سعود الحوسني يكتب: أدبنا العربي مرآة هويتنا وذاكرتنا الحية
تاريخ النشر: 17th, December 2024 GMT
الأدب مرآة هوية الشعوب وذاكرتها الحية عبر العصور، وهو العصب الذي يربط ما بينها ليشكّل نسيجنا الثقافي وامتدادنا الإنساني حول الكون. وقد كان للأدب منذ آلاف السنين الدور الأساسي في حياتنا، إذ ساعدنا على فهم العالم من حولنا بشكل أفضل، وتحديد موقعنا ومكانتنا ورسالتنا في هذا العالم. في موازاة ذلك، كانت الأعمال الأدبية المتميّزة وموضوعاتها المتنوّعة، من الدين والفلسفة إلى العلم والشعر، علامات اجتماعية وثقافية فارقة في تطوّر البشرية.
وعلى امتداد العالم العربي، احتلّ الأدب واللغة، ولا يزالان، مكانةً مرموقة في تاريخنا وثقافتنا. فخلال العصور الإسلامية من صدر الإسلام وصولاً إلى العصرين الأموي والعباسي حتى المملوكي، أسهَمَ الأدب العربي في ارتقاء المعرفة وتعزيز التطوّر. ولم يقتصر الأمر على قيام العلماء العرب بحفظ ما نقلوه عن مفكري اليونان وعلمائها وأدبائها القدماء، وحفظوه للعالم عبر أوروبا وروح البحث العلمي التي حفّزوها هناك، بل تمكنّت كذلك أعمال روّاد الأدب والفكر، مثل ابن رشد وابن سينا والكندي والخوارزمي، من الدفع بالحضارة إلى آفاق معرفية جديدة.
واليوم، يشكّلُ الأدب عنصراً مؤثراً في تشكيل هويّتنا الثقافية حول العالم. وفي دائرة الثقافة والسياحة - أبوظبي، نتمسّك بهذه القيمة الهامة والملهمة لهويتنا، من خلال اعتماد الأدب العربي وسيلةً لإثراء الحياة وتسهيل التبادل الثقافي. ونقوم بذلك من خلال برامج وفعاليات عديدة أبرزها معرض أبوظبي الدولي للكتاب، من تنظيم مركز أبوظبي للّغة العربية التابع للدائرة.
وإننا ندركُ ما لهذا المعرض الهام، إلى جانب فعالياتنا الثقافية والقرائية العديدة، من دور في تعزيز القراءة ثقافةً يوميةً راسخة لأفراد مجتمعنا الإماراتي، وقد أتاح معرض أبوظبي الدولي للكتاب ومهرجان العين للكتاب 2024 فرصاً ثمينة أمام هواة القراءة للتعمّق في سبر أغوار الأدب العربي وكنوزه وروائعه. وكان هذان الحدثان استضافا في العام الماضي 308 آلاف زائر، بينهم عدد كبير من الوفود المدرسية، علماً بأنّ دراسة لوزارة الثقافة أجريت في عام 2021 ذكرت أنّ 40 في المئة من المواطنين والمقيمين في أبوظبي يشترون كتبهم وسائر المطبوعات التي يقرؤونها من معارض الكتب التابعة لدائرة الثقافة والسياحة - أبوظبي.
وعبر احتضان اللغة العربية، يمكن لمعارض الكتب أن ترسّخ هويّتنا العربية، وتجمع بعض أبرز الكتّاب والمفكّرين في المنطقة لعقد ملتقياتهم التي تثري حوارنا الثقافي. فاللغة العربية لغة جميلة نابضة بالحياة، استمرّت ونمت واغتنت من خلال لهجاتها المتعدّدة وآدابها. كما أنّها غنيّة بالمفردات والمعاني. ورغم ذلك، لا تعتبر اللغة العربية ممثلة بشكل كافٍ في الحوارات العالمية والمحتوى الدولي، إذ يعتمدها أقل من 1 في المئة من المواقع الإلكترونية حول العالم، فيما يشكّل المتحدّثون بها نحو 3.4 في المئة من سكّان المعمورة.
