"الفوضى الخلاقة".. بين المفهوم الغربي والتأصيل الإسلامي
تاريخ النشر: 17th, December 2024 GMT
قال الدكتور علي جمعة عضو هيئة كبار العلماء ومفتي الجمهورية السابق، أن مصطلح "الفوضى الخلاقة" (Creative Chaos) بدأ يترسخ في أدبياتنا السياسية كوافد غربي يحمل معه مفاهيم معقدة لا ندرك غالبًا أبعادها الفكرية ولا نظرياتها الجذرية.
هذا المصطلح يبرز أزمة فكرية عميقة في تعاملنا مع المفاهيم الوافدة، مقارنة بما قام به العلماء المسلمون في العصور الأولى من استيعاب الوافد الفكري وتأصيله في سياق يتماشى مع مبادئ الإسلام ومعايير العقل.
تذكرني هذه الأزمة بما تناوله الإمام أبو الحسن الأشعري (توفي 320 هـ - 940 م) في كتابه الصغير استحسان الخوض في علم الكلام. في هذا الكتاب، يشرح الأشعري كيفية مواجهة الأفكار الوافدة، خاصة تلك ذات الجذور اليونانية، من خلال تأصيلها أو رفضها بناءً على معايير علمية ودينية واضحة. تلك الرؤية هي ما جعل المسلمين في عصورهم الذهبية ينتقلون من التفكير الساذج إلى الفكر المستنير المتعمق، وهو ما نفتقر إليه اليوم في تعاملنا مع المصطلحات الغربية كـ"الفوضى الخلاقة".
قراءة الكون بين الإسلام والغربعلى سبيل المثال، نجد أن المسلمين أطلقوا على النسبة الثابتة للدائرة (22/7) اسم "النسبة الإلهية الفاضلة"، إدراكًا منهم لجلال الخلق وإعجاز الخالق في وضع هذه النسبة الثابتة في جميع الدوائر. هذا الوصف يفتح أفقًا لقراءة الكون قراءة ربانية تعكس عظمة الخالق.
أما الفكر الغربي الحديث، فقد أطلق على ذات النسبة اسم "النسبة الطبيعية" (π) معزولًا عن أي بُعد روحي.
هذه الفجوة بين القراءة الروحية للكون عند المسلمين والقراءة العلمية المجردة في الفكر الغربي تظهر بوضوح في النظر إلى مفاهيم مثل "الفوضى"؛ حيث يدرس الغرب نظريات "الفوضى الخلاقة" في سياق القوانين الخفية التي تحكم العشوائية الظاهرة في الكون.
الفوضى الخلاقة: بين العلم والفكرنظريات الفوضى الحديثة ليست مجرد مصطلحات سياسية بل هي مفاهيم علمية نشأت في الغرب لدراسة الظواهر العشوائية التي تبدو بلا قانون واضح. هذه النظرية حظيت بشهرة واسعة بفضل روايات وأفلام شهيرة مثل حديقة الديناصورات لمايكل كريشتون (1990)، حيث استُخدمت فكرة الفوضى لشرح كيفية استنساخ ديناصورات تسببت في كوارث غير متوقعة.
كما نجد مثالًا آخر في قصة صوت الرعد التي تعتمد على فكرة أن تغييرًا صغيرًا، كضربة جناح فراشة في الشرق، قد يؤدي إلى إعصار ضخم في الغرب.
النظرية نفسها تعود جذورها إلى عالم الرياضيات الفرنسي هنري بونيكير، الذي واجه معضلة رياضية عُرفت بـ"حركة الأجسام الثلاثة في إطار واحد من الجاذبية". هذا التحدي استمر قرنين من الزمن دون حل، مما دفع العلماء إلى البحث في الظواهر العشوائية ومحاولة فهمها.
مقارنة منهجية: الفكر الإسلامي والنظريات الحديثةبينما يشير العلماء الغربيون إلى "العشوائية" في الظواهر التي لا يمكن تفسيرها أو التنبؤ بها بسهولة، نجد أن الفكر الإسلامي ركز على الربط بين المسببات والغايات بمنهج متوازن يجمع بين العقل والنقل. هذه الرؤية الإسلامية الشاملة تتيح لنا فهمًا أعمق للظواهر الكونية وارتباطها بالخالق، بدلًا من الاكتفاء بالنظرة المادية البحتة.
