أدب الطفل: مسؤولية بناء الأجيال وصناعة الوعي
تاريخ النشر: 17th, December 2024 GMT
17 ديسمبر، 2024
بغداد/المسلة:
رياض الفرطوسي
تعليم الأطفال اللغة العربية ليس مجرد مهمة تعليمية عابرة، بل هو مسؤولية عميقة تتطلب رؤية تربوية واعية وفهماً دقيقاً لاحتياجات الطفل النفسية والثقافية. إن غرس حب اللغة العربية في نفوس الأطفال يبدأ من مراحل التعليم الأولى، وعندما يفقد الأطفال التعليم الصحيح في هذه المرحلة، فهذا يشير إلى وجود خلل عميق في المنظومة التعليمية.
دور المعلم في بناء شخصية الطفل : لا يمكن لأي معلم أن يؤدي دوره بفعالية إذا كان يفتقر إلى المعرفة الكافية بثقافة الطفل واحتياجاته. المعلمون في المراحل الأولى من التعليم يتحملون مسؤولية كبيرة في تشكيل وعي الأطفال اللغوي والثقافي.
لذلك، لا يمكن أن يكون معلم اللغة العربية ناجحاً ما لم يكن مطلعاً على مجموعة واسعة من كتب أدب الأطفال والناشئة.
المعلم بحاجة إلى فهم أن التعليم ليس مجرد تلقين للمعارف، بل هو تفاعل حي بينه وبين الطفل يعتمد على الإبداع والتواصل الفعّال. فالمعلم الذي يقرأ في أدب الأطفال يكتسب أدوات تساعده على تقديم اللغة العربية بطريقة مشوقة وممتعة للطفل، مما يعزز ارتباط الطفل بلغته الأم ويشجعه على التعبير بها بطلاقة.
الكتابة للأطفال عملية حساسة للغاية، لأنها تعكس أفكار الكاتب ومخاوفه وقيمه. الأطفال، بطبيعتهم، أذكياء ويميزون بين ما هو ممتع وما هو تلقيني ممل. لذلك، يجب أن تُقدم المادة الأدبية للأطفال بأسلوب جذاب ومبدع بعيداً عن أسلوب الوعظ المباشر.
أدب الأطفال ليس مجرد أداة للتعليم، بل هو وسيلة للتثقيف والمتعة. يجب على الكتاب الذين يوجهون أعمالهم للأطفال أن يكسروا الصور النمطية التقليدية، ويقدموا محتوى يواكب اهتمامات الطفل ويستجيب لتساؤلاته بأسلوب تلقائي بعيد عن التلقين السطحي.
يواجه أدب الأطفال في العالم العربي قيودًا ثقافية تحد من تنوع موضوعاته. ومع ذلك، يجب على الكُتاب اقتحام القضايا الحساسة التي تؤثر على حياة الأطفال واليافعين، مثل الأمراض النفسية، التنمر، الانتحار، تعاطي المخدرات، الزواج المبكر، وحتى الميول الجنسية.
معالجة هذه القضايا بأسلوب مناسب لعمر الطفل ومستواه الفكري تساعد على خلق وعي مبكر وتمكن الطفل من مواجهة تحديات الحياة بثقة ووعي. كيف يكون تعلم اللغة نافذة على العالم ؟ تعليم الأطفال حب اللغة العربية وإتقانها ليس فقط حفاظاً على الهوية الثقافية، بل هو تمكين لهم من الإبداع والتواصل مع العالم.
اللغة ليست وسيلة للتعبير فحسب، بل هي نافذة للتفكير والتعلم والنمو. لذا، فإن تحسين تعليم اللغة العربية للأطفال يبدأ من إعداد معلمين مؤهلين، وكتابة أدب أطفال يتسم بالجاذبية والعمق، ومواجهة القيود الثقافية التي تعيق تطور هذا المجال.
