أزمات وانهيارات.. إيران المهزومة في الخارج ضعيفة داخلياً
تاريخ النشر: 18th, December 2024 GMT
قال الكاتب الصحفي كاي أرمين سرجوي، إن موقف إيران الإقليمي ضعف بشكل كبير في عام 2024؛ إذ عانت طهران من هزائم استراتيجية في غزة ولبنان، وبالأخص سوريا، التي انهارت بسرعة غير مسبوقة.
التخطيط للخلافة أصبح شغلاً شاغلاً ملحاً بالنسبة للنظام
وأضاف سرجوي، صحفي إيراني عمل في طهران لصالح مجلة "تايم" ووكالة "فرانس برس" وصحيفة "واشنطن بوست" وهو مقيم حالياً بأوروبا، في مقاله بموقع مجلة "تايم" الأمريكية، أن الإطاحة ببشار الأسد أدت إلى إجبار إيران على إجلاء ضباطها في فيلق القدس، مما ترك فراغاً حرجاً.
وتابع الكاتب: "أُهدرت استثمارات طهران الطويلة الأمد في سوريا، بما في ذلك 30 مليار دولار وأرواح لا حصر لها. وتؤدي هذه الانتكاسات بإيران إلى خسارتها لعدد من حلفائها، ولا سيما تقليص ما يسمى "محور المقاومة" إلى ميليشيات عراقية صغيرة والحوثيين في اليمن".
Recent regional setbacks have further weakened Iran’s hardliners at home, with increasing criticism from within the establishment holding them responsible for mismanagement and misdirection in the country’s foreign and domestic affairs.https://t.co/eEw6EdFasD
— Iran International English (@IranIntl_En) December 15, 2024وفي الوقت نفسه، تفوقت إسرائيل، خصم إيران الإقليمي، على طهران في عمليات تبادل الضربات. واستهدفت الضربات العسكرية الإسرائيلية منشآت الصواريخ والدفاع الجوي الإيرانية الحيوية بنجاح في حين فشلت عمليات الانتقام الإيرانية في إلحاق أضرار جسيمة بتل أبيب. ولم تتلق إسرائيل أي رد على هجومها في أكتوبر (تشرين الأول)، مما أثار معارضة عامة نادرة بين الموالين للنظام، الذين يشككون بشكل متزايد في كفاءة قيادته.
الانهيار الاقتصادي والاجتماعيوعلى الصعيد المحلي، يصف سرجوي إيران بأنها تواجه أسوأ أزمة اقتصادية منذ ثورة 1979. فقد أدت سنوات من العقوبات الأمريكية إلى شل صناعة النفط الإيرانية، وعلى الرغم من امتلاكها ثاني أكبر احتياطيات من الغاز الطبيعي في العالم، فإن إيران تواجه نقصاً في الغاز.
وبعد أن كانت إيران مصدرة للكهرباء في السابق، تكافح الآن لتلبية احتياجاتها المحلية. وانخفضت قيمة العملة الوطنية، الريال، بشكل حاد، حيث فقدت 46% من قيمتها خلال العام الماضي، مما يجعلها أضعف عملة في العالم.
Humiliated Abroad, #Iran Is Also Enfeebled at Homehttps://t.co/z3mzEPqKyl
— Yemen Details (@DetailsYemen) December 17, 2024وأدت التداعيات الاقتصادية إلى ارتفاع معدلات الفقر المدقع. ويعيش 30% من الإيرانيين تحت خط الفقر، ويقال إن 57% يعانون من سوء التغذية. وفي مواجهة تضاؤل الإيرادات، تفكر الحكومة في رفع أسعار الوقود المدعوم بشدة.
وتخاطر مثل هذه الخطوة بإشعال اضطرابات واسعة النطاق تذكرنا باحتجاجات "نوفمبر الدامي" في عام 2019، حيث قمعت القوات الحكومية المتظاهرين بعنف، مما أسفر عن مقتل 304 أشخاص على الأقل، وفقاً لمنظمة العفو الدولية.