وبناءً عليه، من الضرورة بمكان أن نتشارك أخبارنا وقصصنا مع سائر العالم بلغتنا، وذلك حتى يكون لدى هؤلاء فهم أعمق لحضارتنا وثقافتنا العربية. ومن هذا المنطلق، أخذت دولة الإمارات العربية المتحدة على عاتقها مهمّة الحفاظ على الأنماط التقليدية في التعبير ودعم ابتكار أنماط جديدة أيضاً من خلال المستجدات غير المسبوقة من الأدوات والتقنيات مثل الذكاء الاصطناعي.
وكما ذكر الدكتور علي بن تميم، رئيس مركز أبوظبي للغة العربية، في كلمته أمام المؤتمر الدولي للنشر العربي والصناعات الإبداعية الذي عقد في أبوظبي نهاية شهر أبريل المنصرم، فإنّ الأدب يعبّر عن «سرديّة التراث العربي القائمة على احترام الآخرين والتفاعل معهم». فهذه القيم تمنح الأدب القوّة وتجعله جسراً ثقافياً، كما كان عليه خلال عصره الذهبي.
فحتّى اليوم، ما زلنا نستمدّ الإلهام من كنوز أدبنا وتاريخه المشرق، بروائعه العديدة مثل «كليلة ودمنة»، أحد كتبي المفضّلة، والذي يتصدّر معروضات حدث يستضيفه متحف اللوفر أبوظبي حالياً تحت عنوان: «من كليلة ودمنة إلى لافونتين: جولة بين الحكايات والحكم».
وكما هو معلوم، الخرافة تلهم الشخصيّة. فإحدى المعروضات التذكارية الملفتة في متحف اللوفر أبوظبي تقول: «ما الخرافة؟ إنها حكاية صغيرة تخبرك من أنت». وعندما يصل الإحساس بالشخصية من خلال مقولة «من أنت» إلى عدد كافٍ من الأفراد، فإنّه بذلك يلعب دوراً في تعزيز الهويّة الثقافية وفهم قيمها وأبعادها.
لهذا السبب تمنح دائرة الثقافة والسياحة - أبوظبي قيمة عالية لمكتباتها في الإمارة. ففي وقت ينظر فيه معظم الناس إلى القراءة في المكتبات على أنها عادة قديمة، يستثمر العالم العربي في المكتبات بوصفها مراكز للمجتمع والمعرفة. وقد استقبلت الفروع الخمسة لمكتباتنا عدداً هائلاً من الزوار بلغ 164.553 زائراً خلال العام الماضي. وهي تحتوي على 306.492 كتاباً، بما فيها 30.099 كتاباً حول دولة الإمارات العربية المتحدة ومنطقة الخليج العربي.
وخير مثال على جهود «مكتبة» المتواصلة مسابقة «الكاتب الصغير في الكتاب الكبير»، التي تدعو الطلاب لكتابة قصص حول موضوع معين، ويجرى جمع ونشر أفضل المشاركات. وعلى سبيل المثال، كان موضوع المسابقة في عام 2020 معرض «إكسبو 2020». وضمّت المشاركات الفائزة واحدة تقدّمت بها تلميذة في الصف الثامن، التي وصفت فيها زيارة إحدى الطالبات إلى «إكسبو 2020»، ما أطلق العنان لشعور الانتماء الوطني لديها، ودفع جدّتها إلى مشاركة قصص عن تاريخ الدولة وإنجازاتها، من استخدامات سعف النخيل إلى حكايات البحّارة الشجعان.
ربما يأتي يوم يقدّم لنا فيه أحد مؤلفي «الكاتب الصغير في الكتاب الكبير» مجموعة أخرى من طراز «كليلة ودمنة»، أو ينتج كتاباً يستحقّ العرض والبيع في معارضنا، أو يفوز بإحدى جوائزنا الأدبية العريقة. ومن خلال ذلك وحده، سيحافظ هؤلاء الكتّاب المبدعون الجدد، على تراث لغتنا كقوّة دافعة لتشكيل هويّتنا الثقافية والحفاظ على أدبنا آمناً لأجيال عديدة آتية.
وكيل دائرة الثقافة والسياحة - أبوظبي أخبار ذات صلة
المصدر: صحيفة الاتحاد
كلمات دلالية: الأدب العربي دائرة الثقافة والسياحة الإمارات الثقافة والسیاحة من خلال
إقرأ أيضاً:
الجراد الطاعون.. ما سبب زحفه الكثيف إلى العالم العربي هذا العام؟
في نفس التوقيت من كل عام تقريبًا، يتجول الجراد الصحراوي منتقلًا من نمط العزلة إلى الحياة الاجتماعية، ويشكل أسرابًا كبيرة تستهدف الأراضي المزروعة سعيًا للتغذية والتكاثر.