أدب الأطفال ليس رفاهية أو مجالًا ثانوياً، بل هو أساس لبناء أجيال قادرة على التفكير النقدي والإبداعي. المعلمون والكتاب يحملون مسؤولية كبيرة في هذا المجال، وعليهم أن يدركوا أن المستقبل يبدأ من الطفل، وأن التعليم الحقيقي هو الذي يفتح أمام الطفل آفاقًا واسعة ويجعله محبًا للمعرفة واللغة.
المسلة – متابعة – وكالات
النص الذي يتضمن اسم الكاتب او الجهة او الوكالة، لايعبّر بالضرورة عن وجهة نظر المسلة، والمصدر هو المسؤول عن المحتوى. ومسؤولية المسلة هو في نقل الأخبار بحيادية، والدفاع عن حرية الرأي بأعلى مستوياتها.
About Post Author زينSee author's posts
المصدر: المسلة
كلمات دلالية: اللغة العربیة أدب الأطفال
إقرأ أيضاً:
لسان الأمة أم فخّ القومية.. معركة اللغة العربية في دول المغرب الكبير
في خضم ما يشبه حرباً ناعمة تُخاض بلا هوادة ضد اللغة العربية، تجد الأمة المحمدية نفسها بين مطرقة الاستعمار الثقافي وسندان النعرات العرقية المصطنعة. وتبرز دول المغرب الكبير كساحة مفتوحة لهذا الصراع، حيث تحوّلت العربية – لغة القرآن ولسان الحضارة الإسلامية – إلى هدف لمحاولات الإقصاء والتشويه، تحت غطاءات قومية أو "هوياتية" ضيقة، لا تخدم سوى مشاريع تفتيتية لطالما سعت إليها قوى الهيمنة.
في هذا السياق، يكتب الدكتور أحمد بن نعمان، المفكر الجزائري المعروف بدفاعه الشرس عن اللغة العربية رغم أصوله الأمازيغية، نصاً خاصاً لـ"عربي21"، ليؤكد أن اللسان ليس انتماءً عِرقياً أو احتكاراً قبلياً، بل هو اختيار حضاري وإيماني. فاللغة، كما يبيّن، ليست عِرقاً يُورث، بل لساناً يُكتسب، وهي بهذا المعنى واجب وحدوي في أمة لا يجمعها دمٌ ولا نسب، بل يجمعها القرآن الذي لا يُفهم إلا بلغته. فلو لم تعصف بها القومية والعنصرية، لتعربت كل الأمة المحمدية.
لا إكراه في الدين ولا في اللغة
إن الإسلام لا يكره الناس على اعتناقه.. كما لا يجبرهم على تبني لسانه.. لأنه دين العقل والمسؤولية والحرية.. ولكن هناك من يتعمد تكرار هذا الاعتراض بكيفية لا تصدر إلا عن مترصد عنصري انفصالي أو استحلالي يخدم أهدافا لا علاقة لها بالإسلام الذي يدعيه ولا بالوطن الذي يعيش فيه.. ولهذا لا نتركهم يعبثون بعقول أبناء الأمة المحمدية حول اللغة العربية، فنريد أن نفضح أهدافهم ونوضح أخطاءهم ونحدد أخطارهم.. حتى لا يحققوا أغراضهم في تسميم وتضليل وتشويش رؤى شبيبتنا المتعطشة لمعرفة الحقيقة باستعمال العقل (قبل النقل) للحكم على الكلام الموجه إليهم من أي طرف كان في هذا الفضاء ابتداء من صاحب المنشور ذاته، لأننا علمناهم أن يعرفوا الرجال بالحق ولا يعرفوا الحق بالرجال مهما بدوا من ظاهرهم الخادع الذي قد يناقض باطنهم في الواقع من باب النفاق المغلف بالأخلاق.