وأشار الكاتب إلى أن هذه الاحتجاجات كانت أخطر تهديد للنظام منذ ثمانينيات القرن العشرين، حيث امتدت إلى أكثر من 200 مدينة وأسفرت عن مقتل أكثر من 500 شخص وإصابة الآلاف على يد قوات الأمن.
ورداً على ذلك، صادق البرلمان الإيراني المتشدد على مشروع قانون جديد للحجاب، مما يزيد من تقييد حريات المرأة. ويمثل التشريع محاولة النظام لإعادة تأكيد السيطرة ولكنه يخاطر بإعادة إشعال الغضب العام والانتفاضات الجماهيرية.
وعلى الرغم من حملات القمع التي يشنها النظام، فإن التحدي العام ما يزال قائماً، مستشهداً بمثال باراستو أحمدي، المغنية التي بثت حفلاً موسيقياً مباشراً من إيران إلى ملايين المشاهدين وهي لا ترتدي الحجاب؛ وهو عمل غير مسبوق منذ حظرت الثورة الإيرانية على النساء الأداء أمام جمهور من الذكور. ويسلط اعتقال أحمدي وإطلاق سراحها لاحقاً الضوء على قبضة النظام الهشة على السيطرة المجتمعية. علامات النظام الممزق وقال سرجوي إن مزاعم النظام بالحفاظ على "الأمن" الوطني قد انهارت بسبب بعض الحوادث التي كشفت عن ثغرات أمنية محرجة، مشيراً إلى اغتيال زعيم حماس إسماعيل هنية في مجمع محصن بشدة في طهران خلال زيارة رسمية، والذي من المرجح أن يكون من عمل مخربين إسرائيليين.
وقع هذا الحادث بعد أسابيع فقط من وفاة الرئيس إبراهيم رئيسي في حادث تحطم مروحية غامض، وهو الحدث الذي لم تقدم الحكومة أي تفسير موثوق له. وتكشف هذه الهفوات عن هشاشة أجهزة الأمن الإيرانية، مما يزيد من تآكل ثقة الجمهور. تراجع سلطة خامنئي وأزمة الخلافة وأشار الكاتب إلى أزمة الحكم الوشيكة في طهران، إذ يحكم المرشد الأعلى علي خامنئي ( 85 عاماً) منذ عام 1989 ولكن يقال إنه في حالة صحية سيئة. ورغم نفي التسجيلات المسربة التي تشير إلى وفاته الوشيكة، لكن حالة خامنئي المتدهورة بشكل واضح تعزز التكهنات.
وركز خامنئي في خطابه الأخير، المسجل مسبقاً دون بث مباشر،على قمع المعارضة وسط إحباط عام متزايد بسبب خسارة سوريا.
ولفت الكاتب النظر إلى أن التخطيط للخلافة أصبح شغلاً شاغلاً ملحاً بالنسبة للنظام. وعلى النقيض من الانتقال المستقر نسبياً في أعقاب وفاة آية الله الخميني في عام 1989، تواجه القيادة اليوم مزيجاً غير مسبوق من الانهيار الاقتصادي والاضطرابات المجتمعية وتآكل الشرعية. الخلاصة: مستقبل في مهب الريح وخلص كاي أرمين سرجوي إلى أن موقف إيران، سواء على المستوى المحلي أو الدولي، محفوف بالمخاطر. ففي حين ينهار نفوذ طهران في الخارج، فإن اقتصادها وحوكمتها وتماسكها المجتمعي يضعف في الداخل. وفي مواجهة الاضطرابات الداخلية والخصوم الأجانب والفراغ القيادي الوشيك، يبدو مستقبل طهران في مهب الريح. والآن يتأرجح نظام إيران على حافة أزمة قد يكافح لاحتوائها.
المصدر: موقع 24
كلمات دلالية: سقوط الأسد حصاد 2024 الحرب في سوريا عودة ترامب عام على حرب غزة إيران وإسرائيل إسرائيل وحزب الله غزة وإسرائيل الإمارات الحرب الأوكرانية إيران وإسرائيل سقوط الأسد فی عام
إقرأ أيضاً:
كيف نفهم تغير خطاب إيران وحزب الله تجاه سوريا؟
"موقع لبنان الجغرافي والسياسي يجعله بين أحد خيارين؛ إما أن يكون مع سوريا، وإما مع إسرائيل".
