غياب رموز المجتمع في زمن الحرب
تاريخ النشر: 19th, December 2024 GMT
في غمرة الحرب الدائرة فقدنا أصواتاً ثورية صاخبة حتى كأننا ظننا أنها تحترف النضال فقط في زمن السلم. ذلك يعني أنها لا تصدر عن موقف وطني إلا في لحظات باهية، وهنية. فالمثقفون، أو السياسيون الرموز، يوم الحارة "الزول بلقى أخو" كما أفصحت حكامة كردفان. ولكن كان قدر الشعب يبدو أنه حين انتصرت ثورته خرج الآلاف من المثقفين الذين صمتوا تجاه استبداد الإسلامويين ليعبروا عن فرحتهم.
نحن نعذر القادة السياسيين الذين يتقلبون في مواقفهم كما الحرباء، ذلك باعتبار أنهم أصلاً لا يراعون للأخلاقيات في كثير من الأحيان عند ممارسة السياسة. وبالتالي يستخدمون البراغماتية الانتهازية من أجل الحصول على السلطة، والنفوذ، والثروة. ولكن حين يتعلق الأمر بالمثقف العضوي الذي هو سياسي بطبيعة وعيه فإننا نتأسف لوجود عدد كبير من المثقفين، والأكاديميين، ورموز المجتمع السودانيين الذين هم خفاف عند الطمع، وثقال عند الفزع.
هذه الفئة المستنيرة التي حازت على أرقى الدرجات العلمية داخل وخارج البلاد تفتقد للمروءة الإنسانية في وقت يتطلب الجهر بالمواقف الصحيحة. لا يتحركون لمناصرة المظلومين، ولا تروعهم مناظر القصف الجوي والمدفعي التي تهشم أجساد المواطنين الآن حتى. بل ربما تجدهم يتسلون في مجالس أنسهم بأخبار انتهاكات جهاز الأمن نحو زملائهم، ولكن لا تاخذهم أي عاطفة زمالة لإرسال خطاب احتجاج في بريد السلطة. فقط هم هكذا تعرفونهم جيدا، ولك أن تسترد بذاكرتك أسماء كثيرة في كل حقول علم الاجتماع. أما الذين هم متخصصون في مجال العلوم الطبيعية فهم لا يحسون بآلام البشر. فتراهم يحسبون أنفسهم فنيين، أو تكنوقراط معنيين بتسيير دولاب الدولة سواء حكمه جان، أو شيطان.
أتذكر بعد نجاح ثورة ديسمبر أنه عاد عدد كبير من المثقفين المغتربين، والمهاجرين، يطلبون التوزير، أو ابتعاثهم لمحطات دبلوماسية ليحلوا محل كيزان الخارجية. ومن هم كانوا صامتين في الداخل ذهبوا لتفعيل نشاطهم السياسي عبر أحزاب، ومنظمات، كي يحصلوا على جزء من الكيكة. وعندما وقعت واقعة الانقلاب عاد بعضهم إلى مهاجرهم، واستأنفوا العمل في وظائفهم، ومنهم من وجد وظيفة في المنظمات الدولية لكونهم حازوا على مناصب حكومية مرموقة.
الحرب الآن تكاد تعصف بالوطن، وتقود الناس للاقتتال في الشارع بعضهم بعضاً، ومع ذلك لا نسمع صوتاً ممن يعدون انفسهم مثقفين كبار. بل لا نرى قيامهم بحملات ضد الحرب، أو تقديم مذكرات احتجاج، أو نصح لطرفي القتال كخطوة معتبرة تؤثر على مستوى الرأي العام. وما نراه من تحركات دؤوبة لمدنيين لا يتناسب مع الحجم العريض لقاعدة الذين أهلتهم مؤسساتنا الأكاديمية بدرجات عليا.
اعتقد أن بعضاً من الأسباب التي قادت البلاد إلى هذا الدرك الاسفل يعود إلى انتهازية المثقفين - أو المتعلمين الذين حازوا - على حساب دافع الضرائب السوداني - على تحصيل علمي عظيم جعل منهم رموزا مقدرة بمكانتها الاجتماعية. والحقيقة أن هذه الفئة المؤهلة علمياً، وهي تعد بالآلاف فضلت في فترة الإنقاذ وحتى الآن البحث عن وظائف، وأوطان، تفصلها عن التفاعل مع قضايا الجماهير التي تنتظر دورها في نشر الوعي السياسي، والثقافي، والاجتماعي.