لكن في هذا العام، كان ظهور الجراد أعلى بكثير من المعتاد، إذ غطّت مئات الأسراب منه السماء، وأتت على الأخضر واليابس، واجتاحت ملايين منه المنطقة العربية، والتهمت كل ما وقعت عليه عيونها.
هذا النوع من الجراد المعروف بـ"الجراد الأفريقي" خطير جدًّا، فهو ينتمي إلى صنف الجراد الصحراوي الذي يعتبر أكثر الأنواع تدميرًا وفتكًا بالمحاصيل الزراعية على الإطلاق، وتسمّيه منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة (الفاو) "الجراد الطاعون".
اكتسبت هذه الحشرة المدمرة هذه السمعة لعدة أسباب تتعلق بقدرتها الهائلة على التكيف والتكاثر بسرعة فائقة والهجرة الجماعية لمسافات طويلة، وهي تشكل تهديدًا كبيرًا للأمن الغذائي لأنها عند تكاثرها وانتشارها تدمّر المحاصيل وأعلاف الحيوانات بشكل واسع.
على مدار الأسابيع الماضية، غزت أسراب الجراد الصحراوي المهاجرة المناطق الجنوبية من عدد من دول شمال أفريقيا، خاصة تونس والجزائر وليبيا والمغرب، مخلفةً وراءها دمارًا زراعيًّا واسعًا أثَّر في مساحة شاسعة من الأراضي الخصبة في هذه الدول.
إعلانويقول الخبير البيئي مصطفى بنرامل الذي يرأس جمعية المنارات الإيكولوجية من أجل التنمية والمناخ، ومقرها المغرب "على الرغم من أن الوضع الحالي يشير إلى رصد أسراب من الجراد الصحراوي في هذه المناطق إلا أنه لا يوجد حاليًّا ما يشير بشكل قاطع إلى زحف مدمر بدأ تحديدًا من جنوب السودان، ووصل مباشرة إلى شمال أفريقيا. بل المؤشرات تبين قدومه من مالي والنيجر وتشاد وبوركينا فاسو وحتى من موريتانيا والسنغال".
ويضيف في حديثه للجزيرة نت "تاريخيًّا، تبدأ تفشيات الجراد الصحراوي عادةً في مناطق تكاثره الرئيسية في الصحراء الكبرى، ومنطقة الساحل، وشبه الجزيرة العربية وخصوصًا اليمن وعمان".
وتشير التقارير البحثية إلى أن الزحف المدمر الذي وصل إلى شمال أفريقيا حاليًّا ربما يكون قد نشأ نتيجة لتكاثر وتجمع أسراب من الجراد في مناطق واسعة من الصحراء الكبرى أو منطقة الساحل، قد تشمل أجزاء من دول مثل السودان وتشاد والنيجر ومالي وموريتانيا.
وفي ليبيا، بدأت أسراب الجراد الظهور مطلع أكتوبر/تشرين الأول 2024 في مدينة سبها، وانتشرت بعدها في المزارع بالمناطق الجنوبية في تراغن وتازربو وبراك الشاطئ، ثم انتقلت شمالًا إلى مدينتي ترهونة وبني وليد، ويرجَّح أن تصل إلى مناطق أخرى.
هذه الأسراب خلَّفت أضرارًا كبيرة، وأتت على محاصيل عديدة منها الحبوب وأشجار النخيل، إضافة إلى التأثيرات السلبية في الغابات ونباتات المراعي.
فهي على سبيل المثال تنتشر في هذه الأثناء في 120 دائرة زراعية في نالوت وغدامس، وعدة مزارع أخرى في ترهونة وبني وليد كذلك، أما في تازربو فهي تغطي نحو مليوني شجرة نخيل وفق ما أفادت به اللجنة الوطنية لمكافحة الجراد الصحراوي.
وكانت دراسة أعدها مؤخرًا فريق بحثي من المركز الليبي لأبحاث الصحراء وتنمية المجتمعات الصحراوية قد أكدت أن المزارع في المناطق الجنوبية من البلاد تواجه تحديات جسيمة بسبب انتشار هذه الآفة التي تشكل تهديدًا خطيرًا للمحاصيل الزراعية والمراعي.
