وضعتْ فـلسفـةُ العـقـد الاجتماعي أسسا نـظريـة لفـكرة الحـق، بمعـناها الزمـني الإنسانـي - وقـد غابت في الفـكر المسيحي طَوال العصور الوسطى - على نحوٍ بـررتْ لها مشروعـيَـتها كـفكـرة ورسمت لها دورا في الهندسة الجديدة للدولة والنـظام السياسي الحديث ولمنظومة المواطَـنة فيها؛ التي هي الأس الأساس في نموذج الـدولة الحديثة وفيصلُ التـفرقـة بينها والـدولة التـقـليديـة في القرون الوسطى.
على أن فصْـل الحـق المـدني عـن «الحـق الإلـهي» - الذي قالت به الكنيسة وكان عليه مبْـنى السلطة في أوروبا الوسطى - بـدأ في الإفصاح عن نفسـه، في فـلسفـة السياسة، انطلاقًا من الفـرضيـات التي توسـلها توماس هـوبس وفـلاسفـةُ العـقـد الاجتماعي ليَـبْـنوا عليها فـكرتهم عن ذلك العـقـد وعن حاجة الاجتماع الإنساني إليه من أجل الصـيرورة اجتمـاعا سيـاسيـا، أي دولة. يُـشار في تلك الفـرضيـات المؤسِـسة (وأهـمـها فرضيـةُ وجود حالةٍ سابقة لقـيام الـدولة أُطلِـق عليها اسم حالة الطـبيعة) إلى أن النـاس تمـتـعوا، دائـمًا، بالحـق الطـبيعي لدى كـلٍ منهم في نطاق حالة الطبيعة أو المجتمع الطبيعي قـبل - السياسي. النـظام الطبيعي، في هذه الفلـسفة، ليس قائـما على قـوانين ذاتيـة صارمة فحسب، بـل هـو أيضا يمنح المنتمين إليه حقوقـا بالتـلقـاء لمجـرد أنهم منْـوَجدون داخل نظام الطبيعة. هكـذا نُظِـر إلى الحريـة، مثـلاً، وإلى المُـلْكيـة أو التملك بوصفها حقوقا طبيعيـة للناس، أي ممنوحة لهم من الطبيعة، لذلك ازدهر في الفـلسفة السياسيـة الحديثة استخدام مفهوم الحق الطبيعي بوصفه مرادِفا لكل حـقٍ لا يَـقْـبل الانتهاك لأنـه قريـنُ الكينونة الإنسانيـة، ولأن نزعه عن الإنسان نـزْعٌ لإنسانيـته ومجافاةٌ للطبيعة التي قضت بأن تُـمَـتِّعه بذلك الحق.
لم يكن يكفي فلاسفةَ السياسة المحدَثين أن يدافعوا عن مبدأ الحق الطبيعي وأن ينظِـروا له، بل كان عليهم أن يستدركوا بالقول إن مشكلة هذا الحـق الطبيعي تكمـن في أنـه ليس مضمونا في النـظام الطبيعي ولا مأمونا من الانتهاك الذي يأتيه الناس بعضُهم البعض في سياقٍ من التـنازُع بينهم على أشياء يَـعُـدُّها كـلُ واحدٍ منهم متاعا له خاصا لا يزاحمُـه فيه أحـد، وفي سياقٍ من الصـراع المحتـدم بينهم على احتكار القـوة. إذا كان لحيازة شيءٍ ما بالقـوة من شخصٍ بَسَـطَ عليه يـده نقضا للحق في المـلكيـة - الذي هو أَوْكـد الحقوق في نظر جـون لوك - فإن لِـفرْض إرادة آحاد الناس على آخَـر وإخضاعه، وربـما استعـباده، المعنى عـينه؛ إذْ فيه نـقْضٌ رديفٌ للحق في الحرية. في الحاليْـن، يجري النـقض بمقتضى إعمال مبدأ القـوة في العلاقة داخل المجتمع الطبيعي (قبل السياسي)، لأن القـوة هي القانون الحاكم لمثـل هذا المجتمع. وهكذا، نظرا إلى انعدام سلطة رادعة في هذا المجتمع: تَحْـفـظ الحقوق وتردع المخالفات، لا يبقى لأعضاء الجماعة الطبيعيـة غير قُـواهُم الذاتيـة يدافعون بها عن أنفسهم. ومع أن الطبيعة تمنح الناس المَلَـكَات (البدنـية والذهـنيـة) عينَها - كما يقول هوبس ولوك - فيكونون، لهذا السبب، متكافئيـن في الاستعدادات، إلا أن هذا التـكافؤ نسبي جـدا؛ ذلك أن القوي اليوم لا يضمن أن يبقى قويـًّا دائمًـا، والأقـل قـوة - في مبـدأ عـمره مثـلاً - ذاهـبٌ نحو أن يصبح قـويًّـا في ما بعد. هكذا لا يسمح مبدأ القـوة الطبيعي الفردي بأن يحميَ الحـق الطبيعي للجميع فـيُحتاج، حينها، إلى قـوةٍ أخرى، من خارج النـظام الطبيعي، لتضطلع بذلك باسم المجموع.