نعيم قاسم، الأمين العام لحزب اللهتعيد التطورات السياسية والعسكرية الكبرى رسم معادلات المصالح والقوة، وتفرض على الأطراف المنخرطة في صراعات إعادة معايرة مواقفها لتعظيم مكتسباتها وتقليل خسائرها، وربما يتحول عدو الأمس إلى صديق الغد، بينما يتحول الحليف إلى منافس وربما عدو.
ففي أفغانستان بالأمس القريب، وبعد سقوط حكومة أشرف غني وسيطرة حركة طالبان على العاصمة كابول، تحدث المحللون والخبراء عن انتصار باكستاني في "اللعبة الكبرى الجديدة" بجنوب آسيا، وتعزيز باكستان لعمقها الجيوسياسي في مواجهة الهند.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2لماذا هاجمت إسرائيل سوريا في هذا التوقيت؟list 2 of 2رحلة في عقل الجولاني.. هل يتحول المقاتل إلى رجل دولة؟end of listولكن سرعان ما تدهورت العلاقات بين الحكومتين الباكستانية والأفغانية الجديدة، ووصل الأمر إلى إغلاق الحدود مؤقتا من الجانب الباكستاني، وحدوث اشتباكات حدودية متقطعة، وإعادة آلاف اللاجئين الأفغان قسرا من مخيماتهم داخل باكستان إلى أفغانستان، فيما دخلت نيودلهي على الخط بتوقيع اتفاقية مع طهران لتطوير ميناء تشابهار الذي يربط الهند مع آسيا الوسطى عبر إيران وأفغانستان دون المرور برًّا بباكستان، كما يعمل منافسا لميناء غوادر الباكستاني الواقع ضمن مسار الممر الاقتصادي الصيني الباكستاني.
عند الانتقال من جنوب آسيا إلى غربها، نجد أن التطورات التي تشهدها سوريا أحدثت زلزالا ذا أبعاد "تكتونية"* عميقة ما زالت تفاعلاته تتوالى وتتكشّف تباعا، فسوريا التي قبعت ضمن دوائر النفوذ الإيراني والروسي خلال العقد الأخير تحديدا شهدت انسحابا كاملا للقوات التابعة لطهران، فيما بدأت موسكو بنقل جُلّ عتادها العسكري من الأراضي السورية إلى خارجها، بينما أصبحت تركيا الحليف الأبرز للقوى الثورية السورية في تماسٍّ مباشر مع جيش الاحتلال الإسرائيلي، الذي عمل على قضم المزيد من الأراضي جنوب سوريا، فضلا عن تدميره ما تبقى في معسكرات جيش الأسد من طائرات وصواريخ ومخازن أسلحة وأنظمة دفاع جوي وأسلحة ثقيلة.
إعلانوسط تلك الأحداث المتسارعة والمفاجئة، بدأ حزب الله اللبناني في إطلاق تصريحات على لسان أمينه العام نعيم قاسم، وفي بيانات رسمية، تشير إلى تغير في موقفه السياسي تجاه التطورات في سوريا.
فما كان احتمالا مستبعدا وافتراضا خياليا قبل بضعة أسابيع أصبح واقعا مشاهدا، فالجولاني الذي وضعت الولايات المتحدة على رأسه عشرة ملايين دولار، وتصدَّر اسمه قوائم الإرهاب والمطلوبين، أصبح اسمه المعتمد إعلاميا "أحمد الشرع"، وكشف وزير الخارجية الأميركية أنتوني بلينكن عن بدء التواصل معه للتباحث حول مستقبل سوريا، فيما يجلس "الشرع" في دمشق مستقبِلا وفود الزائرين من أنحاء العالم، ومن بينهم المبعوث الخاص للأمم المتحدة إلى سوريا "غير بيدرسون".
