الفوضى غير الخلاقة في الشرق الأوسط
تاريخ النشر: 17th, December 2024 GMT
لست متخصصًا في العلوم السياسية، ولكني باعتباري متخصصًا في الفلسفة يمكن أن يكون لي شأن بفلسفة السياسة، وباعتباري مثقفًا عامًّا لا بد أن يكون لي شأن بالأوضاع السياسية العامة التي تجري من حولنا؛ تمامًا مثلما أن المثقف العام لا بد أن يكون له شأن بوضع الدين في عالمنا بما هو دين، وإن لم يكن متخصصًا في علوم الدين التي تتعلق بتفاصيل الشرائع والأديان وما تنطوي عليه من دراسات مقارنة.
لعلنا نذكر جميعًا المقولة الشهيرة لكوندوليزا رايس وزيرة الخارجية الأمريكية حتى الفترة السابقة مباشرةً على ثورات الربيع العربي؛ إذ كانت تصف المشروع الأمريكي في الشرق الأوسط بأنه يهدف إلى إحداث «الفوضى الخلاقة» في هذه المنطقة من العالم، وكانت تقصد بذلك ضرورة إحداث اضطرابات وخلخلة في النظم السياسية القائمة على نحو يسهم في خلق نظم جديدة. ولكن الهدف الحقيقي غير المعلن صراحةً يكمن في بقية العبارة، وهو: خلق نظم جديدة تابعة للسياسات أو المخططات الأمريكية وتخدم مصالحها في المنطقة، وعلى رأسها مصالح إسرائيل ومخططاتها، التي هي ذراع أمريكا والغرب في الشرق الأوسط. نجح المخطط في إحداث الفوضى في العراق وفي ليبيا وفي اليمن وفي السودان، نجح في إحداث الفوضى، ولكنه لم ينجح بأي حال في أن يجعلها خلاقة، سواء بالنسبة للشعوب العربية (على المستوى الظاهري المعلن) أو على مستوى المصالح الأمريكية والإسرائيلية نفسها (على المستوى الحقيقي غير المعلن)؛ إذ تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن: فقد نشأت حركات مقاومة تعادي المخططات الأمريكية في اليمن (الحوثي) وفي لبنان (حزب الله) وفي فلسطين (حماس والحركات الجهادية).
الآن نأتي إلى الوضع الراهن في سوريا، وهو وضع جديد مربك ومحير، وينفتح على سيناريوهات عديدة تستدعي تأملات محايدة للمشهد، أوجزها فيما يلي:
السرعة التي انهار بها نظام بشار الأسد، واستولى بها الثوار على المدن السورية واحدة تلو الأخرى في غضون أسبوع تقريبًا، هو أمر أثار دهشة الناس العاديين والمحللين السياسيين على السواء. وهو ما يدل دلالة قاطعة -كما تبيّن ذلك- على أن هذه الثورة كان مخططًا لها منذ وقت طويل، وكانت مدعومة بقوى خارجية أهمها: تركيا في العلن، وأمريكا وإسرائيل في الخفاء أو على الأقل من خلال الصمت على ما يجري، طالما أنه يجري على النحو المرسوم. ولا شك في أنه لولا هذا الدعم ما أمكن للثوار أن ينتصروا أو يقهروا النظام القائم إلا من خلال حروب دموية طويلة. وليس بخافٍ على أحد أن الدعم الخفي أو الرضا الضمني من جانب أمريكا وإسرائيل يهدف إلى تقليص النفوذ الروسي والقضاء على النفوذ الإيراني في سوريا. ولهذا رأينا روسيا تتخلى عن دعمها لبشار بعد أن أدركت أنها سوف تتكبد خسائر في مواجهة الثورة، بينما هي لديها مواجهات أكثر أهمية بكثير في أوكرانيا. كما أننا رأينا حزب الله يلملم كتائبه ويرحل أفراده مع عوائلهم فارين من سوريا؛ فقد أدركت إيران -مثل روسيا- أن بشار أصبح ورقة خاسرة لا تستحق المراهنة عليها.
كشفت الثورة السورية عن أهوال وفظاعة ووحشية ارتكبها نظام بشار بحق شعبه، من خلال الكشف عما كان يجري في السجون من تعذيب وحشي يفوق الخيال البشري، وإعدامات بالآلاف للأبرياء من المعارضين المدنيين. ولهذا كانت فرحة السوريين عارمة بإطلاق سراح السجناء، وتنفسهم لهواء الحرية لأول مرة منذ عقود عديدة ترجع إلى فترة الأب حافظ الأسد الذي لم يتورع عن إبادة المعارضين من شعبه، فقتل ما يقارب خمسين ألفا من المواطنين في مدينة حماة سنة 1982. ولذلك يحق للشعب السوري أن يفرح ويهنأ بثورته وأن يتطلع إلى مستقبل جديد ينعم فيه بالحرية والديمقراطية.
