السوريين ومشاريعهم بالاستقرار، وألا تؤتي هذه الثورة ثمارها.
ولهذا السبب، يمكن القول إن الخطوات الإسرائيلية، بمختلف مسمياتها، أتت لتنغّص على السوريين فرحتهم بمنجزات ثورتهم السلمية، محاولةً سلبهم الشعور بالأمن من خلال سيناريوهات الحرب الأهلية، والدماء، والاقتتال في الشوارع، الذي كان في حالته الصغرى داخل سوريا، مذكّرةً إياهم بسيناريوهات ثورات الشرق الأوسط.
إعلانولكن هذا ليس كل شيء. فالأراضي الجديدة التي احتلتها هي سلوك استفزازي يهدف لجس نبض الحركات الثورية في سوريا من جهة، ولتقول لهم عبر الضربات التي قامت بها: "ما كان هو ما سيكون، بل وأكثر". فحالة الهيجان الأمني واستباحة الحرمات السورية بشكل مستفز تسعى من خلالها إسرائيل إلى محاولة إشعال فتنة أمنية، وإيقاظ ربما بعض الجهات التي ما زالت صامتة.
يجب أن نتذكر أيضًا أن هناك ساحة خلفية تتقنها إسرائيل، وهي ساحة الاستخبارات الرمادية، وهي تستخدمها لتُفعّل بشكل نشط فتنتها داخل سوريا، فيتم تهويل أي بيان تمردي، وإن كان بلا رصيد مثلًا. لأن ما تسعى إليه هو خلق حرب أهلية تفضي إلى دويلات متناحرة لا تشكل أي تهديد على أمنها، تمامًا كما كان الوضع مع النظام السابق، بل وربما لتنسيهم تمامًا أن هناك جولانًا سوريًا محتلًا.
وهذا ما عبر عنه نتنياهو في دكتاتورية صارخة، عندما أعلن أنَّ اتفاقية فض الاشتباك الموقّعة عام 1974 لاغية. ففي دولة تعتبر نفسها الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط، يجب أن يُتّخذ قرار إلغاء الاتفاقيات عبر برلمانها، وبعد تدارس في الغرف المغلقة، وليس عبر إعلان فردي في مؤتمر علاقات عامة صحفي. فيقول إن الجولان تم احتلاله من الجمهورية العربية السورية، التي باتت من الماضي، وإن إسرائيل ستتعامل مع الحالة السياسية القادمة أيًّا كانت.
في سيناريوهات الدويلات، هي تنفّذ مشروعها الأحب القديم الجديد، ألا وهو دولة أقليات حليفة داخل الشرق الأوسط؛ دولة الأكراد. لطالما عملت إسرائيل على هذه الخطة منذ ستينيات القرن الماضي، وربما في العشرين عامًا الأخيرة كان هناك نشاط أكبر لهذه الخطة، بعد حرب الخليج الثانية، ففي هذا السيناريو هي تزعج العرب من جهات عدة.
يجب ألا ننسى أيضًا، وهذا هو الأهم، أن الحالة الإسرائيلية- الإيرانية لطالما كانت رومانسية على مدى الثلاثين عامًا الأولى. ففي فكرها التقسيمي، هي تؤمن بأنها يجب أن تُجزِّئ الشرق الأوسط إلى أقليات لتشكّل تحالفًا أمام الهيمنة القومية العربية بالمفهوم القومي.
إعلانوبعيدًا عن انشغالها الدائم بإشعال النعرات الطائفية، يجب أن نتذكر أنه في حالة وجود دويلات طائفية متناحرة، هناك سباق تسلّح، ولطالما كانت إسرائيل، في حالة النزاعات في الشرق الأوسط، تلتقط الفرصة لتسليح طرف ضد آخر؛ لتحقيق أهداف إستراتيجية بعيدة، وهذا ما قامت به مع نظام إيران الملالي ضد العراق، وفي الحرب الأهلية اليمنية ضد الجيش المصري.
فضرباتها اليوم للبنى التحتية العسكرية تأتي في سياق خلق سباق تسلّح تكون هي المسيطرة عليه، تشتري عبره الولاءات من أشباه الدويلات المتناحرة، التي ستملك بصعوبة بضع بنادق كلاشينكوف بطبيعة الحال.
ومن هذه النقطة تحديدًا نذهب إلى سيناريو الدولة السورية المتحدة، ففي ضرب البنية التحتية، تضمن إسرائيل ألا تُشكّل هذه الدويلة بأي شكل من الأشكال خطرًا على مقدّرات إسرائيل الإستراتيجية، حتى وإن كنا نتحدث عن أسلحة أكل الدهر عليها وشرب، ولا تضاهي التهديد العسكري الإسرائيلي المحدق بكل هذا الشرق.
ففي رؤيتها، تسعى أن تكون هذه الدولة تابعة، وليس بالضرورة أن يكون التطبيع عبر اتفاقيات واضحة، بل يمكن أن يكون عبر دولة محايدة وتابعة، أقرب ما يكون الوضع مع النظام السابق، بل وأكثر، دولة مرتبطة بإسرائيل في سباق التسلّح: الكم والكيف وما إلى ذلك من تبعيات.
أما عن السيطرة على الأرض، فهي ورقة مفاوضات واضحة تحاول إسرائيل من خلالها أن تفاوض الدولة العتيدة على اتفاقيات أيًّا كانت، من خلال عقيدتها، العقيدة الإسرائيلية الباهتة، عقيدة "الأرض مقابل السلام".