إعلانوفي مناطق مختلفة من الجنوب الشرقي للمغرب، تم رصد أسراب من الجراد بشكل منفرد في 12 موقعا خلال الشهر الماضي، و54 موقعًا خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة، وسُجلت أعداد محدودة منه في طاطا وبوعرفة، وفي أجزاء من تنغير والراشدية، وهي المناطق الأربع التي تم فيها تسجيل أعداد من الجراد خلال الأسابيع الماضية.
حسب المعطيات الرسمية، تم تسجيل جراد ناضج لكنه بشكل منفرد في 12 موقعًا في المغرب خلال الشهر الماضي، وفي 54 موقعًا خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة.
وفي الجزائر، غزا الجراد الصحراوي عدة ولايات جنوبية في تهديد خطير للمحاصيل الزراعية؛ مما دفع المعهد الوطني لحماية النباتات إلى إصدار بيان ينبه فيه إلى ضرورة الاستعداد واتخاذ التدابير الوقائية اللازمة.
بعد مروره بليبيا والجزائر، أثار ظهور الجراد في منطقة الذهبية من ولاية تطاوين في جنوب تونس، قلق الفلاحين الذين رصدوا أعدادًا كبيرة منه قادمة من ليبيا، محذرين من خطورته على المحاصيل الزراعية لكونه من الآفات الفتاكة بالأشجار المثمرة والغطاء النباتي.
رغم اختلاف الظروف المناخية من منطقة لأخرى، يمثل هذا الانتشار العابر للحدود خطرًا محدقًا على التوازن البيئي والمحاصيل الزراعية بحسب توصيف منظمة الفاو التي صنفته على أنه من أكثر الآفات المهاجرة تدميرًا في العالم.
ينمو هذا الجراد بسرعة، ويتحرك بالسرعة ذاتها متجهًا نحو المزارع والمحاصيل الزراعية، حيث تستطيع الأسراب الطائرة التي تضم عشرات الملايين من الجراد قطع مسافة 150 كيلومترا أو أكثر يوميًّا باتجاه الرياح التي يمكن أن تحمل أسراب الجراد لمسافات طويلة جدًّا.
وفي حين تعتبر الرياح العامل الأهم في الانتشار السريع لأسراب الجراد، يقول بنرامل إن "امتلاك الجراد الصحراوي البالغ أجنحة قوية تمكنه من الطيران لمسافات طويلة يسمح للأسراب باجتياح مناطق واسعة عبر الحدود الإقليمية والدولية، والوصول إلى مناطق جديدة لم تكن موبوءة سابقًا، وبالتالي تدمير الغطاء النباتي والمحاصيل على نطاق واسع بحثًا عن الغذاء".
إعلانويضيف "تساعد الرياح القوية الجراد على تجاوز الحواجز الطبيعية مثل السلاسل الجبلية الكبيرة أو المسطحات المائية الواسعة التي قد تعيق حركته البطيئة على الأرض، كمنطقة البحر الأحمر على مستوى القرن الأفريقي للجراد القادم من اليمن أو البحر الأبيض المتوسط عند عبورها نحو أوروبا".
لذلك، توقع الخبراء أن الرياح الجنوبية الشرقية القوية التي ستشهدها بعض المناطق الجزائرية ستساعد على تنقل الجراد من مناطق جنوب الأطلس الصحراوي نحو ولايات الوسط والشرق والجنوب الشرقي؛ مما يوسِّع رقعة الخطر.
كما استفادت أسراب الجراد الصحراوي من الرياح الموسمية القوية والظروف المناخية المواتية لعبور الحدود مارًّا بمصر وليبيا، وصولًا إلى شمال أفريقيا، وتزامن وصوله إلى الجنوب التونسي مع حالة جوية ساعدت أسرابه على الانتشار والوصول بسرعة أكبر، خاصة أن اتجاه حركة الأسراب يعتمد بشكل كبير على اتجاه الرياح السائدة في ذلك الوقت؛ مما يؤدي إلى انتشارها على نطاق واسع عبر مناطق شاسعة.