ومما يستدعي التأمل في مشهد الثورة السورية أن الثوار من حيث مظهرهم ولغة خطابهم يبدون ممثلين لفصيل ديني أو مجموعة من الفصائل الدينية، فلا نجد من بينهم تقريبًا من يمثل المجتمع المدني بسائر أطيافه، وهذا يتبدى حتى في تشكيل الحكومة المؤقتة. حقًا إن زعيم الثوار وقياداتهم يبدون معتدلين ومدافعين عن حقوق الشعب السوري، بل يبدون متحلين بالحصافة السياسية والقدرة على الإدارة. ومع ذلك فإن الحصافة السياسية لا بد أن تُلزِم هذه القيادات الاستعانة بأهل الخبرة من المجتمع المدني في إدارة شؤون البلاد في كل مجال في المرحلة القادمة، وإلا سيكون مصيرهم هو مصير الإخوان الذين أرادوا الانفراد بالسلطة مما عجل بإقصائهم من المشهد. نأمل أن تكتمل الثورة السورية في المسار الصحيح بتحقيق دولة مدنية ديمقراطية، لا دولة دينية؛ لأن النوايا الطيبة -حتى إن كانت خالصة لوجه الله تعالى- لا تكفي وحدها لتأسيس دولة من جديد. ولذلك فإن الثورة لا يزال أمامها طريق شاق وملغوم.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: فی الشرق الأوسط
إقرأ أيضاً:
رأي.. إردام أوزان يكتب: الاختصارات الخطيرة لدبلوماسية الصفقات في الشرق الأوسط
هذا المقال بقلم الدبلوماسي التركي إردام أوزان *، سفير أنقرة السابق لدى الأردن، والآراء الواردة أدناه تعبر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة وجهة نظر شبكة CNN.
الشرق الأوسط يُدار، ولا يُفهم. تحل الصفقات قصيرة الأجل محل الرؤية، مما يُوقع الناس في فوضى القرارات العابرة. يُجسّد هذا النهج نهج القوى العالمية وبعض الجهات الفاعلة تجاه المنطقة. لقد أدى عدم الانخراط، مقترنًا بالدبلوماسية المعاملاتية، إلى خلق ديناميكية خطيرة. تُختزل القضايا المعقدة في صفقات تُعطي الأولوية للمنافع الفورية على الحلول المستدامة. ولا تزال التحديات الجوهرية، من عدم الاستقرار الاقتصادي إلى الأزمات الإنسانية، دون معالجة.
لنأخذ نهج الاتحاد الأوروبي تجاه سوريا مثالًا. خلال صراع المنطقة مع الحرب والنزوح والدمار الاقتصادي، انصبّ تركيز الاتحاد الأوروبي بشكل أساسي على إدارة تدفق المهاجرين إلى حدوده. وُصفت ترتيبات، مثل اتفاقيات اللاجئين وحزم المساعدات المالية في الدول المجاورة، بأنها أعمال إنسانية. في الواقع، تُجسّد هذه الترتيبات فكر الصفقات والدبلوماسية المعاملاتية: استراتيجية تهدف إلى الحد من الاضطرابات في أوروبا بدلاً من حل الفوضى الكامنة في سوريا نفسها.
إن تكاليف هذه النظرة قصيرة الأجل واضحة في سوريا وفي جميع أنحاء المنطقة. في الأزمة الإنسانية المُريعة التي تشهدها غزة، وفي السياسة الخارجية الأمريكية القائمة على الرسوم الجمركية، وفي تزايد الاعتقاد بأن الغرب لم يعد يتعامل مع الشرق الأوسط كشريك، بل كمتهرب. ومع ذلك، لا تتحمل القوى العالمية وحدها مسؤولية هذه التحديات، بل يجب على دول المنطقة نفسها أن تُواجه دورها في استمرار الاضطرابات، وإخفاقات الحكم، والتنافسات المُثيرة للانقسام.
فخ الدبلوماسية المعاملاتية
عندما تفقد الدبلوماسية فائدتها، تفقد العلاقات قيمتها الاستراتيجية. وكثيرًا ما دارت السياسة الخارجية الغربية في الشرق الأوسط حول ما يمكن تحقيقه في تلك اللحظة، مهمشةً أي اعتبار للعواقب بعيدة المدى.
