إن فهم عودة الشعبوية أمر بالغ الأهمية لاستيعاب السياسة اليوم. ويصدق هذا بشكل خاص في الولايات المتحدة، سواء فيما يتصل بالرئيس المنتخب دونالد ترامب والجمهوريين في الكونجرس، وهم يستعدون لتولي الحكم، أو الديمقراطيين وهم يحاولون التعافي من هزيمتهم الصاعقة.
تمتد جذور الشعبوية التي غذت صعود ترامب في منتصف العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين إلى الأزمة المالية العالمية التي اندلعت عام 2008.
الشعبوية مصطلح يُـستَـخدَم كثيرا ولكن نادرا ما يُـعَـرَّف. وأنا أرى أنها تنطوي على ثلاث سمات: نظرة عالمية تؤلب «الشعب» على «الـنُـخَـب»؛ والتشاؤم بشأن النتائج الاقتصادية الحالية والمنتظرة في المستقبل؛ والرغبة في الانغلاق على الذات كدولة. في الولايات المتحدة، تجلت هذه الاتجاهات أولا في صعود حزب الشاي على اليمين السياسي وحركة احتلوا وال ستريت على اليسار. وبحلول عام 2013، دفعت هذه الاتجاهات الرئيس باراك أوباما إلى الإعلان (بشكل غير صحيح، في اعتقادي) أن التفاوت هو «التحدي الـمُـحَـدِّد لعصرنا». وبعد ذلك، استولى ترمب على زعامة الحزب الجمهوري، وكاد الشعبوي المتعصب بيرني ساندرز يفعل الشيء ذاته في الحزب الديمقراطي. ولأن أزمة عام 2008 كانت عالمية، فقد شهدنا أيضا انبعاث الشعبوية في المملكة المتحدة وأوروبا، وهذا يتوافق مع النمط التاريخي. تُـظـهِـر الأدلة المستمدة من الأعوام المائة والخمسين الأخيرة أن الشعبوية تشكل استجابة متكررة للأزمات المالية. النبأ السار هنا هو أن ذات الأدلة تُـظهِـر أن الشعبوية في تراجع، عائدة على النحو المعتاد إلى مستواها السابق للأزمة بعد نحو عشر سنوات. في اعتقادي أن الأمر بدا وكأن الشعبوية كانت في طريقها إلى الزوال في عام 2018. وقد نشأ إدراك متزايد لحقيقة مفادها أن نتائج الأسرة العاملة النموذجية على المستوى الاقتصادي كانت في تحسن سريع. وكانت أمريكا أقل غضبا، وكان بوسع المرء أن يتخيل مواجهة المستقبل معا بمزيد من الثقة.
لكن في الوقت حيث كانت أمريكا تستعيد خطوة إلى الأمام، اندلعت جائحة كوفيد-19 في الأشهر الأولى من عام 2020. وكما كانت الحال مع الجوائح المرضية السابقة، أعقب ذلك ارتباكات سياسية واجتماعية، ونَـفَـخَ التصور الواسع الانتشار لفشل النخبة الكارثي حياة جديدة في الشعبوية.
لم تكن مثل هذه التصورات غير صحيحة دائما. ذلك أن القيود المفروضة على النشاط الاقتصادي كانت تثير الغضب في بلد ملتزم بالحريات الفردية، وخاصة عندما بدا أن مسؤولي الصحة العامة في بعض الأحيان يختلقون التوجيهات -مثل قاعدة الستة أقدام- بطريقة آلية. وحتى بعد نشر اللقاحات والعلاجات على نطاق واسع، كان على الآباء التعامل مع فترات حجر صحي إلزامية سخيفة لأمراض الطفولة الروتينية. ومن المؤسف أن آراء النخبة أبقت الأطفال خارج الفصول الدراسية لفترة أطول مما ينبغي، بدلا من إعادة فتح المدارس في خريف عام 2020؛ وتكبد كثيرون منهم خسائر تعليمية لن يتعافوا منها أبدا. من منظور أولئك منا الذين تزعجهم الشعبوية، كان الجانب الإيجابي لهذا التاريخ الحديث أنه يؤكد الطبيعة المؤقتة للظاهرة. فإذا حدث وجرب العمال في الولايات المتحدة، على سبيل المثال، أربع أو خمس سنوات من نمو الأجور الحقيقية الأجدب، فيجب أن تتضاءل المشاعر الشعبوية مرة أخرى، كما حدث قبل الجائحة.
لكي أكون واضحًا، لا أتوقع أن تنطفئ الشعبوية على طريقة ترمب، لكنها ستصبح أقل قوة وأهمية على المستوى السياسي. كانت الضغوط الشعبوية حاضرة دائما على اليمين السياسي. فكان النجاح السياسي الذي حققه بات بوكانان في تسعينيات القرن العشرين ينبئ بنجاح ترامب. في انتخابات الحزب الجمهوري التمهيدية عام 1996، فاز بوكانان بنسبة 23% من الأصوات في الانتخابات التي عُـقِدَت في أو قبل الثلاثاء الكبير. وفي الانتخابات التمهيدية عام 2016، فاز ترمب بنسبة 34% من الأصوات في المسابقات المبكرة وولايات الثلاثاء الكبير. أما إرجاع نجاح الشعبوية في مسابقات ترشيح الحزب الجمهوري في المستقبل إلى حصة بوكانان فمن الممكن اعتباره عودة إلى خط الأساس.
