لجريدة عمان:
2025-02-20@23:42:15 GMT

الفوضى غير الخلاقة في الشرق الأوسط

تاريخ النشر: 17th, December 2024 GMT

لست متخصصًا في العلوم السياسية، ولكني باعتباري متخصصًا في الفلسفة يمكن أن يكون لي شأن بفلسفة السياسة، وباعتباري مثقفًا عامًّا لا بد أن يكون لي شأن بالأوضاع السياسية العامة التي تجري من حولنا؛ تمامًا مثلما أن المثقف العام لا بد أن يكون له شأن بوضع الدين في عالمنا بما هو دين، وإن لم يكن متخصصًا في علوم الدين التي تتعلق بتفاصيل الشرائع والأديان وما تنطوي عليه من دراسات مقارنة.

الأوضاع السياسية التي تجري في الشرق الأوسط التي بلغت ذروة اشتعالها في عصرنا الراهن، تفرض علينا تأملها ومحاولة فهمها حتى نكون -على الأقل- على وعي بها، ومن ثم نكون قادرين على تحديد مواقفنا منها.

لعلنا نذكر جميعًا المقولة الشهيرة لكوندوليزا رايس وزيرة الخارجية الأمريكية حتى الفترة السابقة مباشرةً على ثورات الربيع العربي؛ إذ كانت تصف المشروع الأمريكي في الشرق الأوسط بأنه يهدف إلى إحداث «الفوضى الخلاقة» في هذه المنطقة من العالم، وكانت تقصد بذلك ضرورة إحداث اضطرابات وخلخلة في النظم السياسية القائمة على نحو يسهم في خلق نظم جديدة. ولكن الهدف الحقيقي غير المعلن صراحةً يكمن في بقية العبارة، وهو: خلق نظم جديدة تابعة للسياسات أو المخططات الأمريكية وتخدم مصالحها في المنطقة، وعلى رأسها مصالح إسرائيل ومخططاتها، التي هي ذراع أمريكا والغرب في الشرق الأوسط. نجح المخطط في إحداث الفوضى في العراق وفي ليبيا وفي اليمن وفي السودان، نجح في إحداث الفوضى، ولكنه لم ينجح بأي حال في أن يجعلها خلاقة، سواء بالنسبة للشعوب العربية (على المستوى الظاهري المعلن) أو على مستوى المصالح الأمريكية والإسرائيلية نفسها (على المستوى الحقيقي غير المعلن)؛ إذ تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن: فقد نشأت حركات مقاومة تعادي المخططات الأمريكية في اليمن (الحوثي) وفي لبنان (حزب الله) وفي فلسطين (حماس والحركات الجهادية).

الآن نأتي إلى الوضع الراهن في سوريا، وهو وضع جديد مربك ومحير، وينفتح على سيناريوهات عديدة تستدعي تأملات محايدة للمشهد، أوجزها فيما يلي:

السرعة التي انهار بها نظام بشار الأسد، واستولى بها الثوار على المدن السورية واحدة تلو الأخرى في غضون أسبوع تقريبًا، هو أمر أثار دهشة الناس العاديين والمحللين السياسيين على السواء. وهو ما يدل دلالة قاطعة -كما تبيّن ذلك- على أن هذه الثورة كان مخططًا لها منذ وقت طويل، وكانت مدعومة بقوى خارجية أهمها: تركيا في العلن، وأمريكا وإسرائيل في الخفاء أو على الأقل من خلال الصمت على ما يجري، طالما أنه يجري على النحو المرسوم. ولا شك في أنه لولا هذا الدعم ما أمكن للثوار أن ينتصروا أو يقهروا النظام القائم إلا من خلال حروب دموية طويلة. وليس بخافٍ على أحد أن الدعم الخفي أو الرضا الضمني من جانب أمريكا وإسرائيل يهدف إلى تقليص النفوذ الروسي والقضاء على النفوذ الإيراني في سوريا. ولهذا رأينا روسيا تتخلى عن دعمها لبشار بعد أن أدركت أنها سوف تتكبد خسائر في مواجهة الثورة، بينما هي لديها مواجهات أكثر أهمية بكثير في أوكرانيا. كما أننا رأينا حزب الله يلملم كتائبه ويرحل أفراده مع عوائلهم فارين من سوريا؛ فقد أدركت إيران -مثل روسيا- أن بشار أصبح ورقة خاسرة لا تستحق المراهنة عليها.