إلى جانب تأثير الرياح، تؤثر درجة الحرارة في قدرة الجراد على الطيران، ففي درجات الحرارة الدافئة والمعتدلة، يكون الجراد أكثر نشاطًا وقدرة على الطيران لفترات أطول، في حين تقلل درجات الحرارة المنخفضة من نشاطه وقدرته على الطيران، مما يبطئ من انتشاره.
كما تؤثر الحرارة في سرعة التطور، فدرجات الحرارة الدافئة تسرع من دورة حياة الجراد، من البيض إلى الحوريات إلى البالغات، وهذا يعني -كما يقول بنرامل- أن الأجيال الجديدة يمكن أن تتطور بسرعة أكبر، وهو ما يزيد من سرعة تراكم الأعداد وتكوين أسراب جديدة قادرة على الانتشار.
وحول سبب ظهوره المفاجئ في جنوب ليبيا، تقول اللجنة الوطنية لمكافحة الجراد إن الفيضانات التي حدثت في مدينة سبها، وما تبع ذلك من ارتفاع درجات الحرارة والرطوبة، ساهمت في إيجاد بيئة مواتية لتكاثر هذه الحشرة، ومن ثم انتشارها.
إعلانووفقًا لبنرامل "يمكن لأعداد الجراد أن تزيد بشكل كبير مع كل جيل جديد في ظل الظروف المناخية المناسبة، خاصة بعد هطول الأمطار الغزيرة التي توفر بيئة مثالية لتكاثر الجراد بأعداد كبيرة، بما في ذلك التربة الرطبة لوضع البيض وتفقيسه بنجاح، ونمو النباتات التي يعتمد عليها الجراد في غذائه".
ويضيف "في مثل هذه الظروف البيئية المواتية للتكاثر والنمو يمكن أن يتضاعف عدد الجراد 20 مرة كل 3 أشهر، و400 مرة خلال 6 أشهر، و8 آلاف مرة خلال 9 أشهر".
وسبق للمنطقة المغاربية وغربي أفريقيا أيضًا أن شهدت تكاثرًا لهذه الحشرة الضارة بشكل كبير، ولم يكن العدو مرض الإيدز أو الملاريا أو الحرب، بل أسوأ آفة منذ أكثر من جيل، وتحت الهجمات المتكررة لأسراب الجراد، يمكن لربع محاصيل غربي أفريقيا أن تختفي، وهذا يعني تدمر مصادر الغذاء وسبل العيش لملايين الأشخاص.
وبين عامي 2018 و2019، وفَّرت الأعاصير والأمطار الغزيرة للجراد الصحراوي ظروف وضع البيض في بيئة رطبة في أفريقيا وشبه الجزيرة العربية وجنوب آسيا وأميركا الجنوبية.
وفي العامين التاليين، سجلت منظمة الفاو إحدى أسوأ أزمات انتشار الجراد، حيث غطت أسراب الجراد مناطق بأكملها في الهند وإثيوبيا، وساعدت الرياح الغربية القوية القادمة خليج البنغال أسراب الجراد على الانتشار السريع الذي تسبب في تلف آلاف الهكتارات من المحاصيل الزراعية.
وشهد العالم ظاهرة أسراب الجراد الضخمة مرتين خلال 100 عام، فخلال الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي، غطَّت أسراب الجراد مناطق واسعة من العالم، وخلال عامي 2003 و2005، حدث نمو كبير في أعداد الجراد كبَّد العالم خسائر بلغت 2.5 مليار دولار.
والأمر المستغرب أن هناك قارة واحدة مأهولة خالية من الجراد. إنها أميركا الشمالية، لكن الأمر لم يكن دائمًا على هذا النحو، فعلى مدى مئات السنين كانت جرادة جبال الروكي مصدر إزعاج في الغرب الأميركي.
وفي منتصف القرن التاسع عشر، انتقل عدد كبير من الرواد غربًا بحثًا عن أراض حرة وفرص جديدة، ثم في عام 1875، اجتمعت عوامل نادرة من تيارات الهواء والجفاف والطبيعيات الأساسية، وولدت ما لا يخطر على بال: أضخم سرب تم تسجيله حتى الآن، لاح في الأفق كغيمة خيالية، لا يُعد بالملايين ولا بالمليارات، بل بتريليونات من الحشرات اجتاحت البلاد كإعصار حي.