ومن الأمثلة على ذلك تعليق برامج الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID) في دول مثل لبنان والأردن. وقد أدى تعطل العمليات الإنسانية إلى معاناة الفئات السكانية الضعيفة من انعدام الأمن الغذائي، ونقص الرعاية الصحية، وانهيار أنظمة التعليم. من ناحية أخرى، أدت الرسوم الجمركية الشاملة على صادرات الشرق الأوسط، والتي وُضعت دون مراعاة الشراكات الاستراتيجية طويلة الأجل، إلى تعميق نقاط الضعف الاقتصادية. وستؤدي رسوم جمركية تصل إلى 41% على سوريا والعراق إلى تعطيل تدفقات التجارة، وزيادة التضخم، وإبعاد الحلفاء التقليديين. ربما بدت هذه التخفيضات مناسبة آنذاك، لكنها فاقمت الأزمات القائمة وقوضت الثقة في قدرة الغرب على العمل كقوة استقرار.
ومن الأمثلة البارزة الأخرى "اتفاقيات إبراهيم". فرغم الإشادة باتفاقيات التطبيع بين إسرائيل وعدة دول عربية باعتبارها تاريخية، إلا أنها أهملت الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني إلى حد كبير. وقد أعطى هذا النهج التبادلي الأولوية للمنافع الاقتصادية والاستراتيجية على معالجة قضايا الاحتلال وإقامة الدولة التي لم تُحل بعد. ورغم أن هذه الاتفاقيات حققت مكاسب فورية لموقعيها، إلا أنها عمقت أيضًا التهميش الفلسطيني، تاركةً الصراع الأساسي دون معالجة، ومُديمةً حالة عدم الاستقرار في المنطقة.
في نهاية المطاف، يُقوّض تقليص الدبلوماسية إلى حلول مؤقتة الشراكات طويلة الأمد، ويُفاقم التحديات العالقة. قد يُسفر التفكير التبادلي عن فوائد قصيرة الأجل، لكن آثاره المتتالية تُفاقم عدم الاستقرار وتُضعف الثقة في جميع أنحاء المنطقة.
سوريا.. المسؤوليات والعواقب المشتركة
يكشف مسار سوريا نحو التعافي عن الهشاشة التي تُعززها الدبلوماسية المعاملاتية، ولكنه يُبرز أيضًا مسؤوليات الأطراف الإقليمية. تواجه الحكومة الانتقالية بقيادة أحمد الشرع تحدياتٍ جسيمة. سنوات من الحرب الأهلية، التي غذّاها بشكل رئيسي قمع نظام الأسد الوحشي للمعارضة، مزّقت البلاد على أسس عرقية وطائفية وسياسية. خلق هذا الفشل الداخلي فراغًا سمح لقوى خارجية مثل روسيا وإيران بترسيخ نفوذها، وحوّل سوريا إلى ساحة حرب بالوكالة.
لقد فاقم التفكير المعاملاتي في سوريا انهيارها الاقتصادي. وفي الوقت الذي تُناقش فيه أضرار العقوبات، ستُفاقم رسوم ترامب الجمركية على الصادرات السورية وتعليق برامج المساعدات الحيوية من اضطراب التجارة والتنمية. ومع ذلك، تقع المسؤولية أيضًا على عاتق الجهات الفاعلة الإقليمية التي يجب أن تلتزم بإصلاح الحوكمة والشمولية. وبدون هذه الجهود، ستظل خطط إعادة إعمار حكومة الشرع مُعرقلة، مما يترك السوريين في حالة من الضعف المستمر.
غزة: إخفاقات محلية وسط إهمال عالمي
تكشف حرب غزة المستمرة عن الفشل المشترك للدبلوماسية المعاملاتية والانقسام الداخلي. دُمّرت أحياء بأكملها، وقُتل أكثر من 50 ألف فلسطيني، وغزة على شفا الانهيار، في ظل حصارٍ مُفرطٍ للغذاء والماء والإمدادات الطبية. وقد أدى دعم إدارة ترامب القوي لإسرائيل، واختيارها خفض تمويل وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، إلى تفاقم الأزمة الإنسانية. علاوةً على ذلك، واجهت الفصائل الفلسطينية صعوباتٍ في بناء جبهةٍ موحدة.