وسوف تحاول بهذه الإستراتيجية أن تحقق مثل هذه الشروط، وواضح أنها ستحاول أن تملي وتفرض شروط رضوخ، والأهم من هذا كله هو تنازل الدولة العتيدة السورية عن هضبة الجولان المحتل بالكامل، أو قد يكون ذلك جزءًا من المناورة أمام إدارة ترامب في تحصيل خطة الضم في الضفة الغربية.
إعلانوفي زيارة قد ترمز إلى نهاية مرحلة من التعقيدات الميدانية الإسرائيلية، في لبنان، وسوريا وفلسطين، يقف نتنياهو على أعلى قمة احتلتها إسرائيل في جبل الشيخ السوري، مؤكدًا أن قوات الاحتلال ستبقى في هذه النقطة حتى يتم التوصل إلى ترتيب يضمن ما سماه أمن إسرائيل.
هذه التصريحات تعكس نية إسرائيل في تعزيز وجودها العسكري في المنطقة، خاصةً بعد سقوط النظام المخلوع في سوريا، وتؤكد على أهمية جبل الشيخ كمنطقة إستراتيجية لنوايا إسرائيل المبيّتة، هيمنة غير قابلة للتشكيك ما بين النيل والفرات، تحت ذريعة حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها، وكأن العربي مسلوب هذا الحق مهما استُبيحت حقوقه.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2024 شبكة الجزيرة الاعلاميةالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات الشرق الأوسط أن إسرائیل إسرائیل فی أن هناک ما کان یجب أن ا کانت
إقرأ أيضاً:
القصيبي وأزمات الشرق الأوسط
القصيبي وأزمات الشرق الأوسط
بادئ ذي بدء، أعتقد أن أغلب الناس يعرفون من هو غازي القصيبي الشاعر، والأديب، والدبلوماسي، والوزير السعودي فكل هذه الصفات مارسها القصيبي بكفاءة نادرة من شخص تنقل بين أكثر من وزارة تخصصية وأكثر من سفارة.
ولديه الكثير من المؤلفات في الإدارة وفي الشعر وهناك روايات تحولت لان تكون مسلسل تلفزيوني ومنها رواية “شقة الحرية” كما أن كتابه “الحياة في الإدارة” يحكي فيها تجربته في العمل الحكومي وكيف أنه استطاع أن يتغلب على الكثير من التحديات الإدارية والتغلب على الصراعات الفكرية مع الذين يرفضون التغيير. ومع أنه توفي عام 2010 إلا أنه تزال كتبه مرجعاً للكثيرين ممن عشقوا العمل الإداري أو الشعر بل هناك من يرون فيه أنه أستاذ لهم مع أنهم لم يلتقوا به.
تلاميذ غازي القصيبي ممن أعرف بعضهم، تجدهم يرددون جملة باتت شهيرة عندما تأتي سيرته “القصيبي أستاذي الذي لم يدرسني” ويكاد أنهم يعرفون كل كتبه ويحتفظون بنسخ منها وعليك الحذر أن تبدي نقداً أو وجهة نظر فيما كتبه القصيبي، وهم لديهم كل الحق فهو يجمع الأستاذية بين الدراسة والعمل.
ومنذ أيام والناس مهتمة بالوضع السوري منذ سقوط نظام بشار الأسد بتاريخ 8 ديسمبر الجاري؛ في محاولة لفهم ما حدث والذي كان مفاجئاً للجميع على الأقل لأنه النظام الوحيد الذي استطاع أن يتجاوز أحداث ما كان يعرف بـ”الربيع العربي” قبل ما يزيد من عقد ومحاولة تقييم مستقبل سوريا الدولة المليئة بتفاصيل ديموغرافية ودينية وطائفية وتحيطها دول كل لديه مطامعه الخاصة فيه وهي مطامع ليست جديدة وإنما الفرصة الآن مواتية لهم وهو ما دفع بالدول العربية لأن تبدي قلقها وترفض التدخلات الإسرائيلية والتركية في الوضع السوري(ففي زحمة هذا النقاش) جاء غازي القصيبي من أحد تلاميذه النجباء ولكن هذه المرة في كتابه “الوزير المرفق” الذي يشرح فيه أن هناك مهام تأخذ الوزير من دوامة العمل الروتيني اليومي أبرز هذه المهام مرافقة الملك وولي العهد، في هذا الكتاب سرد القصيبي مجموعة من الأحداث جمعته برؤساء دول العالم منهم الرئيس جيمي كارتر.
فقد نقل القصيبي عن جيمي كارتر أنه كان على إطلاع واسع بمشكلة الشرق الأوسط (فلسطين) التي نراها اليوم بأنها “أم المشاكل” في هذا الإقليم فالكل تدخل فيها، وكل الأزمات والخلافات في الإقليم والعالم تمر من خلالها، والأحداث التي نعيشها اليوم في سوريا هي أحد إفرازات أحداث السابع من أكتوبر2023 المرتبطة بها والحديث اليوم أبعد من سوريا إلى تغيير الشرق الأوسط بأكمله.
حضور غازي القصيبي المتوفي في 2010 ولكن وجود تلاميذه وكأنه حاضر في وقتنا كان في تعليقه علة الرئيس الأمريكي في السبعينيات وبداية الثمانينات القرن الماضي حيث قال القصيبي: “لو كانت القدرة على حل مشاكل عويصة مرتبطة بالمعرفة وحدها لكان الرئيس جيمي كارتر هو من حل مشكلة الشرق الأوسط”، ما يعني أن الأمر يحتاج إلى جملة من العوامل.
المذهل في الأمر كله، رغم مغادرة غازي القصيبي عن دنياينا إلا أن ما يزال على مستوى متألق من الأحداث التي نعيشها بكتبه وشعره وتاريخه.