باختصار، استفاد الجراد الصحراوي من الرياح الموسمية كآلية نقل فعالة لعبور الحدود والوصول إلى مناطق جديدة، بينما ساهمت الظروف المناخية المواتية (خاصة الأمطار والحرارة) في توفير الغذاء وبيئة التكاثر المناسبة التي تدعم نمو الأعداد وتشكيل الأسراب الكبيرة التي تتمكن بعد ذلك من الاستفادة من الرياح للانتشار على نطاق واسع. هذا التفاعل بين العوامل الجوية والبيولوجية يجعل من الصعب التنبؤ بحركة الجراد والسيطرة عليه، كما يقول بنرامل.
إعلان عدو المحاصيل الزراعية الصامتويمكن مقارنة آثار الجراد المدمرة بالكوارث، فهو أكثر كثافة من الإعصار، وأكثر ضررًا من عاصفة رملية، وأكثر فتكًا من أي هزة أرضية.
هذه الحشرات وحدها قد لا تشكل خطرًا لكنها طلائع جيش هائل من الحشرات، وهذا الجيش لا يجتاح حقلًا واحدًا فحسب، بل آلاف الحقول في أنحاء البلاد، وهو يسبب الضرر لملايين العائلات عبر القارة كلها.
يمكن للجرادة العادية أن تقفز أكثر من 6 أقدام، أي نحو مترين، وهذا يشبه رياضيًا أولمبيًّا يقفز أكثر من 100 متر، ولو استطاع الإنسان أن يركض بالسرعة التي يقفز بها الجراد لاستطاع اجتياز عتبة 100 متر في 3 ثوان. والجرادة قوية جدًّا وقادرة على رفع ثقل يوازي جسمها بعشرة أضعاف وبساق واحدة.
ووفقا للفاو، يضم سرب الجراد ما بين 40 و80 مليون جرادة، ويغطي كيلومترًا مربعًا. يتغذى السرب المتوسط من الجراد بطعام يكفي 2500 إنسان على مدار عام.
يقول بنرامل "عندما نتحدث عن انتشار سرب من الجراد مثلًا في كيلومتر مربع واحد، فإننا نتحدث عن عشرات الملايين، بل وحتى مئات الملايين من الجرادات القادرة عن تناول كمية محاصيل غذائية في يوم واحد تعادل ما يتناوله 35 ألف شخص، وهو ما يجعل هذه الحشرة مدمرة للمحاصيل الزراعية، ويوجب الاستعداد لها".
كما أن بوسع الجرادة الصحراوية المولودة حديثًا أن تلتهم ما يعادل وزنها من النباتات الخضراء الطازجة يوميًّا، أي ما يعادل غرامين كل يوم، وإذا أراد أحد المراهقين القيام بذلك، فعليه أن يتناول يوميًّا نحو 180 كيلوغرامًا من الأطعمة.
ويعلق بنرامل على ذلك بقوله "تخيل التأثير عندما يكون هناك عشرات الملايين من هذه الحشرات في سرب واحد، لا شك أن كمية الطعام التي يمكنهم استهلاكها تكون هائلة، مما يؤدي إلى تدمير كامل للمحاصيل والمراعي في وقت قصير، وينذر بخسائر عدة جسيمة خاصة في المناطق الزراعية الحيوية".
إعلانمن الفجر حتى الغروب، تتركز مهمة كلّ جرادة على التهام الطعام، وهي في بحث مستمر عن كل شيء لونه أخضر، وإذا لم تعثر على أي حقل، فهي تتغذى بالجراد النافق.
إن الطريقة التي تأكل بها تبدو خارجة من أحد أفلام الرعب، ففكّاها يعملان من جانب إلى آخر لتقطيع الغذاء، فهي لا تملك أسنانًا ولا لسانًا، بل تملك أصابع صغيرة داخل فمها لتحريك الطعام. بعد البلع تقوم الأطباق التي تشبه الأسنان في معدتها بطحن الغذاء.
باختصار، فإن أعضاءها قد صممت لتكون آلة جاهزة لتناول الطعام، لذا عندما يحط سرب في مكان ما، فإن اللون الأخضر يختفي.
قد يتسبب تجاهل الجراد في كارثة بيئية واقتصادية وإنسانية، في حين قد تعرِّض محاربته النظام البيئي بأكمله للخطر، لذلك سارعت الدول المعنية، في خضم هذا التهديد الكبير، إلى اتخاذ ما بوسعها من إجراءات للقضاء على تقدم الجراد ومعالجة المناطق المتضررة.
