جريدة الرؤية العمانية:
2024-12-17@18:58:20 GMT

ازرع أثرًا لا يزول

تاريخ النشر: 17th, December 2024 GMT

ازرع أثرًا لا يزول

 

 

بثينة بنت حمد بن حمود القاسمية

في ذاكرة الأيام، لا يبقى سوى ما غُرس من مواقف نبيلة وآثار طيبة. ومع مرور الوقت، قد تتغير الأماكن وتختفي الوجوه، إلّا أن الأثر الذي نتركه في قلوب الآخرين يظل حاضرًا لا يتلاشى. فكل كلمة صادقة، وكل لمسة حانية، وكل عطاء بلا مقابل، تُسجَّل في دفاتر الذاكرة كقيم خالدة لا تزول.

وهكذا، هذه البصمات التي نغرسها في تربة العلاقات الإنسانية تُزهر مع الزمن، لتصبح في النهاية شاهدًا على جوهرنا الحقيقي، ودليلًا على إنسانيتنا وأخلاقنا، حتى وإن غبنا عن المشهد.

فمنذ البداية، يجب أن ندرك أن الأثر الذي نتركه لا يُقاس بحجم الإنجازات أو الشهرة، بل بقيمة الأفعال التي نقوم بها يوميًا. قد يكون الأثر في موقف بسيط لا يتطلب جهدًا كبيرًا، لكنه يترك أثرًا عميقًا في نفوس الآخرين. خذ على سبيل المثال المعلم الذي لا يكتفي بتلقين طلابه الدروس، بل يغرس فيهم حب التعلم، ويشجعهم على البحث والابتكار. إن هذا المعلم، وإن مضت السنوات، يبقى أثره في كل طالب نجح بفضل كلماته وتوجيهاته.

وعلى الجانب الأسري، فإن الآباء والأمهات هم أول من يزرع في أبنائهم بذور القيم والأخلاق. عندما يرى الطفل والده يساعد جاره، أو والدته تعطف على المحتاجين، فإن هذه المشاهد تُحفر في ذاكرته وتصبح جزءًا من شخصيته المستقبلية. لذلك، كل لحظة نقضيها مع أبنائنا هي فرصة لغرس معاني الرحمة، والتسامح، وحب الخير. قد لا ندرك ذلك الآن، لكننا نصنع مستقبلًا من القيم التي ستعيش بعدنا في قلوبهم وأفعالهم.

وإذا نظرنا إلى العلاقات الإنسانية بشكل أوسع، نجد أن هناك مواقف تحدث في حياتنا اليومية تتيح لنا ترك أثر إيجابي دون عناء. ففي العمل مثلًا، قد يمر زميل بلحظة إحباط أو تحدٍ صعب، وكلمة دعم واحدة منك قد تكون مفتاحًا لرفع معنوياته. قد تكون في موقع مسؤولية، ويكون قرارك العادل والإنساني هو ما يُشعر موظفيك بالأمان والاحترام. هذه اللحظات، وإن بدت عابرة، تترك أثرًا يبقى لسنوات، وربما للأبد.

علاوة على ذلك، هناك أثر يتركه الإنسان من خلال الأعمال التطوعية والخيرية. في كل مرة نساهم في بناء مسجد، أو نشارك في مبادرة تعليمية، أو نساعد في تنظيف حيّنا، فإننا نترك أثرًا ملموسًا ومجتمعيًا. هذه الأفعال البسيطة تتراكم مع الزمن لتشكل صورة مشرقة لمجتمع متماسك ومترابط. وكما يقول الله تعالى: "وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى" (المائدة: 2). إن هذا التعاون يعكس معدن الإنسان الحقيقي ويُخلد أثره في نفوس الآخرين.

ومن ناحية أخرى، لا يمكن أن نغفل عن الأثر الذي نتركه في الطبيعة والبيئة من حولنا. عندما نحرص على الحفاظ على نظافة الأماكن العامة، ونزرع الأشجار، ونقلل من استهلاك الموارد، فإننا نساهم في حماية الكوكب للأجيال القادمة. هذا النوع من الأثر يتجاوز حدود حياتنا ليصل إلى من سيأتون بعدنا، فيستفيدون من بيئة نظيفة وصحية.

كما إن الأثر لا يتوقف عند الأفعال الكبيرة فقط، بل يظهر أيضًا في التفاصيل الصغيرة التي نمر بها يوميًا. فعندما تقدم مقعدك لشخص مسنّ، أو تحمل عن شخص ما أمتعته، فإنك تترك بصمة من اللطف والاحترام. هذه الأفعال الصغيرة قد تبدو بلا أهمية في نظر البعض، لكنها تعكس نبل الإنسان وتخلق حالة من الودّ الاجتماعي الذي نحتاجه جميعًا.