ومن العبارات النمطية المجترة في كل حين من هؤلاء المغرضين هو ترديد قولهم بأنهم مسلمون ولكنهم ليسوا عربا ولم يعربهم الإسلام ولن يعربهم، وأن الإسلام لم يأت ليعرب الناس وأن الإسلام لا يناقض نفسه بمعارضة آية من آيات الله في الكون وهي اختلاف الألسنة والألوان، وأن العربية ليست ركنا سادسا من أركان الإسلام، وأن العروبة هي عنصرية وبدعة ما أنزل الله بها من سلطان وكأن مبادئ الأمة في الانتماء والوحدة هي انحراف وردة..
واستدلالهم القياسي يتمثل في قولهم بأن الإسلام لا يعرب المسلمين ولو كان كذلك لعرب إيران وتركيا وإندونيسيا وباكستان وبنغلادش وماليزيا وألبانيا.. وما إلى ذلك من تافه المعنى والمبني في نظر المسلمين المستنيرين بالعقل والعلم والإخلاص في الدين..
الخلاف حول اللغة ليس خلافاً لغوياً، بل هو اليوم معركة هوية، ومواجهة مع من يريدون لنا أن نُستلب حضارياً باسم حقوق مزعومة وهويات مفتتة. ولأننا نؤمن أن الإسلام لا يُكره أحداً، فإننا في المقابل لا نقبل بأن يُكرهنا أحد على نفي أنفسنا ومحو لساننا. فاللغة ليست عِرقاً، بل عهدٌ مع الرسالة، ولسانٌ لا يخون.ولذلك يتعين علينا أن نكرر لهم ما أكدناه مرارا بأن الإسلام يهدي ويقنع ويترك المهتدين أحرارا في الاختيار بعيدا عن أي إكراه أو إجبار.. وهذا هو سر انتشار الإسلام المبني على الاقتناع في الأذهان قبل السلوك الصادق في الميدان.. ونكرر لهم كذلك ما قلناه مرارا لكل ذي عقل وإدراك سليم بأنه لا إكراه في الدين بالنسبة للإيمان.. ولا إكراه في اللسان بالنسبة للإنسان.. ولكن لا نقف هنا عند (ويل للمصلين!؟) ونطالب هؤلاء الزنادقة بأن يعترفوا معنا أيضا بأن الإسلام إذ لا يكره الناس على الإيمان أو تبني لسان القرآن وطنيا وجماعيا وقوميا كوسيلة فعالة لفهم الرسالة وتبليغها لكافة المسلمين للتفاهم فيما بينهم وتأدية فرائضهم اليومية على اعتبار أن ما لا يقوم الواجب إلا به يعتبر واجبا بالضرورة عند كافة المسلمين الصادقين من غير الزنادقة والمنافقين الضالين والمضلين، فإنه مثلما لا يمنع الإسلام بقاء أهل الفتنة والضلال على كفرهم لا يمنع أيضا من باب أحرى وأولى أي مسلم أن يتبنى لغة القرآن لسانا قوميا له في أي قطر من أقطار الأمة في أي مكان على امتداد اللسان والآذان ويصبح عربيا مسلما بالجنان واللسان مثلما وقع لأجدادنا الأولين بعد الفتح المبين منذ 14 قرنا من التاريخ المتواصل بدوله المتعاقبة على بلداننا تحت راية لغة القرآن السيدة الوحيدة في التعامل والتواصل العلمي المكتوب بين الأفراد والشعوب قبل غزو بلداننا الإسلامية من المغول والصليبيين الإسبان والفرنسيين، (أحفاد الوندال والرومان والبيزنطيين).
ماذا يمنع عقلا ونقلا ودينا وقانونا ومنطقا بشريا أي مسلم مؤمن في العالم الإسلامي أن يتبنى اللسان القرآني إذا كان هذا المسلم صادق الاعتقاد ومخلصا لوحدة المسلمين، وغير متعصب لجنس أو قومية سياسية أو انفصالية على حساب العقيدة الدينية الجامعة المانعة في الدنيا والآخرة؟ (على غرار ما حاول أن يفعله الرئيس المسلم الصادق ضياء الحق من تعريب في باكستان قبل قتله من أعداء وحدة الأمة للحؤول دون تحقيق هذا الهدف العظيم وهو ما كان يسعى إليه جمال الدين الأفغاني من قبله فكان مصيره القتل في اسطنبول سنة 1897..).