في تونس مثلًا، اتخذت السلطات إجراءات فورية، لمنع انتشاره عبر رش جوي بالمبيدات، خوفًا من انتشار الآفة على مساحات واسعة، حيث إن سربًا صغيرًا من هذا الجراد قادر إلحاق الضرر بنحو 100 طن من المحاصيل في كل كيلومتر من الأراضي الزراعية.
كما جرت حالة استنفار كبيرة على مستوى مختلف المناطق الحدودية، وجرت عمليات التقصي ومعالجة المساحات التي ينتشر فيها الجراد قرب الحدود مع الجزائر، وشملت في وقت سابق معالجة قرابة 12 هكتارًا أغلبها بالمناطق المحاذية لواحة المطروحة من معتمدية رجيم معتوق، وانصبت عمليات مماثلة على تحييد الخطر القادم من الجهة الشرقية للبلاد على الحدود مع ليبيا.
كما دفع وصول أسراب الجراد المركز الوطني لمكافحة الجراد إلى إرسال فرق ميدانية من المهندسين إلى هناك لإجراء مراقبة دقيقة للوضع عن كثب، واتخاذ التدابير الاستباقية اللازمة، لتقليل فرص وصول الجراد إلى المناطق الزراعية الخصبة مثل الغرب وسايس وجهة الشرق التي تعد العمود الفقري للقطاع الزراعي في المغرب.
إعلانوفق تقارير إعلامية محلية، تقوم الاستعدادات أساسًا على تجهيز طائرات متخصصة في إخماد النيران، وذلك لرش المحاصيل المتضررة بالمبيدات في حال دخول أسراب الجراد، وهناك أيضًا أجهزة إنذار ترصد تحركات الجراد، وتمكن من التنبؤ بمساراته المحتملة.
وفي عدد من مناطق جنوب ليبيا، انطلقت فرق العمل المكلفة من اللجنة الوطنية لمكافحة الجراد الصحراوي برش المبيدات بالدوائر الزراعية والمزارع الموبوءة بالجراد في البلديات التي ينتشر فيها بشكل كبير، وافتُتحت غرفة عمليات رئيسية لمكافحة هذه الآفة في مدينة تراغن.
ووفقا للناطق الرسمي باسم اللجنة بالمنطقة الجنوبية، فقد بينت نتائج المتابعة والرصد أن الجراد دخل مرحلة التكاثر في جميع المواقع الجنوبية التي تم زرع جل المحاصيل الإستراتيجية بها، مؤكدًا ضرورة مضاعفة جهود الفرق باستخدام إمكانيات أكبر، وقال إن الفرق الفنية بحاجة إلى مزيد من المعدات للتمكن من السيطرة على الجراد في جميع المناطق التي ينتشر فيها.
هذه معظم التحركات التي تقوم بها الدول العربية حاليًّا تفاديًا لموجة من الجراد، ومع ذلك لم تكن الاستجابة لهذا الخطر الكبير في مستوى هذه الأزمة، فالعديد من الدول يعاني من نقص شديد في الإمكانيات والتجهيزات اللازمة لمكافحة هذه الآفة، ويتم الاعتماد على وسائل محدودة مثل المبيدات البدائية والسيارات وآلات وخزانات الرش الصغيرة، التي لا تكفي للتعامل مع الأعداد الهائلة من الجراد. وفي بعض الأحيان لا يتعلق الأمر بالأدوات والسيارات، بل تحتاج الأزمة إلى أسطول من المبيدات.
وتبعًا لذلك، يدعو بنرامل إلى ضرورة استهداف مناطق التكاثر الأولية للحوريات قبل أن تتشكل الأسراب الطائرة الكبيرة، ورصد تحركات الأسراب عبر تقنيات حديثة مثل الرادارات والطائرات المسيّرة مع استخدام المبيدات الحشرية الأقل سمية للبيئة والكائنات الحية، التي تحافظ على التوازن البيئي.
إعلانكما يطالب بتعزيز التنسيق والعمل المشترك مع الدول المجاورة والمنظمات الدولية مثل الفاو لتبادل المعلومات وتنسيق جهود المكافحة على نطاق واسع، وتدريب الفلاحين والسكان المحليين على التعرف على الجراد والإبلاغ المبكر عن أي تجمعات أو تحركات.