كذلك الأثر الحقيقي لا يتطلب مجهودًا خارقًا أو تضحية كبيرة؛ بل يتطلب قلبًا صادقًا ونية طيبة. هناك أشخاص يظنون أن قيمتهم تتحدد بما يملكونه من أموال أو بما يحققونه من نجاحات، لكن الحقيقة أن القيمة الحقيقية تكمن في العطاء غير المشروط. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "خير الناس أنفعهم للناس" (رواه الطبراني). هذا الحديث الشريف يُذكرنا بأن أعظم ما يمكن أن نقدمه لأنفسنا هو أن نكون سببًا في سعادة الآخرين وراحتهم.

وفي كل مرة نختار فيها الصدق بدلًا من الخداع، والأمانة بدلًا من الغش، والكرم بدلًا من البخل، فإننا نثبت لأنفسنا وللعالم من حولنا أننا قادرون على ترك أثر أخلاقي وإنساني يدوم طويلًا. هذه القيم هي ما تجعل لحياتنا معنى، وهي التي تُخلّد أسماءنا في قلوب الناس.

وعندما ننظر إلى الحياة من هذا المنظور، ندرك أن كل فرصة تمر بنا هي دعوة لترك أثر. حتى بعد رحيلنا، سيظل هذا الأثر هو الحديث الذي يتناقله الناس عنا. لذلك، اجعل كل يوم فرصة لزرع الخير، واجعل أفعالك انعكاسًا لمبادئك وقيمك. لا تبحث عن الأثر السريع أو الشهرة المؤقتة، بل ابحث عن الأثر الذي يبقى، الأثر الذي يُلهم، الأثر الذي يُحيي النفوس.

وفي الختام.. الحياة ليست مجرد سباق لتحقيق الإنجازات؛ بل هي رحلة لزرع الأثر الطيب في كل مكان نذهب إليه.

ازرع أثرًا لا يزول، لأن هذا الأثر هو الذي سيبقى يتحدث عنك بعد أن تُطوى صفحات حياتك، وسيكون شاهدًا على إنسانيتك وحبك للخير.

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

“الشرق الأوسط الجديد”: لا شيء يـبقى لا أرض تُـستثنى

يمانيون../
يعتبر مشروع “الشرق الأوسط الجديد” أحد أبرز التوجهات الاستراتيجية التي يسعى إليها العدوُ الإسرائيلي بدعم وشراكة من الولايات المتحدة الأمريكية، وهو هدف الصهيونية العالمية ضمن مخططاتها في المنطقة العربية، يهدف هذا المشروع إلى توسيع نفوذ الكيان الصهيوني وتعزيز وجوده في المنطقة بما يفضي إلى تسيّده المطلق، واستباحته الكاملة لسيادة ومقدرات دول المنطقة، ومصادرتها كليا، قرارات وحقوق شعوبها وهويتهم، وهو في الوقت ذاته يجسّد جوهر أطماع السياسة الغربية المتبعة في العالم العربي.

لم يكن مشروع “الشرق الأوسط الجديد” فكرة مستجدة؛ بقدر ما هو تحديث لأهداف قديمة وضعها وصاغها المحتل، وهي موجودة في متن وهوامش استراتيجيته الانتهازية الإمبريالية، وبالتالي فإن “الشرق الأوسط الجديد” مفهوم حديث لمخطط قديم ، يعيد اليوم المستعمرُ الغربي قولبته وصياغته ليحقق أهداف المحتل وفق متغيرات المرحلة في المنطقة التي شهدت أحداثاً كبرى من بينها ثورات “الربيع العربي” التي تزامنت مع الترويج لمشروع “الشرق الأوسط الجديد” قبل عقد من الزمن، وأعلن للمرة حينها على لسان كوندليزا رايز، وزيرة خارجية الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الابن، كحصاد لمسرحية “أحداث” 11 سبتمبر، ضمن ترتيبات عالمية واسعة.

واعتمدت الولايات المتحدة في ذلك على خلق “فوضى خلاّقة” في الدول العربية، مستغلة الفروق الجغرافية والسياسية الناشئة أصلا عن اتفاقية “سايكس بيكو”، بالإضافة إلى تعزيز وتكريس الصراعات الداخلية التي أدت إلى تفكك الدول العربية وتمزيق مجتمعاتها.

استنزاف قدرات الأمة

وفعلياً أدت السياسات الأمريكية إلى إضعاف القدرات البشرية والاقتصادية للدول العربية إثر سلسلة أحداث وفتن عصفت بالمنطقة، واستنزفت الثروات على حروب وصراعات داخلية، بينما تراجعت القضية الفلسطينية إلى مؤخرة الأولويات، في لحظة تراجع عربي وإسلامي غير مسبوق وفق تصنيف الكثير من الكٌتاب والنخب العربية، وهو ما مهّد لطرح مشاريع تطبيعية يقدمها كل وافد أمريكي جديد على البيت الأبيض ضمن مشاريعه الانتخابية في مضمار سباق الفوز برضا اللوبي اليهودي في أمريكا.