القائد العام لإدارة العمليات العسكرية أحمد الشرع (يمين) والمبعوث الخاص للأمم المتحدة إلى سوريا "غير بيدرسون" (رويترز)إن معادلات القوة تفرض نفسها، وتدفع الآخرين لمراجعة مواقفهم، والبحث عن مصالحهم في ضوء الواقع الجديد، فلماذا سيستمر حزب الله في خطاب تجاوزَته الأحداث، والبكاء على أطلال الماضي الذي يتدحرج يوميا ليصبح جزءا من التاريخ لا الحاضر، فضلا عن المستقبل؟ ومن ثم بدأت تغيب خطابات "مواجهة التكفيريين" و"حماية المراقد والعتبات المقدسة"، لتتردد خطابات تتحدث عن احترام خيار الشعب السوري، والحرص على بناء علاقات إيجابية تخدم المصالح المشتركة.
خطاب حزب الله قبيل سقوط الأسدلم يكد الحبر الموقَّع به اتفاق وقف إطلاق النار مع الاحتلال الإسرائيلي في لبنان يجف إلا وأطلقت مجموعة من فصائل الثورة السورية عملية "ردع العدوان" في 27 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، وسرعان ما سيطر الثوار على مدينة حلب ثم حماة، واقتربوا من مدينة حمص الواقعة قرب خطوط إمداد حزب الله بالسلاح القادم من إيران والعراق إلى لبنان مرورا بالأراضي السورية.
إعلانرأى حزب الله فيما يحدث محاولة لخنقه بعد الضربات الثقيلة التي تلقاها خلال الحرب مع جيش الاحتلال، ولذا سارع الأمين العام لحزب الله نعيم قاسم في 5 ديسمبر/كانون الأول الجاري للتصريح بأن "حزب الله سيقف إلى جانب سوريا في إحباط أهداف العدوان"، ووسم الثوار بأنهم "مجموعات تكفيرية تستخدمها أميركا وإسرائيل أدوات لهما منذ عام 2011″، وأوضح أن هدف العملية هو "نقل سوريا من المربع المقاوم إلى موقع آخر معادٍ يخدم العدو الإسرائيلي"، حسب تعبيره.
ولكن قطار الثوار دهس دفاعات جيش الأسد، وتهاوت قواته بسرعة وسط اندهاش الجميع، الجميع بما تعنيه الكلمة، الثوار وبشار الأسد وحزب الله وموسكو وطهران وتل أبيب وأنقرة وإلى آخر القائمة، ففرَّ بشار الأسد إلى موسكو، ولم يجد حزب الله ما يقف بجواره، فقد تبخَّر جيش النظام، وخلع جنوده ثيابهم العسكرية وفرّوا.
هنا تغيرت الحسابات، ولم يعد من الحكمة ولا السياسة السير عكس اتجاه الريح أو مصادمة الأمواج الهادرة، فألقى نعيم قاسم خطابا جديدا في 15 ديسمبر/كانون الأول الجاري، قدَّم خلاله خطابا يُمكن وصفه بالحذر، قائلا: "نحن لا يمكننا الحكم على هذه القوى الجديدة إلا عندما تستقر، وتتخذ مواقف واضحة وينتظم وضع النظام في سوريا".
تضمن خطاب قاسم في ثناياه إشارات إلى مصالح حزب الله في سوريا، والدوافع التي حرَّكته للوقوف بجوار نظام الأسد، في إشارة إلى استعداد الحزب للتعاون مع مَن يكفل له تلك المصالح في النظام الجديد الذي يتشكَّل. فأشار قاسم إلى أن حزب الله "دعم نظام الأسد لأنه وقف في الموقع المعادي لإسرائيل، وأسهم في تعزيز قدرات المقاومة عبر نقل الأسلحة من الأراضي السورية إلى لبنان وفلسطين".
وفتح قاسم نافذة للتعاون المستقبلي قائلا: "نتمنى أن يكون الخيار للنظام الجديد وللشعب السوري هو التعاون بين الشعبين وبين الحكومتين في لبنان وسوريا على قدر المساواة وتبادل الإمكانات… نتمنى أن تعتبر الجهة الحاكمة الجديدة إسرائيل عدوا وألا تُطبِّع معها"، وشدَّد على أن هذه هي العناوين التي ستؤثر على طبيعة العلاقة بين الحزب وسوريا، ثم أكَّد مجددا احترام "حق الشعب السوري في اختيار قيادته وحكمه ودستوره ومستقبله".