هذا هو سر تعرب ما سبق من الشعوب الإسلامية الحالية الناطقة باللسان العربي الرسالي وليس السلالي الانفصالي الصهيوني المتستر بثياب وجلود مستعارة من أعداء الإنسانية والحضارة..
وليعلم الجهلة والعنصريون أن 95%من المسلمين في العالم يعيشون ثقافيا وفقهيا ودعويا على علماء هذا الربع من المسلمين الناطقين بالعربية اليوم كما كانوا على امتداد كل القرون الذهبية للحضارة الإسلامية الوجدان العربية اللسان في حواضرها المشرقة طوال عهود من الزمان الذهبي المشع بالحرف العربي في غرناطة وقرطبة ودمشق وبغداد والأزهر وتلمسان وفاس وبجاية والزيتونة والقيروان..
آيات للتوحيد
وللرد على أولئك المعترضين من والزنادقة والمنافقين الذين يتخذون من بعض آيات القرآن سلاحا لضرب وحدة المسلمين في أغلى ما يملكون وهو لسانهم الجامع في المسجد والمدرسة والشارع.. فيستشهدون بقوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ} (الروم:22) ليستدلوا بها على ضرورة التزام المسلمين بالتعدد اللغوي داخل الأمة المحمدية لتذكية الصراعات الإثنية والعصبية القبلية وتعميق هوة الخلاف المصطنع بين الأطراف من أبناء الجهة الواحدة في الدولة الواحدة فضلا عن الامة الواحدة..
ولذلك نجيب هؤلاء المعترضين بقولنا:
أولا ـ إن الآية المذكورة في كتاب الله لم تقل يا أيها الذين آمنوا ولا يا أيها الذين أسلموا، بل قالت (يا أيها الناس) ومنطقها كما يفهمه أي مبتدئ، هو إظهار الإعجاز الإلهي في القدرة على الخلق والإبداع لعدة أشياء متنوعة من أصل واحد ومعنى "الآية" لغةً هي العلامة، أي من العلامات الدالة على قدرته تعالى أن جعل ألسنة العباد وألوانهم مختلفة، وذلك من باب وصف واقع الناس بالفعل وليس كلاماً يحمل أي معنى من معاني الإلزام مثل فرائض الشرع المحددة في قواعد الإسلام الخمسة.
ثانيا ـ إذا جارينا أصحاب هذا الفهم "المرض" للآية كما يريدوننا أن نفهمها، واعتبرنا أن الله (عز وجل) خاطب المسلمين بصفتهم أناسا وبشرا، فلماذا لا يطيعون الله إلا في هذه المسألة الوصفية التقريرية، ويعصونه في الأوامر والنواهي الأخرى الصريحة التي تحث المؤمنين والمسلمين على التوحيد والتوحد في أمة محمد (ص) المتعالية عن الألوان والأعراق والنابذة لعصبية الجاهلية الأولى التي أخرجت أبا لهب وأبا جهل من الملة والأمة وأحلّت محلهما أمثال بلال الحبشي (الأسود) وصهيب الرومي (الأبيض) وسلمان الفارسي (الأسمر) بلغاتهم (الحبشية والإغريقية والفارسية) وقد التزم الثلاثة بلغة التنزيل والعبادة إلى يوم الدين لان العربية هي لغة أهل الجنة في النعيم وأهل صقر في الجحيم بدليل نص القرآن الكريم.
ولم يسمح الله للمسلمين بعبادته إلا بلغة التشهد ولغة الصلاة الإجبارية على المسلم مدى الحياة، ليصبحوا أعضاء كاملي الحقوق والواجبات في الأمة المحمدية ويصبح سلمان الفارسي من آل البيت كما قال النبي (ص) بدل أبي لهب عمّه، وأبي جهل والوليد ابن المغيرة من أبناء عشيرته المقربين منه سلاليا والمبعدين عنه إيمانيا ومصيريا وبئس مثوي العنصريين المتكبرين ولو كانوا من أعيان القرشيين المشركين..