من البيـن أن فلاسفـة السياسة إذْ ينظرون، نظرةَ إيجابٍ، إلى الحـق الطبيعي بما هو مكتَسَب ثمين يكـتسبه جميعُ مَـن ينـتمي إلى النـظام الطبيعي، لا يُخفـون شعورَهم بأن ما يتـهـدَد هذا الحـق هو سوءُ استخدام صاحبه له، وجشعُـه ورغبـتُه المجنونة في بسْط اليـد على كل ما يحْسبُـه في جملة متاعه. ولما كان هذا المنزع عاما ومشتركا لدى المنـتمين إلى المجتمع الطبيعي جميعا، ترتبَ عن ذلك تعطيلُ ذلك الحق جملةً وعُسْـرُ تحقـيقه لديهم، على النحو الذي يصير معه وكأنـه في حكم الحق المعدومِ إمكاناً! والنـتيجة أن عُسر التـمتُع بذلك الحـق، داخل الجماعة الطبيعيـة، يتمظهر في شكل نزاعات ومجالَدات لا تنتهي بين الناس أطلق عليها هوبـس نعت الحرب الدائمة أو حرب الجميع على الجميع؛ وهي حربٌ يُـنْـتَـقَـضُ بها أهـمُ قانونٍ من قوانين الطبيعة: قانون حِفظ النوع الإنساني، ويستدعي خطرُها حلاً وجوديـًّا يتفاداها بمقدار ما يحفظ الحقوق الطبيعية نفسَها من التـبدُد والزوال.
يتعلق الأمر في هذا، إذن، ببناءٍ فلسفي افـتراضي الغرضُ منه التسويغُ للـدولة ولوجوب قيامها وتبريرُ مشروعيـتها في الاجتماع الإنساني، وبيانُ معنى الحاجة إليها من أجل منْع الناس بعضهم عن بعض وردْع ما يأتونه من انتهاكات، ومن أجل حماية الحـق الطبيعي لكل إنسان وتوفـير ما لا توفِـره الطبيعةُ من ضماناتٍ لاحترامه وعدم النيل منه. وهكذا فالحـق الطبيعي، وإنْ كان سابقا في الوجود لقيام الـدولة، يظـل عرضةً لخطر الزوال إلى أن يقوم مجتمعٌ سياسي يتعهـدهُ بالصـون والرعاية.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: النـظام الطبیعی
إقرأ أيضاً:
هدايا قدمها مجدي يعقوب إلى العالم عقب ابتكار صمامات القلب الطبيعة.. إنجازات مهمة
رحلة حافلة بالإنجازات امتدت قٌرابة أكثر من نصف قرن، كانت سببًا في تتويج مسيرة الدكتور مجدي يعقوب في مجال جراحة القلب المفتوح بمنحه قلادة النيل العظمى في السادس من يناير 2011 التي لا تمنح سٌوى لرؤساء الدول، ولمن يقدموا خدمات جليلة للوطن وللإنسانية، فقد بدأ الدكتور مجدي يعقوب مسيرته العلمية وهو يتنقل بين دول أوروبا، ثم استقر في بريطانيا، حيث ألقى آلاف المُحاضرات، وشارك في مئات المُؤتمرات العالمية، وترك بصمة واضحة في تطوير هذا المجال، كان آخرها ابتكار صمامات القلب الطبيعية القادرة على النمو ذاتيًا في الجسم
صمامات قلب طبيعيةكانت آخر الإنجازات التي احتفى بها العالم خلال الأيام الماضية، هو نجاح السير مجدي يعقوب في ابتكار صمامات القلب الطبيعية الحية والقادرة على النمو ذاتيًا في الجسم مدى الحياة، ويعيش هذا الصمام مدة طويلة ويٌساهم في إطالة الحياة ويجعلها نشيطة وحيوية، ويمكن أن يكبر مع الطفل بحيث لا يحتاج أي عمليات أخرى، كما أن تركيبه يتم عن طريق القسطرة وليست بالضرورة عبر عملية جراحية، وفقًا لما ذكره الدكتور مجدي يعقوب في تصريحات تليفزيونية.