إعلانلا يمكن فصل تغير موقف حزب الله من التطورات في سوريا عن تداعيات غياب أمينه العام الكاريزمي حسن نصر الله عن المشهد، فقد أدى مقتله إلى تغييب القائد الأبرز لما بات يُعرف بـ "محور المقاومة" في العالم العربي، والذي امتلك قدرة على تأجيج مشاعر الجماهير، وحشد آلاف المقاتلين من لبنان والمنطقة للقتال بجوار النظام السوري.
أما اليوم، يبدو الأمين العام الجديد نعيم قاسم معنيا بتجنب خوض صراعات جديدة منهكة تستنفد ما تبقى من مقدّرات الحزب، والحفاظ على ما أمكن من حضوره في الساحة اللبنانية في مواجهة ضغوط داخلية من الفرقاء اللبنانين تدفع باتجاه نزع سلاحه وتحويله إلى حزب سياسي وحركة اجتماعية فقط.
ويوما بعد يوم يتأكد أن حجم الفوارق بين إمكانيات وتأثير حسن نصر الله ونعيم قاسم ستؤثر على وزن وثقل وتأثير حزب الله في المشهدين المحلي والإقليمي، ويتوازى ذلك مع الضربات التي تلقاها الحزب أمنيا وعسكريا في الأشهر الأخيرة إثر استهداف جيش الاحتلال لصفوفه القيادية وبناه المجتمعية والعسكرية.
ووفق ما سبق، فإن نزع عباءة الخطاب الذي يتحدث عن "التكفيريين" لصالح خطاب سياسي يتناول "المصالح المشتركة" يُمثِّل تطورا في خطاب حزب الله تجاه الملف السوري، ويرمي الكرة في ملعب النظام الجديد، الذي قامت سرديته على العداء لحزب الله لمساندته نظام بشار الأسد طوال سنوات.
وقد صدرت بالمقابل إشارات من أحمد الشرع، حيث تحدث عن أن الثوار لا يعادون الشعب الإيراني، وأنهم استعادوا مدنهم من القوات التي دعمتها طهران، مما يفتح الباب جزئيا أمام فرص لبناء علاقات جديدة تقوم على احترام السيادة وعدم التدخل في الشؤون الداخلية لسوريا، وهنا خاطب الشرع الإيرانيين باعتبار ذلك يشمل كل مَن يؤمن بولاية الفقيه أو ينسق مواقفه مع طهران.
الخطاب القادم من طهرانلا يمكن لحزب الله اللبناني أن يرسم سياساته تجاه سوريا بمعزل عن إيران، ولذا فإن تحليل خطابه ينبغي أن تواكبه متابعة دقيقة لبوصلة الموقف الإيراني. فقد لعبت طهران دور رأس الحربة في دعم نظام بشار الأسد، فأمدّته بالمستشارين العسكريين، والميليشيات المقاتلة من العراق ولبنان وباكستان وأفغانستان رفقة أسلحتها وذخائرها، وتكفَّلت برواتب عناصرها، وتكبَّدت أكثر من سبعة آلاف قتيل ومصاب إيراني في المعارك بحسب أمير هاشمي، رئيس مؤسسة الشهيد الإيرانية، فضلا عن توفير دعم اقتصادي بعشرات مليارات الدولارات على صورة خطوط ائتمان ونفط.
إعلانوبالتالي فإن سقوط نظام الأسد، ودخول أحمد الشرع إلى دمشق، بدَّد كل ما سبق، فسحبت طهران كل مستشاريها وعناصرها من سوريا، وأخلت سفارتها بدمشق وقنصليتها بحلب، فيما تعززت الخسائر التي أُصيب بها "محور المقاومة" في حرب لبنان، وفي مقدمتها اغتيال أغلب قادة حزب الله الكبار، وعلى رأسهم أمينه العام حسن نصر الله.