إن استخدام مصطلح مثل "الفوضى الخلاقة" دون إدراك جذوره ومعانيه قد يؤدي إلى استيراد مفاهيم بعيدة عن سياقنا الثقافي والديني. ما نحتاج إليه هو إعادة إحياء منهجية التأصيل التي طرحها الإمام الأشعري وغيره من علماء الإسلام، بحيث نتمكن من التعامل مع المصطلحات والمفاهيم الوافدة بما يثري فكرنا ومجتمعنا.
الفوضى، إذا نظرنا إليها من زاوية إسلامية، لا يمكن أن تكون "خلاقة" بمعناها المادي المجرد؛ لأن الإبداع والخَلْق مرتبطان بالانسجام والنظام الذي أوجده الله تعالى. لذا، ينبغي علينا أن نتبنى قراءة واعية ومتعمقة لهذه المفاهيم، بما يعزز من ارتباطنا بقيمنا وأصولنا الفكرية.
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: الفوضى فوضى قال الدكتور على جمعة الفوضى الخلاقة
إقرأ أيضاً:
أستاذ الشريعة الإسلامية: يجب استثمار طاقات دار الإفتاء لمواجهة الفتاوى العشوائية
شهد اليوم الثاني من فعاليات ندوة دار الإفتاء الدولية الأولى انعقاد الجلسة العلمية الثانية، تحت عنوان "حماية الأمن الفكري: التحديات وطرائق الفتوى في المواجهة" قال الدكتور محمد عبد السلام أبو خزيم، أستاذ الشريعة والدراسات الإسلامية بجامعة عين شمس، إن “استثمار طاقات دار الإفتاء المصرية يعدُّ أمرًا ضروريًّا في التصدي للفتاوى العشوائية، مما يسهم في تعزيز الأمن الفكري والانتماء الوطني”.
وأشار الدكتور أبو خزيم إلى الدور البارز الذي تضطلع به دار الإفتاء المصرية عبر تاريخها الطويل في دعم البحث الفقهي وإصدار الفتاوى الرصينة. وأوضح أن "الفتوى ليست مجرد إجابة على سؤال، بل هي عبارة عن عمل علمي يتطلَّب فهمًا عميقًا للنصوص الشرعية ومقاصدها، بالإضافة إلى التفاعل مع المستجدات المعاصرة."
كما أكد على أهمية التصدي للفتاوى العشوائية التي قد تُحدث بلبلة في المجتمع، قائلًا: “إن الفوضى الفكرية التي تنتج عن الفتاوى المغلوطة تؤثر سلبًا على التوازن الفكري والاقتصادي والاجتماعي. ومن هنا تأتي أهمية وجود أمانة الفتوى والإدارات الشرعية القادرة على تحليل الواقع وبيان الرأي الفقهي الصحيح”.
وفي سياق حديثه، تناول الدكتور أبو خزيم أهمية "أمانة الفتوى" التي تضم الهيئة العليا لكبار العلماء في دار الإفتاء، والتي تعمل على التصدي للفتاوى الشاذة. وأشار إلى ضرورة وجود اجتهاد جماعي يستند إلى مناهج علمية رصينة في مواجهة الفتاوى المتطرفة.
كما أوضح الدكتور أبو خزيم أن "المؤشر العالمي للفتوى" يمثل آلية فعالة لرصد الفتاوى التي تدعم بناء الإنسان واستقرار المجتمع، ويعكس جهوده في تحليل الفتاوى الرسمية مقارنةً بتلك الفتاوى المتطرفة، مشيرًا إلى أهمية تقديم الفتاوى المرتبطة بقضايا التنمية المستدامة.
علاوة على ذلك، تناول د. أبو خزيم أهمية "إدارة الأبحاث الشرعية" في دار الإفتاء، والتي تقوم بإعداد بحوث تتسم بالدقة والتأصيل، وتسعى للرد على الشبهات التي تُثار حول الإسلام. وأكَّد أن نتاج هذه الأبحاث يسهم بشكل كبير في مواجهة الفتاوى العشوائية.
في ختام كلمته، دعا الدكتور أبو خزيم إلى أهمية تدريب المفتين وتطوير مهاراتهم من خلال برامج تدريبية متخصصة، مشددًا على أن "الإفتاء صناعة تحتاج إلى تأهيل مستمر، مما يساهم في تعزيز كفاءة المفتين وتمكينهم من التعامل مع الأسئلة المعاصرة بشكل صحيح."
كما أكَّد على دور دار الإفتاء المصرية كمرجعية علمية تسعى إلى الحفاظ على الوسطية والاعتدال في الفتوى، والتصدي لأي محاولات تشوه صورة الإسلام وتعكر صفو التعايش السلمي بين أفراد المجتمع.