كشفت الثورة السورية عن أهوال وفظاعة ووحشية ارتكبها نظام بشار بحق شعبه، من خلال الكشف عما كان يجري في السجون من تعذيب وحشي يفوق الخيال البشري، وإعدامات بالآلاف للأبرياء من المعارضين المدنيين. ولهذا كانت فرحة السوريين عارمة بإطلاق سراح السجناء، وتنفسهم لهواء الحرية لأول مرة منذ عقود عديدة ترجع إلى فترة الأب حافظ الأسد الذي لم يتورع عن إبادة المعارضين من شعبه، فقتل ما يقارب خمسين ألفا من المواطنين في مدينة حماة سنة 1982. ولذلك يحق للشعب السوري أن يفرح ويهنأ بثورته وأن يتطلع إلى مستقبل جديد ينعم فيه بالحرية والديمقراطية.

ومما يستدعي التأمل في مشهد الثورة السورية أن الثوار من حيث مظهرهم ولغة خطابهم يبدون ممثلين لفصيل ديني أو مجموعة من الفصائل الدينية، فلا نجد من بينهم تقريبًا من يمثل المجتمع المدني بسائر أطيافه، وهذا يتبدى حتى في تشكيل الحكومة المؤقتة. حقًا إن زعيم الثوار وقياداتهم يبدون معتدلين ومدافعين عن حقوق الشعب السوري، بل يبدون متحلين بالحصافة السياسية والقدرة على الإدارة. ومع ذلك فإن الحصافة السياسية لا بد أن تُلزِم هذه القيادات الاستعانة بأهل الخبرة من المجتمع المدني في إدارة شؤون البلاد في كل مجال في المرحلة القادمة، وإلا سيكون مصيرهم هو مصير الإخوان الذين أرادوا الانفراد بالسلطة مما عجل بإقصائهم من المشهد. نأمل أن تكتمل الثورة السورية في المسار الصحيح بتحقيق دولة مدنية ديمقراطية، لا دولة دينية؛ لأن النوايا الطيبة -حتى إن كانت خالصة لوجه الله تعالى- لا تكفي وحدها لتأسيس دولة من جديد. ولذلك فإن الثورة لا يزال أمامها طريق شاق وملغوم.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: فی الشرق الأوسط

إقرأ أيضاً:

الخلل القاتل في الشرق الأوسط الجديد

قالت مها يحيى، مديرة مركز مالكولم كير- كارنيغي للشرق الأوسط، إن الشرق الأوسط محاصر بحلقة مفرغة من العنف والدمار، دون مسار واضح للسلام الدائم أو الاستقرار.

أعادت الحرب في غزة المؤشرات الاجتماعية والاقتصادية للمنطقة إلى مستويات عام 1955

وأضافت الكاتبة في مقالها بموقع مجلة "فورين أفيرز" الأمريكية، أنه على مدى السنوات الخمس عشرة الماضية، دمرت الحروب في غزة ولبنان وليبيا والسودان وسوريا واليمن المنطقة، مما أسفر عن مقتل مئات الآلاف وتشريد الملايين وتدمير البنية الأساسية والتعليم وأنظمة الرعاية الصحية.

وعلى سبيل المثال، أعادت الحرب في غزة المؤشرات الاجتماعية والاقتصادية للمنطقة إلى مستويات عام 1955. وستتطلب إعادة بناء المنطقة ما يقدر بنحو 350 إلى 650 مليار دولار، وتحتاج غزة وحدها من 40 إلى 50 مليار دولار.

 تأجيج المزيد من العنف

وتابعت الكاتبة أن المقترحات الحالية لحل الأزمات في الشرق الأوسط، تتجاهل الحقائق السياسية والديناميكيات المحلية، مما يجعل من غير المرجح أن تنجح. وبدلاً من ذلك، تخاطر بتأجيج المزيد من العنف.

وعقدت الكاتبة مقارنة بين الدمار الحالي في الشرق الأوسط وأوروبا ما بعد الحرب العالمية الثانية.

وفي عام 1945، كانت أوروبا في حالة خراب، لكن خطة مارشال بقيادة الولايات المتحدة ساعدت في إعادة بناء القارة من خلال ربط إعادة الإعمار بالتكامل السياسي والاقتصادي، وعزز هذا النهج السلام والازدهار.