أدت الانقسامات بين حماس في غزة والسلطة الفلسطينية في الضفة الغربية إلى عرقلة التقدم وإضعاف النفوذ الدبلوماسي. تُعمّق هذه التنافسات الداخلية الأزمة الإنسانية، وتُديم دوامة العنف، وتعيق بلورة استراتيجية متماسكة للسلام. تُعدّ محنة غزة مثالًا صارخًا على كيفية مساهمة التدخل الخارجي والفوضى الداخلية في المأساة المستمرة.
دعوة للمساءلة الجماعية
إذا كان هناك درسٌ واحدٌ يُمكن استخلاصه من الدبلوماسية المعاملاتية، فهو أن الشرق الأوسط يتطلب استراتيجيةً لا سجلّ نتائج. فتحديات المنطقة هائلة، ومترابطة، وعميقة الجذور، وتتطلب توازنًا بين المشاركة الخارجية والمساءلة الداخلية.
يجب على الغرب إعادة بناء الثقة مع حلفائه، وضمان أن تُعرّف الشراكات بالموثوقية والقيم المشتركة، لا بالمصالح الشخصية. يجب أن تُركز الدبلوماسية مع إيران على إحياء الاتفاق النووي كأساس لمحادثات أمنية إقليمية أوسع. في سوريا، يُعدّ اتباع نهج شامل لإعادة الإعمار، بدعم من التحالفات الدولية، أمرًا أساسيًا لاستعادة الاستقرار ومواجهة التأثيرات الخارجية الضارة.
وبالمثل، يجب على دول الشرق الأوسط النهوض لمواجهة هذه التحديات. يجب أن يحل التماسك والتعاون الإقليمي محل الخصومات والانقسامات المريرة. بدءًا من معالجة الانقسامات الطائفية وصولًا إلى إصلاح هياكل الحكم، يجب على قادة المنطقة إعطاء الأولوية للحلول التي تُمكّن شعوبهم وتُقلل الاعتماد على التدخلات الخارجية.
أخيرًا، لا يمكن أن يظل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني مجرد مسألة ثانوية مهملة. يتطلب السلام المستدام دبلوماسية دولية وتماسكًا محليًا، حيث يُسهم كل طرف في تقديم التنازلات الصعبة والضرورية لتحقيق العدالة والاستقرار.
ضرورة إعادة تعريف الشرق الأوسط
الشرق الأوسط ليس سوقًا يُشترى فيه الاستقرار ويُباع. إنها منطقة غنية بالتاريخ والثقافة والإمكانات، لكنها غارقة في تعقيداتها. ربما أوحت الدبلوماسية التبادلية بالتقدم، لكن عواقبها على المدى البعيد كانت وستظل وخيمة. يجب على القوى العالمية ودول الشرق الأوسط تحمل مسؤولياتها، والتخلي عن المناورات قصيرة المدى، لصالح استراتيجيات تعاونية مبنية على المبادئ.
وإذا ظلت الدبلوماسية لعبة تعتمد على اختصارات خطيرة، فإن الشرق الأوسط سوف يستمر في دفع الثمن، مما سيؤدي إلى انخفاض مستوى الأمن في جميع أنحاء العالم.
* نبذة عن الكاتب:
إردام أوزان دبلوماسي تركي متمرس يتمتع بخبرة 27 عامًا في الخدمة الدبلوماسية. وقد شغل العديد من المناصب البارزة، بما في ذلك منصبه الأخير كسفير لدى الأردن، بالإضافة إلى مناصب في الإمارات العربية المتحدة والنمسا وفرنسا ونيجيريا.
ولد في إزمير عام 1975، وتخرج بمرتبة الشرف من كلية العلوم السياسية بجامعة أنقرة. واكتسب معرفة واسعة بالمشهد السياسي والاجتماعي والاقتصادي في الشرق الأوسط، حيث قام بتحليل تعقيدات الصراعين السوري والفلسطيني، بما في ذلك جوانبهما الإنسانية وتداعياتهما الجيوسياسية.
كما شارك في العمليات الدبلوماسية المتعددة الأطراف، وتخصص في مجال حقوق الإنسان والتطورات السياسية الإقليمية. وتشمل مساهماته توصيات لتعزيز السلام والاستقرار من خلال الحوار والتفاوض بالتعاون مع المنظمات غير الحكومية والمنظمات الدولية. ويواصل حاليا دراساته عن الشرق الأوسط بينما يعمل مستشارا.
نشر الأربعاء، 16 ابريل / نيسان 2025تابعونا عبرسياسة الخصوصيةشروط الخدمةملفات تعريف الارتباطخيارات الإعلاناتCNN الاقتصاديةمن نحنالأرشيف© 2025 Cable News Network. A Warner Bros. Discovery Company. All Rights Reserved.