ولذا، خرج مرشد الثورة آية الله علي خامنئي بنفسه في 11 ديسمبر/كانون الأول الجاري ليتحدث عن دلالات وتداعيات الأحداث في سوريا، وقدَّم خطابا يشبه خطاب حزب الله ما قبل سقوط الأسد، فأكَّد أن "ما حدث في سوريا هو نتاج خطة أميركية وصهيونية مشتركة، وأن هناك دورا واضحا لإحدى الدول الجارة لسوريا"، وسعى لتقديم أدلة على فرضيته، فتحدث عن أن الطائرات الحربية الأميركية والإسرائيلية أغلقت المجال الجوي السوري، ومنعت إرسال دعم إيراني جوا أو برا إلى سوريا خلال القتال الأخير، وأشار إلى أن الهدف من التطورات تثبيت موطئ قدم لأميركا في المنطقة، واحتلال أجزاء من شمال سوريا وجنوبها.
وفي خطاب للداخل الإيراني، برَّر المرشد خامنئي الدعم الذي قدَّمته طهران لنظام الأسد بأنه رد جميل لمساعدة حافظ الأسد لإيران في حربها ضد العراق، عبر وقف نقل النفط العراقي إلى البحر المتوسط بواسطة خط أنابيب يمر بسوريا بسعة مليون برميل يوميا، مما حرم صدام حسين من عائدات اقتصادية مهمة.
كما أشار خامنئي إلى "الدفاع عن العتبات المقدسة" في سوريا، وإلى التصدي لخطر تنظيم الدولة الإسلامية "داعش"، مُنوِّها إلى أن قتال إيران للتنظيم في سوريا والعراق حفظ الداخل الإيراني من هجمات التنظيم الذي هاجم مقر مجلس الشورى في طهران عام 2017، ومرقد شاه تشراغ في عام 2022، ومدينة كرمان في عام 2024 مما أسفر عن مقتل وإصابة مئات الأشخاص، واستدل المرشد بقول منسوب لعلي بن أبي طالب -رضي الله عنه- في كتاب نهج البلاغة: "مَا غُزِيَ قَوْمٌ قَطُّ فِي عُقْرِ دَارِهِمْ إِلَّا ذَلُّوا".
إعلانحاول المرشد خامنئي رفع الملامة عن إيران في سقوط النظام السوري، فأوضح أن دور طهران اقتصر على إرسال مستشارين عسكريين لدعم الجيش السوري عبر تأسيس مراكز قيادة وتحديد الإستراتيجيّات والتكتيكات، وخوض القتال في حالات ضروريّة، وتعبئة شباب من المنطقة للقتال وتدريبهم، وليس القتال بواسطة تشكيلات الجيش الإيراني والحرس الثوري، وبالتالي فمع انهيار جيش النظام لم تعد هناك جهة يُقدِّم لها الإيرانيون الدعم والمساندة.
وأخيرا، شدَّد خامنئي على ضرورة عدم الارتباك في التعامل مع الأحداث، قائلا: "أحيانا يكون خطر الارتباك أكبر من خطر الحادثة نفسها. الارتباك قد يقود الإنسان إلى شعور بأنه عاجز عن فعل أي شيء، فيستسلم"، وتعهَّد بأن يمتد نطاق المقاومة ليشمل المنطقة بأسرها، أكثر من السابق.
إن خطاب آية الله خامنئي جاء موجَّها للداخل ولمَن يدورون في فلك طهران بالدرجة الأولى، في ظل شعور متنامٍ بأن محور المقاومة يتفكك، وأن الجهد الذي بذلته طهران عبر أكثر من أربعة عقود بالدم ومليارات الدولارات يتبخر. ولذا خلا الخطاب من رسائل سياسية مباشرة تجاه مستقبل العلاقة مع سوريا الجديدة، وهو ما تداركته وزارة الخارجية الإيرانية بتصريحات لمسؤوليها أشارت خلالها إلى وجود علاقات تاريخية مع سوريا، وأن طهران تريد الخير لدمشق، وأنه توجد مبالغة بحجم ديون سوريا لإيران، وأن المعاهدات الثنائية بين البلدين قائمة وستنتقل للحكومة القادمة، مشيرة إلى قرب فتح سفارتها في سوريا بمجرد ضمان أمن السفارة وموظفيها، وهي ملفات قد تفتح بابا للحوار، وربما أيضا للخلافات، وبالأخص فيما يتعلق بمعاهدات وديون النظام السابق.