وفي المقابل، يفتقر الشرق الأوسط إلى رؤية موحدة، إذ انقسمت القوى الإقليمية وتجاهلت مقترحاتها حل التحديات الأساسية مثل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني والتدخلات الخارجية خاصة من إيران.

الجهات الفاعلة الرئيسة

وانتقدت الكاتبة نهج الجهات الفاعلة الرئيسة، إذ تركز الولايات المتحدة على إضعاف إيران لكنها تتجاهل الحاجة إلى حل سياسي للفلسطينيين. وتفتقر رؤيتها لإعادة إعمار غزة إلى إطار سياسي واضح، مما يعرضها لمزيد من عدم الاستقرار.

وتسعى إسرائيل إلى "نزع التطرف" عن الفلسطينيين وفرض الحكم الفعال قبل إعادة بناء غزة، وهي رؤية خاطئة أخلاقياً وغير قابلة للتطبيق، وفق الكاتبة، حيث أدت سياسات إسرائيل العدوانية، بما في ذلك توسيع المستوطنات والقمع، إلى تفاقم التوترات.
وفيما تفشل إيران تفشل في معالجة سلوكها المزعزع للاستقرار، مثل دعم الميليشيات الطائفة في المنطقة.

مخاطر التدخل الأجنبي وسلطت الكاتبة الضوء على مخاطر التدخل الأجنبي في الصراعات الإقليمية، مشيرة إلى أن دعم الفصائل المتنافسة يؤدي دوماً إلى تعميق الانقسامات وإطالة أمد العنف.
وأضافت الكاتبة: في حين أن التدخل الخارجي قد يسهل السلام أحياناً، مثل تدخل الصين لإعادة العلاقات بين إيران والسعودية، يجب على القوى الإقليمية أولاً حل خصوماتها لتكون وسيطاً فعالاً.
وأكدت مها يحيى أهمية العدالة الانتقالية. فالعفو الشامل قد يؤدي إلى مظالم مستمرة واضطرابات دورية كما رأينا في الحرب الأهلية في لبنان. وتعد محاسبة المسؤولين الرئيسين عن الفظائع في سوريا أمراً ضرورياً لمنع عمليات القتل الانتقامية وضمان السلام الدائم. تحديات تواجه المنطقة وتتباين التحديات في جميع أنحاء المنطقة، حسب الكاتبة، إذ يحتاج لبنان إلى إعادة بناء نظامه السياسي ونزع سلاح حزب الله وتعزيز المؤسسات الوطنية. وتحتاج سوريا إلى تسوية سياسية جديدة تأخذ في الاعتبار الديناميكيات المحلية وتتجنب إعادة مركزية السلطة.
وتواجه غزة تحديات عميقة بسبب افتقارها إلى السيادة والموارد والحكم. وقد تكون السلطة الانتقالية التي تديرها الأمم المتحدة ضرورية في الأمد القريب، لكن الحلول طويلة الأجل تتطلب حكماً بقيادة فلسطينية.
وخلصت الكاتبة إلى أنه دون حلول سياسية فإن جهود إعادة الإعمار ستفشل في معالجة ما أفسدته الحرب، مشيرة إلى أن المساعدات الإنسانية ضرورية لمعالجة المعاناة الفورية، لكنها لا تستطيع حل اختلال التوازن في القوة، أو التوترات العرقية، أو المؤسسات المنهارة.

مقالات مشابهة

  • هل تراجع ترامب عن خطة تهجير الفلسطينيين؟
  • دونالد ترامب... الذّات الضجرة التي تتسلى بإحداث الفوضى ومشاغبة الخصوم
  • إيران: إذا تعرض أمننا للتهديد فإن أمن الشرق الأوسط بأكمله سيكون في خطر
  • ملك إسبانيا: مصر شريك استراتيجي في الشرق الأوسط ولاعب لا غنى عنه بالقارة الإفريقية
  • “انتصار وطن”… احتفال بدار الأوبرا بدمشق يعيد سرد حكايات من الثورة السورية
  • ملك إسبانيا: ننسق مع مصر بحثا عن حلول لأزمات الشرق الأوسط
  • ملك إسبانيا: مصر دولة محورية في القارة الأفريقية والشرق الأوسط
  • “انتصار وطن”… احتفال بدار الأوبرا بدمشق يعيد سرد حكايات من الثورة السورية
  • الخلل القاتل في الشرق الأوسط الجديد
  • كيف تُثير «صدمات ترامب» الفوضى في الشرق الأوسط؟