من ناحية ثانية لاحظنا أن أغلب الشخصيات التي جلبتها قوى الحرية والتغيير في الوزارة، والمجلس السيادي، والمؤسسات الحكومية، قد اعتزلت الظهور في أجهزة الإعلام للتنديد بخطوات انقلاب البرهان - حميدتي، وكذلك التعبير عن رفضها للحرب، والانتهاكات التي ارتكبها الطرفان. بل رأينا بعض الصامتين يشاركون من وراء حجاب عدد من التنظيمات السياسية، ولا يتبرعون بالإدلاء بدلوهم في ما يتعلق بدعم الرأي العام الرافض للحرب. وللأسف وسط هؤلاء من كان أعلى صوتاً في الفترة الانتقالية المجهضة، وصاروا نجوماً في أجهزة الإعلام الرسمية، وكانوا يتحركون بخفة بين منبر وآخر بوصفهم مسؤولين، أو رموز لثورة ديسمبر.
إجمالاً، يظل غياب رموز المجتمع السوداني من سياسيين، ومثقفين، وأكاديميين، في زمن الديكتاتورية، والحرب، أسوأ من انتهاكات المستبدين أنفسهم. فالصمت في لحظات تتطلب الجهر بالمواقف يمثل المحفز الأول لاستمرار الاستبداد، وما يفرزه من كوارث مجتمعية مثل التي نعايشها الآن بكثافة.
suanajok@gmail.com
المصدر: سودانايل
إقرأ أيضاً:
تداعيات حرب السودان خلال العام 2024 …. عدم وجود الاستجابة من المجتمع الدولي
تقرير: حسن اسحق/أقامت الشبكة الشبابية للمراقبة المدنية منتدي اسفيري بعنوان ’’ تداعيات حرب السودان خلال العام 2024 ‘‘ يوم الخميس 6 فبراير 2025، استضافت فيه عدد من الباحثين في الشأن العام السوداني، تطرقت ’’ الشبكة المدنية ‘‘ الي أبرز أحداث العام الماضي، الممثلة في توقيع اتفاق تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية ’’ تقدم‘‘ علي وثيقة مع قوات الدعم السريع في اثيوبيا، أعلنت فيها قوات الدعم السريع استعدادها لوقف إطلاق النار، والتفاوض المباشر مع الجيش السوداني، لكن الجيش رفض التوقيع علي هذه الوثيقة، واعتبرها تحالفا بين قوات الدعم وتنسيقية القوى الديمقراطية المدنية والدعم السريع.
فيما يتعلق بالتداعيات الإنسانية في العام الماضي، كانت كارثية، اعداد النازحين تقدر بالملايين، بينما بعض المناطق شهدت حالة نهب وقتل، وانعكس ذلك علي معاناة المواطنين المتزايدة، مع تزايد حالات النزوح في كل من الخرطوم ودارفور، من أبرز انتهاكات حقوق الإنسان كانت متصاعدة، وكان في استهداف المدنيين خاصة النساء والأطفال، وممارسات طائفية وقبلية، وتخريب البنية التحتية.
شارت الشبكة المدنية الي اهمية دور المجتمع المدني في حماية المدنيين، بدوره واجه تحديات عديدة، منها عدم وجود الاستجابة الدولية فيما يحدث في انتهاكات في السودان، لعدم التزام أطراف الحرب بالقوانين الدولية، وهذا كان يشكل عائقا امام تخفيف المعاناة، اضافة الى تدهور الوضع الصحي، وانعدام الخدمات الصحية.
وارتفاع معدل الاصابات بالامراض المزمنة في المناطق المتأثرة بالصراع، ونقص في المستشفيات والمراكز الصحية، ادي الي انتشار الأمراض، الحميات والكوليرا، أما فيما يتعلق بالموسم الزراعي، بسبب انعدام الكهرباء، ونقص التقاوي الزراعية، بدوره ادى الى تراجع الانتاج الزراعي، وانعدام الأمن، جعل المزارعين بعيدين عن الزراعة.
الجهود الشعبية في مواجهة الأوضاع الانسانية
تطرقت الكاتبة مزن النيل والباحثة في سياسات الصناعة، إلى الجهود الشعبية في مواجهة الأوضاع الإنسانية الناتجة عن حرب، واضافة الى اهمية التركيز على الجهود الشعبية، مشيرة الي وجود ضعف في الاستجابة الدولية، كما اشار اليه تقرير ’’ الشبكة الشبابية ‘‘، مع إيقاف برامج المساعدات الامريكية في عام 2025، توضح مزن في هذا الشأن، أن التدخلات الدولية من الصعب الاعتماد عليها، لارتباطها بالمواقف الجيوسياسية، والانظمة التي تتحكم فيها، يمكن أن تتغير لاعتبارات مختلفة، اضافة لذلك، عدم قدرة المؤسسات الدولية في إجبار الجيش السوداني وقوات الدعم السريع علي الالتزام بالقانون الدولي، وتعنت وتعطيل هذه المساعدات.
اوضحت مزن ان هذه ليس سياسات عرضية، بل هي من طبيعة المجتمع الدولي، وطبيعة الكيانات السودانية المرتبطة بالحرب، ان الجيش والدعم السريع وصلا السلطة عن طريق العنف، في ذات الوقت، وجد الطرفان قبولا دوليا، رغم خرق القوانين، والنظام العالمي يحبذ مبدأ السيطرة علي قيم العدالة، وما يجعل المجتمع الدولي قدراته ضعيفة.