ورغم خطورة وانكشاف هذه المخططات مثل “صفقة القرن واتفاقية إبراهام” أمام الرأي العام والنخب في عالمنا العربي على ما تمثله من انقلاب واضح على القضية المحورية للأمة، شعوباً وأنظمة إلا أنها توضع على سكة التنفيذ، وتجد رواجاً وقابلية، وكان طرح مثل هذه الأفكار قبل سنوات يُعدُ خيانة تستوجب المحاكمة، وتلحق العار بدعاتها، لكنها اليوم وفي مؤشر على نجاح سياسة الترويض الأمريكية الإسرائيلية تُطرح بجرأة وتُقدم كحقيقة لا جدال فيها، وكقضية أساسية لتحقيق ما يصفه الأمريكي وأدواته الخيانية بـ”فرص خلق أمن واستقرار لشعوب المنطقة”!!.

بالعودة إلى الوراء قليلاً إلى مطلع القرن العشرين مع بداية الهجرة اليهودية إلى أرض فلسطين وما أعقبها من تفريط عربي بالأرض، نجد أن الصهيونية إنما تُعيد تدوير العناوين وتحديث الشعارات لتحريك عجلة مشروعها القديم ليس إلا.

ومع ذلك، بدأت تظهر بوادر صحوة تجاه القضية الفلسطينية، رغم التحديات التي فرضتها الحروب الأهلية والانقسامات الطائفية.

“الشرق الأوسط” من التخطيط إلى التنفيذ

يُعتبر الاحتلال الإسرائيلي حجر الزاوية في مشروع “الشرق الأوسط الجديد”، حيث تسعى الولايات المتحدة لإعادة تشكيل الجغرافيا السياسية للمنطقة بما يتناسب مع مصالحها ومصالح “إسرائيل”. على الرغم من محاولات بعض الأنظمة العربية للتعاون مع العدو الإسرائيلي، إلا أن الشعوب تظل متشبثة بقضيتها المركزية: فلسطين.

تشير التصريحات الأخيرة من المجرمين القادة الإسرائيليين، مثل “بتسلئيل سموتريتش”، إلى نوايا إسرائيلية واضحة للتوسع والضم، متجاوزةً الاتفاقيات السابقة مثل أوسلو.

ومع اقتراب ترامب من البيت الأبيض، يُتوقع أن تتصاعد هذه التوجهات، خاصة مع دعم ترامب العلني لإسرائيل، بما في ذلك نقل السفارة الأمريكية إلى القدس في فترة ترمب الرئاسية الأولى، ولاحقاً الاعتراف بالجولان السوري كجزء من “إسرائيل” وهو ما أعاد التأكيد عليه اليوم مجرم الحرب نتنياهو وحكومته التي صادقت على “خطة نتنياهو” لتعزيز النمو الديمغرافي بهضبة الجولان ومدينة “كتسرين”.

وجاء في تصريحات المجرم نتنياهو: “سنواصل التمسك بالجولان من أجل ازدهاره والاستيطان فيه”، مضيفاً أن “تعزيز الاستيطان في الجولان يعني تعزيز “دولة إسرائيل” وهو أمر بالغ الأهمية في هذه الفترة” حد وصفه.

وهكذا تدريجياً تتوسع مظاهر “الشرق الأوسط” الجديد لتشمل ضم الضفة الغربية وتهجير سكانها إلى الأردن، بالإضافة إلى التمدد نحو سوريا، تتجاوز هذه السياسات حدود الاتفاقيات الدولية، فضلاً عن تجاهلها التام لسيادة الدول العربية، حتى أنه يبدو أن ما يمنع العدو الإسرائيلي من التوسع في هذه المرحلة هو فقط اعتبارات صهيونية داخلية لا أكثر.

ومع تسارع مشاريع الاستيطان وتوسعها خارج حدود الأراضي الفلسطينية يبدو مشروع “الشرق الأوسط الجديد” خطر لا يهدد وجود الدولة الفلسطينية وحسب بل يضع دول الطوق الفلسطيني أمام تهديد وجودي يعيد رسم الخارطة وفق الأجندات الصهيونية، ويُلغي تماماً هوية شعوبها ويصادر حقوقها، ولا يفهم اليوم سبب التغافل عن هكذا خطر بهذا الحجم لن يبقي ولا يذر.

موقع أنصار الله – يحيى الشامي

مقالات مشابهة

  • متطلبات جديدة للتصاريح البيئية.. دراسة الآثار و100 ألف ريال غرامة المخالفين
  • على ابو سنة يؤكد: نعمل على رقمنة أنظمة تقييم الأثر البيئي
  • مراسلة الجزيرة بموسكو تكشف عن الفندق الذي نزل به الأسد والأموال التي بحوزته
  • الشرق الأوسط الجديد: لا شيء يـبقى .. لا أرض تُـستثنى
  • “الشرق الأوسط الجديد”: لا شيء يـبقى لا أرض تُـستثنى
  • كريم خالد عبد العزيز يكتب: فن إدارة ردود الأفعال.. بين الحق والسمو الإنساني
  • «الإفتاء العمانية»: الحرية تحتاج لضوابط تحمي حقوق الآخرين وتؤكد على كرامة الإنسان
  • جباري يحذر: الوضع في اليمن لن يبقى كما هو..
  • لطفي لبيب يثير الجدل: انتقادات للزعيم ورمضان تشعل ردود الأفعال