وقد يؤدي التهاون في مواجهة هذا الاجتياح، والمماطلة في اتخاذ إجراءات فعالة وسريعة في مواجهة هذا التهديد المقلق إلى نتائج خطيرة، وتحذر الفاو من أن عدم احتواء تأثير أسراب الجراد الصحراوي سيؤدي إلى ضرب الأمن الغذائي وزيادة الجوع، وتقول إن السيطرة عليه تستلزم عدة سنوات ومئات الملايين من الدولارات.
تعتمد مكافحة الجراد على الرصد المبكر واستخدام تقنيات المكافحة البيئية والكيميائية المناسبة، لكن الكيميائيات التي يصنعها الإنسان للقيام بمهمة القتل لا تميز ما تقتله.
مثل العلاج الكيميائي الذي يسمم الجسد بدرجة أقل عندما يشفيه، فإن المبيدات قد تتسبب في أعراض جانبية خطيرة. ولذلك لا ينبغي رشها قرب المنازل أو المزروعات لأن التعرض الدائم لها يسبب أخطارًا على صحة الإنسان والحيوان.
كيف تنجو من كل هذا؟عدد كبير من الجراد لا ينجو لكن ما ينجو منه يتكاثر مع رغبة في الانتقام اعتمادًا على قدرته التدميرية الكبيرة للمساحات الخضراء.
والحقيقة المرعبة أن خطورته لا تكمن في تدميره للمحاصيل فقط، بل في تكاثره السريع والهائل، فكل أنثى يمكن أن تضع كيس بيض يحتوي على ما يتراوح بين 80 و120 بيضة تحت التراب في المرة الواحدة، وإذا وضعت مليون أنثى أكياس بيض، فسنحصل على حوالي 60 مليون جرادة جديدة.
تحمي الجرادة بيضها من الجفاف بمزيج لزج، وتبقى فوقه بهدوء من دون إزعاج مدة 8 أسابيع، حتى يخرج الجراد الصغير من البيض، والنتيجة هي تكاثر 3 أجيال من الجراد، الذي يبدأ رحلة الهجرة بحثًا عن الغذاء، ويستهدف في رحلة هجرته السنوية الطويلة، الأراضي الزراعية.
إعلانويقول بنرامل "يتمتع الجراد الصحراوي بمعدل تكاثر مرتفع، ويمكن أن يتكاثر 2 أو3 مرات في السنة في الظروف المناسبة. هذا يعني أن أعداده يمكن أن تزيد بشكل كبير وسريع جدًّا".
ويعيش الجراد الصحراوي في حالة دائمة من التحول الطوري، حيث تولد الصغار بِيضًا ومن دون أجنحة ثم يتحول اللون الأبيض إلى الأسود، ويبدأ الجراد البحث عن الغذاء.
وفي سن معينة ينمو الجسم، وتتكون الأجنحة، وتتحول القشرة السوداء الخارجية إلى اللون الأصفر، ثم يتحول اللون الأصفر إلى اللون الزهري، وتقترب الجرادة من مرحلة البلوغ، وحينذاك يصبح في مقدورها الطيران.
في الأسابيع الأخيرة من حياتها، يتحول لونها إلى الأصفر الفاقع، وفي ذلك الحين تتزاوج ثم تموت بعد أن يعيش بعضها 6 أشهر كحد أقصى، ولكن في هذه الفترة القصيرة يمكنها أن تتحول إلى أكثر الحشرات دمارًا في العالم.
ووفقًا لبنرامل، فإن "الجراد يمتلك قدرة فريدة على تغيير سلوكه وشكله وحتى لونه استجابةً للتغيرات في الكثافة السكانية، فعندما تكون الأعداد قليلة، يعيش الجراد في الطور الانفرادي غير الضار، حيث يكون أقل نشاطًا وأقل استهلاكًا للطعام، ولكن عندما تزداد الأعداد، يبدأ في التحول إلى الطور الجماعي الشرس، حيث يصبح أكثر نشاطًا، ويتجمع في شكل مجموعات كبيرة من الحوريات (الجراد الصغير) وأسراب ضخمة من البالغات، ويزداد استهلاكه للطعام بشكل كبير".
ويضيف "هذا التحول يسمح له بالاستفادة القصوى من الظروف البيئية المؤقتة التي تؤدي إلى زيادة أعداده".