تطرقت مزن الي اهمية العنصر الداخلي، والنظر الي المجهودات الشعبية وقدرتها علي مساعدة الناس اكبر، رغم قلة التمويل، وأسهمت في الحفاظ علي حياة الناس، وقبل الحرب معظم المنشآت الصناعة كانت موجودة في الخرطوم وولاية الجزيرة، ومعظم العاملين في هذا القطاع الخاص، فقدوا عملهم، خاصة بعد هجوم قوات الدعم السريع، علي ولاية الجزيرة، وأكدت الحكومة لم تقم بدور في تقديم مساعدات للمواطنين الذين فقدوا مصادر دخلهم.
أوضحت رغم ضعف المجهود الرسمي للدولة، إلا أن المجهود الشعبي كان أكثر كفاءة، واكثر اهتماما بحياة الناس، ورفع مستوي الحياة حتى في الأوضاع الصعبة، وان المجهودات الشعبية استخدمت موارد محدودة، وتضع النسبة الأكبر من التمويل الخارجي في الخدمة المباشرة للجهات المستفيدة من هذه الخدمات.
تطالب بتوفير الصحة النفسية و خلق مناخ ايجابي للاطفال، هذا يشمل الانشطة الثقافية، حتي هذه الجهود الشعبية واجهتها بعض النواقص والعيوب، إلا أنها الأقدر علي تلبية احتياجات المتضررين، ويجب أن هناك تفكير للحصول علي تمويل مستدام في الخدمات الاجتماعية، المدارة شعبيا، لانها اثبتت كفاءتها وعدالتها، من الادارة الحكومية الرسمية، وادارة المنظمات للخدمات.
الاشادة بالدور التوثيقي
يضيف دكتور قصي همرور شيخ الدين الباحث والاستشاري منذ بداية الحرب ما زال حجم المجاهيل اكبر، وحجم المعلومات الموثقة أصغر، وهذا جعل تلمس الدروب في هذا الجانب صعب، وهذا بدوره يقود الي الاشادة بالدور التوثيقي الذي تعمل عليه ’’ الشبكة الشبابية ‘‘، ويجب ان تكون هناك مصداقية في هذا العمل، في الأسابيع الأولى للحرب، كانت كل الأطراف السياسية الفاعلة، ليس القوات المسلحة والدعم السريع، كانت هذه الجهات تعتقد ان الحرب لن تستمر الى فترة طويلة، وتصل إلى سنة وزيادة، مع استمرار الازمة الاوضاع اصبحت مختلفة.
ذكر قصي خمسة عوامل اساسية في هذه التغييرات، العامل الأول أن الحرب كانت بعناصر داخلية في المجمل، وقدرات موجودة مسبقة داخل القوات المسلحة، ومنظومة قوات الدعم السريع، كانت لدرجة كبيرة اشتعال لمكونين متناقضين، بين مكونات السلطة، انفجرت فيها الاحتقانات الكبيرة المتراكمة، ولم تكن غائبة عن نظر الجميع، من دلائل أن الحرب بدأت بعناصر داخلية، في ذلك الوقت، رئيس المجلس السيادي لفترة ما يحارب في نائبه، من دون أن يعزله، وهذا يؤكد المجلس الانتقالي لم يكن كتلة صماء، بل داخله تناقضات ممكن تنفجر في أي لحظة، بينما كان السياسيين الذين يمثلون تطلعات الشعب، وصوت الحراك الثوري في المفاوضات، كانوا يتعاملون مع الطرفين باعتبارهم عساكر فحسب.
أضاف قصي أن العامل الثاني مع بداية الحرب كانت هناك جهتين فقط تحمل السلاح، مع استمرار الحرب، أصبحت هناك عدة جهات مسلحة، وكان هذا امرا متوقعا، وتعددت الجهات حاملة السلاح، وكل جهة لا يمكن أن توصف ان دوافعها ورؤيتها تتوافق مع المعسكر الكبير، داخل كل معسكر توجد هذه الجهات، مثلا، القوة المشتركة، قوات حركات الكفاح المسلح التي قررت التصدي لأطماع قوات الدعم السريع، وصارت حليف قتالي للجيش في هذه الحرب، وقوات درع السودان التي ارتمت في احضان قوات الدعم السريع، ثم عادت الي الجيش السوداني، و كتيبة البراء بن مالك هي تتبع للكيزان، المسؤولين عن إنشاء الدعم السريع، اضافة ظهور المستنفرين، دوافعهم لا تشبه دوافع الفصائل المسلحة الاخرى، لان جملة أسباب انضمام الى الحرب، نابعة من الضرر البليغ الذين وصل إلى المواطنين.
ishaghassan13@gmail.com