الدرس الذي يجب أن يستوعبه الجمهوريون هو أن الإدارة الاقتصادية مهمة. فقد أذن انخفاض نمو الأجور الحقيقية في نصف العقد الذي أعقب الأزمة المالية في عام 2008 ببداية هذا الفصل الشعبوي من تاريخ الولايات المتحدة، وتسبب تضخم الأسعار السريع (الذي أدى إلى تآكل مكاسب الأجور الاسمية الأخيرة) في السنوات الأربع الأخيرة في إعادة ترمب إلى البيت الأبيض. بعد انسحاب الرئيس جو بايدن المتأخر من السباق، تصور كثيرون من القادة الديمقراطيين أن الناس سينتخبون نائبة الرئيس كامالا هاريس من أجل تجنب مرشح يكرهه أكثر من نصف سكان أمريكا. لكن الحال انتهت بأعداد أكبر من الناس إلى التصويت لصالح ترامب (على الرغم من كراهيتهم له) مقارنة بعام 2020، ويرجع هذا إلى حد كبير إلى فهمهم الصحيح لحقيقة مفادها أن سياسات إدارة بايدن ساهمت في التضخم السريع، وركود نمو الأجور الحقيقية، وارتفاع أسعار المستهلك إلى مستويات غير مسبوقة.
ينطوي الأمر أيضا على درس حاسم للجمهوريين. فربما يكون الناخبون في مِزاج يجعلهم يميلون إلى رئيس يجرب الحروب التجارية وتدابير الهجرة القاسية، لكن هذا قد يتغير بسرعة أكبر مما يعتقد كثيرون. وإذا أراد الجمهوريون الفوز مرة أخرى في عام 2028، فسوف يحتاجون إلى تبني سياسات تجعل حياة الناس أفضل على مدار السنوات الأربع المقبلة. الواقع أن السياسات الشعبوية لا تنجح. وسوف يسعى الجمهوريون الأذكياء الراغبون في تحقيق نجاح سياسي دائم إلى تبني سياسات تضمن تحقيق ذلك النجاح.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الولایات المتحدة الأجور الحقیقیة فی عام
إقرأ أيضاً:
إيران اليوم ليست كما كانت
30 أبريل، 2025
بغداد/المسلة:
وليد الطائي
في عالم تحكمه موازين القوى لا المبادئ، تتجلى المفاوضات الأمريكية الإيرانية كصورة حيّة للصراع بين مشروعين: مشروع الهيمنة الغربية، ومشروع الاستقلال والسيادة الذي تمثله الجمهورية الإسلامية في إيران.
منذ انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي عام 2018، بدا واضحًا أن واشنطن لا تبحث عن حلول دبلوماسية حقيقية، بل تسعى لفرض شروطها عبر سياسة “الضغط الأقصى”، ظنًا منها أن الحصار الاقتصادي سيُجبر إيران على الركوع. لكن الجمهورية الإسلامية، بقيادتها الحكيمة وموقفها الشعبي الصلب، أثبتت أن الكرامة الوطنية لا تُشترى، وأن السيادة لا تُفاوض عليها.
إيران… ثبات في الموقف لا يُكسر
إيران لم ترفض التفاوض كمبدأ، بل رفضت أن تكون المفاوضات غطاءً للابتزاز. دخلت طاولة الحوار من موقع القوي، لا الخاضع، وأكدت مرارًا أن أي اتفاق لا يضمن مصالح الشعب الإيراني ويرفع العقوبات الجائرة بشكل فعلي ومضمون، فهو مرفوض.
لم تكن إيران يومًا الطرف المتعنت، بل الطرف الذي يلتزم بالاتفاقات، كما أثبتت الوكالة الدولية للطاقة الذرية مرارًا. أما الطرف الذي نكث عهده وخرق القانون الدولي، فهو الولايات المتحدة، التي انسحبت من الاتفاق دون أي مبرر قانوني، متجاهلة كل التزاماتها الدولية.
أمريكا… سياسة ازدواجية في الرداء الدبلوماسي
تتناقض الولايات المتحدة في مواقفها: تفاوض من جهة، وتفرض عقوبات وتصعّد في المنطقة من جهة أخرى. تحاول واشنطن استخدام أدوات الحرب النفسية والإعلامية والمالية لإجبار إيران على تقديم تنازلات. لكن هذه الأساليب فشلت أمام “الصبر الاستراتيجي” الإيراني، الذي لم يكن خنوعًا، بل حسابًا دقيقًا للردع، والقدرة، والتوقيت المناسب.
المعادلة تغيّرت… وإيران لاعب إقليمي لا يُتجاوز
إيران اليوم ليست كما كانت قبل عشرين عامًا. أصبحت قوة إقليمية ذات نفوذ سياسي وأمني، وصاحبة حلفاء استراتيجيين في محور المقاومة من لبنان إلى اليمن. هذا العمق الجيوسياسي جعل من طهران رقماً صعبًا في أي معادلة تخص المنطقة، وجعل من واشنطن مجبرة على التفاوض، لا منّة منها بل اعترافًا بواقع جديد.
مفاوضات على قاعدة الندّية لا التبعية
إن الدعم لإيران اليوم، هو دعم لمشروع السيادة في وجه الغطرسة، ودعم لحق الشعوب في امتلاك قرارها ومقدّراتها. فكما رفضت إيران أن تتحول إلى دولة وظيفية خاضعة، أثبتت أن الكرامة قد تُحاصر، لكنها لا تُهزم.
المفاوضات ستستمر، لكن من موقع قوة متكافئة، لأن إيران أثبتت أن من يملك الإرادة… لا يساوم على كرامته.
المسلة – متابعة – وكالات
النص الذي يتضمن اسم الكاتب او الجهة او الوكالة، لايعبّر بالضرورة عن وجهة نظر المسلة، والمصدر هو المسؤول عن المحتوى. ومسؤولية المسلة هو في نقل الأخبار بحيادية، والدفاع عن حرية الرأي بأعلى مستوياتها.
About Post AuthorSee author's posts