خطاب الحوثي مقابل خطاب الجولانيبجوار خطاب إيران وحزب الله، لم يكن عبد الملك الحوثي، قائد حركة أنصار الله اليمنية (الحوثيين)، بعيدا عن المشهد، فهو طرف فاعل بالأحداث، ومكون رئيسي بالمحور، منذ بدأ في إطلاق الصواريخ والطائرات المسيرة تجاه إسرائيل، وتجاه سفن الدول الصديقة لإسرائيل في البحر الأحمر وبحر العرب والمحيط الهندي.
إعلاناعتبر الحوثي في كلمة ألقاها في 12 ديسمبر/كانون الأول الجاري أن ما يحدث بسوريا جزء من مخطط نتنياهو لإعادة رسم ملامح الشرق الأوسط، مشيرا إلى اقتراب جيش الاحتلال من مسافة 25 كيلومترا من دمشق دون أن يواجه مقاومة، فضلا عن تثبيت معادلة الاستباحة بتدمير ما تبقَّى من مقدرات وأسلحة الجيش السوري، وحدَّد أحد معايير حكمه على التغيير في سوريا قائلا: "إن الجماعات التي سيطرت على سوريا أمام اختبار مهم يكشف حقيقة توجهها، تجاه ما هو حاصل ويحصل في سوريا، وتجاه القضية الفلسطينية".
إن الحوثي في سياق النقد فتح الباب لبناء علاقة جديدة مع سوريا تقوم على العداء للاحتلال الإسرائيلي، ودعم القضية الفلسطينية. وفي المقابل، قدَّم أحمد الشرع خطابا يشير إلى أن الشعب السوري أرهقته الحروب، ويحتاج إلى سنوات من أجل بناء البلد وتنميته، ولا يريد خوض حرب مع إسرائيل، داعيا في الوقت ذاته المجتمع الدولي للضغط على إسرائيل للالتزام باتفاقية فض الاشتباك لعام 1974، والتوقف عن قصف الأراضي السورية بعد خلوّها من عناصر حزب الله.
إن خطاب أحمد الشرع لا يضع مواجهة إسرائيل ضمن أولوياته الحالية، وهو أمر متوقع منه بصفته قائدا لحركة ثورية وصلت لسُدّة السلطة في بلد تعرض لانهيارات في جميع النواحي، ويحتاج إلى إعادة بناء تكاد تبدأ من الصفر وسط صراعات دولية وإقليمية على النفوذ وفرض الهيمنة على سوريا.
ولكن في المقابل، فإن ممارسات إسرائيل بسوريا منذ سقوط نظام الأسد لا تترك للإدارة الجديدة خيارات كثيرة، فتل أبيب عازمة على منع امتلاك سوريا لأي قوة عسكرية يمكن أن تهدد الاحتلال الإسرائيلي للجولان، وهو ما قد يفرض على "الشرع" أن يبني علاقاته الإقليمية والدولية بشكل يبحث في ثناياها عن أيادٍ ممدودة ترفده بقدرات عسكرية نوعية لمواجهة اعتداءات الاحتلال، وفي تلك الحالة قد تتقارب أرضيات وتنشأ تحالفات جديدة مع الدولة السورية الناشئة.
إعلانإن طبيعة العلاقة بين طهران وإدارة ترامب الجديدة، ومدى مُضي نتنياهو في التوسع باستهداف مصالح طهران، وتعميق العربدة بالأراضي السورية، قد تفتح الباب لتغيرات واحتمالات تفوق التوقعات، فتاريخ المنطقة يرشدنا أنه ليس هناك أكثر اعتيادا من تواتر المفاجآت على مسرح الصراع في العالم العربي..
_______________
*الصفائح التكتونية هي الطبقة الخارجية من سطح الأرض والمسماة الغلاف الصخري "الليثوسفير" (Lithosphere) المكون من القشرة وطبقة الوشاح الصلب، ويتراوح سمك الطبقة الخارجية بين 50 و100 كلم، وهي مكونة من صفائح صلبة كبيرة وصغيرة، وتشكل حركتها معالم سطح الأرض المختلفة.