وإذا كان المسلمون والمؤمنون أخوة بنص الآية الصريحة: { انَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (الحجر:10) فهل الأخوة تفرض على الإخوان في إندونيسيا وماليزيا وتركيا وإيران وباكستان.. البحث عن وسائل التفاهم والتعاون والاتحاد، أم على عوامل التشتت والتنافر والتناحر والاختلاف والبحث عن وجوه الخلاف كما يريد أن يفهمنا هؤلاء المفسرون "الجدد" للقرآن (حسب مذهبهم الباطني واهدافهم المشبوهة صهيونيا ووثنيا وعنصريا !؟) والتي لا تخفى أخطارها على غيرهم ممن يرون بنور الرحمان ويقدسون لسان القرآن الجامع للمؤمنين والمانع للمشركين والزنادقة المتصهيني.. فلماذا لا يتبع هؤلا ء "المجتهدون" المنطق ذاته مع اختلاف الألوان أيضا (الوارد في صلب الآية ذاتها ) التي كثيرا ما تكون مختلفة اختلافا صارخا بين أصحاب اللغة المحلية الواحدة في القرية الواحدة مع الفارق الجوهري هنا وهو أن اللغة تكتسب من الفرد بالإرادة ولا تخلق معه مثل اللون بالولادة..
وهذه هي القاعدة التي تأسست عليها الحضارة الإسلامية على امتداد عصورها الذهبية وقامت على مبدئها الأمة المحمدية دينيا وسياسيا وثقافيا واجتماعيا على ما هي عليه الآن (مشرقا ومغربا) بين العرب المسلمين والمسلمين غير العرب (أي غير الناطقين بالعربية للأسباب المذكورة آنفا). وعرب نصارى وحتى يهود في جل الأقطار العربية الحالية كلغة اغلبية.. وهذا أقوى دليل على أن الإسلام لا يكره الناس على الدخول فيه ولا يجبرهم على تغيير ألسنتهم من أجله إلا طوعا بعد الاقتناع مثلما اقتنعوا بالإسلام إن كانوا صادقين في إيمانهم كما يقولون.. وإلا لما وجد الأعاجم في الأمة الإسلامية أصلا كما هو واقع اليوم في البلدان التي يستشهدون بها مما ذكرنا ومما لم نذكر..
من أراد خدمة الإسلام حقاً، فليبدأ بخدمة لغة الإسلام. ومن صدق في انتمائه لهذه الأمة، فليؤمن أن العربية ليست خصماً لأحد، بل رحِمٌ ثقافي جامع لكل من نطق بالشهادتين، وأحب القرآن، وحرص على ألا يضيع هذا اللسان كما ضاعت أمم من قبله حين خانت لغاتها.وإذا كان هذا هو الواقع الذي لا يماري فيه إلا جاهل متعصب أو عدو منافق زنديق من طابور المتجنسين والمرتدين من أحفاد أبرهة وكسيلة عندنا وأغسطين، هؤلاء وحدهم هم الذين قد يدعون أنهم مسلمون رياء ولكنهم غير عرب.. وهم في الحقيقة غير مسلمين أصلا كما يبدو من أفعالهم ورموزهم الشبحية وأسمائهم (العبرية والبربرية) التي قد تعود إلى يهود الأندلس المندسين في صفوف المسلمين حتى حين، وهو موقف لا يستقيم أبدا مع المنطق الإسلامي والإيماني الصادق الذي كان عليه الأجداد منذ أن اعتنقوا الإسلام قبل بضعة عشر قرنا ونشروه بلسان قرآنه في مشارق الأرض ومغاربها بشمالها الاروبي وجنوبها الافريقي وشرقها وغربها الاسيوي، لأنه من غير المنطقي أن يدعي الإنسان تغيير ما في قلبه من كفر وشرك ويمتنع عن تبني لسان دينه باسم التمسك بجذور خرافية وهوية وهمية فولكلورية وأحماض نووية هلامية لأخلاط بشرية افتراضية لا يجمعها إلا اسم الآدمية والإنسانية مقابل الحيوانية..