ومن المقرر أن تتوافر هذه الصمامات خلال عام ونصف العام، بعد الانتهاء من التجارب التي تستمر لمدة 6 أشهر مقبلة، وسيكون الصمام مٌتوفرًا في جميع دول العالم بعد سنة ونصف أخرى، مع احتمالية أن يكون مٌتوفرًا في مصر خلال المراحل الأولى.
جراحة قلب نادرةجراحة قلب نادرة أجراها الدكتور مجدي يعقوب في بداية حياته عام 1980، وقدّم بها إنجازًا للعالم بعدما نجح في زراعة قلب لمريض أوروبي يدعى دريك موريس، الذي أصبح أطول مريض نقل قلب أوروبي على قيد الحياة حتى وفاته في يوليو 2005، وبعد هذه العملية بنحو عامين أجرى جراح القلب العالمي عملية زرع قلب أخرى لجون ماكفيرتي الذي عاش بعدها 33 عامًا ليٌصبح صاحب أكبر عدد من السنين يعشيها إنسان بقلب مزروع، ما كان سببًا في دخول الدكتور مجدي يعقوب موسوعة جينيس للأرقام القياسية.
زراعة قلب صغير بجوار الطبيعيوما بين الإسهامات التي قدّمها السير مجدي يعقوب للعالم، هي عملية جراحية وصفها بأنّها الأغرب خلال مسيرته الطبية، إذ كانت لطفلة عمرها 7 أشهر، ولم يكن مٌتاحا أمام الدكتور مجدي يعقوب وفريقه الطبي زراعة أي قلب حتى القلب الصناعي، وهو ما اضطره إلى زراعة قلب صغير إلى جوار قلبها الأساسي، ومع مرور الوقت استعادت الطفلة كفاءة قلبها الأساسي وبدأ يعمل بشكل طبيعي، إلا أنّ الأمر تحول إلى الأسوأ بعدما أصيبت بمرض السرطان، يحكي الدكتور مجدي يعقوب في لقاء متلفز سابق مع الإعلامية إسعاد يونس في برنامج صاحبة السعادة على قناة «CBC»: «وقتها قالولي هنعمل إيه ومين هيشيله؟، مفيش غيرك أنت الوحيد اللي عارف أنت عملت إيه، فـرجعت المستشفى وعملت العملية دي والبنت دي دلوقتي في عمر العشرينيات واتجوزت وبقى عندها أطفال».
قلب محمول في شنطة على الظهرنجح الدكتور مجدي يعقوب في زراعة قلب للطفلة «فرح» التي نشرت قصتها «الوطن» في مارس 2019، وعادت الحياة إلى جسدها الضئيل مرة أخرى بزراعة جهاز قلب صناعي بديل، وخضعت الطفلة لجلسات علاج طبيعي مكنتها من المشي مرة أخرى، وأصبح الجهاز المتصل من داخل جسدها بأسلاك مُعلقة بالخارج رفيقها الجديد، تحمله على ظهرها داخل حقيبة أنيقة، بينما الأسلاك تُبرز من إحدى جانبيها، فكانت تخلد إلى النوم بها وتذهب إلى المدرسة، وتُمارس حياتها الطبيعية أيضا.
20 ألف عملية في بريطانياولم تقف إسهامات مجدي يعقوب داخل مصر فقط، وإنما امتدت إلى بريطانيا التي أجرى بها أكثر من 20 ألف عملية قلب، كما ساهم في تأسيس الجمعية الخيرية لمرضى القلب للأطفال في دول العالم النامية، وهو ما كان سببًا في حصوله على جائزة «فخر بريطانيا» في أكتوبر 2007 من قِبل قناة «اي تي في» البريطانية، وأذيع الحفل على الهواء مُباشرة، وحضره رئيس الوزراء البريطاني (حينها) جوردن براون، وهي جائزة تُمنح للأشخاص الذين ساهموا بأشكال مُختلفة من الشجاعة والعطاء أو مَن ساهم في التنمية الاجتماعية والمحلية.
تطوير صمام للقلب باستخدام الخلايا الجذعيةالسير مجدي يعقوب نجح مع فريق طبي بريطاني في تطوير صمامات للقلب باستخدام الخلايا الجذعية، عن طريق استخراج الخلايا من العظام وزرعها وتطويرها إلى أنسجة، وهو ما يفسح المجال لزراعة قلب بالكامل باستخدام الخلايا الجذعية في غضون السنوات المٌقبلة، وفقًا لما ذكرته الهيئة العامة للاستعلامات.