العروبة بالرسالة واللسان للإنسان
إلى هؤلاء الذين يدعون أنهم مسلمون (ولكنهم غير عرب) نقول لهم إن العروبة بالسلالة للحصان والعروبة بالرسالة واللسان للإنسان من أي أصل أو لون كان وكل الناس في المفهوم الإيماني الإسلامي من آدم وآدم من تراب (كما ورد في خطبة حجة الوداع) وأن أكرم الناس عند الله اتقاهم وليس أذكاهم أو أغناهم، وبالتالي فلا توجد أية هوية عربية وغير عربية بالسلالة وإنما الهوية الوطنية والقومية بالثقافة السائدة والغالبة فقط والاستثناء موجود في كل الدول والأمم وهو يؤكد القاعدة ولا يلغيها أبدا.. والثقافة كلها اكتساب بإرادة المكتسبين والمنتسبين وليس لها أية علاقة بمورثات الوالدين كما قلنا (انظر مقالنا في "عربي21" عن الفرق بين الهوية الفردية والهوية القومية ليوم 10 يناير 2025 وكذلك مقالنا حول الثقافة والهوية ليوم 7 فبراير 2025...).
إن الإسلام دين صدق ووفاء.. والعربية اكتساب لسان مرتبط بوحي السماء، وهو ما يؤ كده حديث نبوي شريف يقول: "ليست العربية (أي الصفة العربية او ما نسميها اليوم بالعروبة) بأحدكم من أب أو أم وإنما هي باللسان فمن تحدث العربية فهو عربي"..
نحن إذن نقر هؤلاء كلهم بأن الإسلام لا يكره أحدا على اعتناقه ولا يفرض بالتالي لسانه على أحد من أتباعه.. ولكننا نسألهم في الوقت ذاته عن المسلمين في إيران وتركيا وباكستان وماليزيا وإندونيسيا وغيرها.. هل وجدوا فرصة لتعلم اللغة العربية (التي يقدسونها عندهم) وامتنعوا عنها طواعية وحاربوها لصالح الأعداء القوميين العنصريين الحاقدين على الإسلام ولسانه الميسر مع كتابه للعالمين جميعا دون استثناء في الأولين والآخرين إلى يوم الدين؟
فهؤلاء المعترضون سموهم إذن كما تريدون ولكن لا تسموهم مسلمين إلا تجاوزا (من باب الجغرافيا والديمغرافيا) ذلك أنهم عندما يشبهون بلدا مثل المغرب أو الجزائر ذات المليون ونصف المليون شهيد من أجل الحرية و مقومات الهوية (المتمثلة في الإسلام والعربية كما ينص عليها بيان ثورتها الشعبية المجيدة) يشبهونها بإيران أو تركيا أو ماليزيا أو باكستان وإندونيسيا أو بنجلادش.. فإننا نسألهم عن هذه الدول والشعوب الإسلامية هل لها لغة واحدة وطنية ورسمية سيدة ومقدسة أكثر من القرآن ذاته (مثلما هو الحال في تركيا؟) فالجواب هو أن لهذه الدول عدة لغات محلية ولكن ليس لها إلا لغة واحدة وطنية ورسمية.. في حين أن في هذه الدول عدة أديان متعايشة في إطار القانون المحترم من الجميع.. لكن اللغة الدستورية واحدة وذلك لأنها مرتبطة بالهوية والوحدة والسيادة.. أكثر من الدين ذاته الذي يمكن تجاوزه بالعلمانية مثل فرنسا ولبنان وتركيا وباكستان وغيرها..
وإذا أمكن فصل الدين عن الدولة.. فلا يمكن فصل اللسان الرسمي للدولة عن إدارتها في الداخل وسفاراتها في الخارج، فهل يمكن لفرنسا مثلا أن تفصل لغة الدولة عن إدارة الدولة وسيادتها ووحدة شعبها داخل تراب الدولة الفرنسية الواحدة ومستعمراتها الفرانكوفونية عبر القارات والمحيطات في أقاصي المعمورة؟ فهل فعلت دولة الجزائر وكل البلاد المغاربية الحالية غير ما فعلته هذه البلدان المسلمة والمسيحية معا في كل قارات العالم المتمدن بالنسبة للغة الأغلبية الشعبية قي صناديق الاستفتاء على تقرير المصير بعد أهوال حروب التحرير؟
إن فرنسا الغالية (الجولوا) لَتّنَتْها (على وزن عربتها) المسيحية كما يقول الجنرال دوغول ذاته في كتابه (الأمل) وإيران عربها الإسلام لعدة قرون مثل شمال إفريقيا (ثم صفونتها القومية الفارسية دون استبدال حروفها العربية حتى الآن) وتركيا فعلت الشيء ذاته مع اللغة (العثمانية) رغم الخلافة الإسلامية قبل الردة العلمانية الصهيونية التي انتهت بفرض السفور على النساء بدل الحجاب و فرض البرنيطة على الرجال بدل الطربوش واستبدال الحروف اللاتينية بالحروف القرآنية التي تمت بها الضربة القاضية على رموز الخلافة الإسلامية (ذات الحرف القرآني واللسان العثماني بعد العدناني) (راجع مقالنا في عربي21 ليوم 22 فبراير 2023) والجزائر (ومثلها بلاد المغرب العربي كلها) لماذا تصطنع وضعا لغويا جديدا لصالح الأعداء على حساب وحدة الشعوب والأوطان وتضحيات كل الشهداء؟ وهو استبدال وتغيير لا يخدم إلا الغرماء التاريخيين والحضاريين من أبناء الغزاة الصليبيين الموتورين القدماء والمعاصرين من عهد الرومان إلى شارلومان وشارلوكان ودوبورمون وليوطي وشارل دوغول وعصابة جون ماري لوبان التي لا تعترف باستقلال بلادنا المغاربية عن فرنسا المحتلة حتى الآن؟
لقد آن الأوان أن يعي المسلمون، لا سيما في ربوع المغرب الكبير، أن الدفاع عن اللغة العربية ليس خضوعاً لقومية مفروضة، ولا تنكراً للهجات محلية عريقة، بل هو موقف مبدئي من أجل وحدة أمةٍ مزقها الجهل والتعصب والتدخلات الأجنبية. إن اللسان العربي هو وعاء الوحي، واللغة التي بها نصلي ونتعبد، وهو جسر التفاهم بين شعوب أمتنا مهما تباعدت أوطانها واختلفت ألوانها.
فمن أراد خدمة الإسلام حقاً، فليبدأ بخدمة لغة الإسلام. ومن صدق في انتمائه لهذه الأمة، فليؤمن أن العربية ليست خصماً لأحد، بل رحِمٌ ثقافي جامع لكل من نطق بالشهادتين، وأحب القرآن، وحرص على ألا يضيع هذا اللسان كما ضاعت أمم من قبله حين خانت لغاتها.
فالخلاف حول اللغة ليس خلافاً لغوياً، بل هو اليوم معركة هوية، ومواجهة مع من يريدون لنا أن نُستلب حضارياً باسم حقوق مزعومة وهويات مفتتة. ولأننا نؤمن أن الإسلام لا يُكره أحداً، فإننا في المقابل لا نقبل بأن يُكرهنا أحد على نفي أنفسنا ومحو لساننا. فاللغة ليست عِرقاً، بل عهدٌ مع الرسالة، ولسانٌ لا يخون.