تتزايد شكاوى المصريين من تدهور أوضاعهم الاقتصادية وتردي مستوى معيشتهم، حيث يعانون من الفقر وضيق ذات اليد وضعف قدرتهم الشرائية، ما انعكس سلبًا على جميع جوانب حياتهم اليومية، بدءًا من الطعام والملبس، مرورًا بالرعاية الصحية وتوفير الأدوية، وصولًا إلى التعليم وتكاليف الزواج ومستقبل أبنائهم.

في ظل هذه الأوضاع المأساوية، تتجه أصابع الاتهام إلى سياسات رئيس النظام عبد الفتاح السيسي، الذي يحمّله المواطنون مسؤولية ما آلت إليه أوضاعهم الاقتصادية والمعيشية، ويأتي ذلك وسط حالة من التكتم الحكومي بشأن النسب الحقيقية للفقر، في بلد تجاوز عدد سكانه بالداخل 106 ملايين نسمة.

"

"وصلنا حد التسول"
سامية، (59 عاما) تقف في طابور ممتد في صفوف النساء وبجوارها صف أطول من الرجال، أمام شباك مكتب التأمينات الاجتماعية بإحدى مدن الدلتا، تقول لـ"عربي21": "لم يعد أمامي إلا أن أشحت".

وتضيف: "توفي زوجي (61 عاما) قبل شهرين، وأقيم في منزل صغير غير مكتمل البناء تركه لي والدي المتوفي، منذ عامين، وبينما كان زوجي يعمل في إحدى شركات القطاع الخاص مدة 7 سنوات بمدينة العبور الصناعية بالقاهرة، فوجئت بعد وفاته أنه ليس له معاش، لأن الشركة لم تؤمن عليه إلا 3 شهور فقط قبل بلوغه سن 60 عاما".

وتوضح: "لا أجد سبيلا كي أعيش، وحاولت العمل في ذات الشركة ولم يفلح المسعى الذي حاول فيه بعض زملائه، لكن نصحني البعض في السعي للحصول على معاش والدي المتوفي، ومطلوب مني أوراق كثيرة جدا ومبالغ مالية كبيرة على تلك الأوراق لكي احصل في النهاية على معاش نحو 1500 جنيه، لا يغنيني عن سؤال الناس، خاصة وأنني مريضة سكر وضغط وليس لي علاج من التأمين الصحي".




"حلم الفينو بالنوتيلا"
وفي أحد الأسوق الأسبوعية، تقف سيدة ثلاثينية، تبدو على ملامحها علامات الجمال الريفي الكامن خلف ملابس محتشمة، أمام بائع "مناخل" الدقيق و"غرابيل" القمح والأرز، الدائرية المصنوعة من الخشب وتتنوع بين السلك الواسع والحرير الضيق.

تقول لـ"عربي21": "جئت أبحث عن المناخل والغرابيل، التي اختفت باعتماد الناس على شراء الخبز الجاهز وترك صناعة الخبز البلدي بالأفران الريفية، لكي أخبز للناس مقابل أجر يبلغ 300 جنيه لعمود العيش، وذلك قبل أن أنخل الدقيق بالمنخل الحرير، وذلك قبل أن أنقي القمح والذرة والحلبة مواد صناعة الخبز بالمنخل السلك".

وتواصل: "لم يعد أمامي إلا مساعدة زوجي، لتربية أبنائي، فعمله في مجال المعمار لم يعد يكفي، ولأنه كلما تجمع لدينا مبلغ من المال ضاع مع محاولاته السفر للخارج، ولا نملك مع هذا الغلاء فرصة شراء أية احتياجات لبناتنا الثلاثة بالمرحلة الابتدائية والإعدادية، الذين يحلمون كل صباح برغيف عيش فينو به جبن أو لانشون أو بيض أو نوتيلا مثل زملائهم، بل إننا لا نملك أن نعطي كل واحدة منهن 10 جنيهات لتشتري 2 صاندويتش طعمية أو فول".

"لا بروتين سوى البساريا"
وبينما يخرج محمود (أربعيني)، كل صباح للعمل مرتادا توكتوك نصف عمر يتعطل أغلب الأيام، تخرج زوجته، للعمل في الحقول لجني البرتقال في الشتاء لقاء 30 جنيها تعود بهما إلى السوق لشراء خضروات أو كيلو سمك من البساريا الأقل سعرا (30 جنيه) والذي يمثل لهم مصدر البروتين الوحيد، لتعود سريعا إلى بيتهما قبل عودة أبنائهما الأربعة من المدرسة، حسبما تقول الزوجة لـ"عربي21".


وتضيف: "عندما أعود في سيارة أجرة إلى بيتي تتأف النساء ويتأفف الرجال من رائحة السمك المنتنة، ولكني لا حيلة لي سوى الصبر والعمل مع زوجي، حتى نستطيع أن نكفي أبناءنا عيش حاف، ونكفيهم أجر الدروس الخصوصية، حيث نحرص على تعليمهم ولكن لن نستطيع إدخالهم المدرسة الثانوية وسنكتفي بلا شك بتعليمهم في المدارس المتوسطة الصناعية أو التجارية".

وألمحت إلى أن "الغلاء أتعبنا، ولم يعد هناك مصدر دعم حكومي لنا سوى رغيف الخبز الرديئ الذي يرفضون أكله أحيانا، مع تراجع التموين الذي لا يكفي الزيت والسكر منه الشهر ونضطر لشرائه بأسعار لا نتحملها".




"عقاب حكومي"
تتزامن تلك الأوضاع مع توجه حكومي لاستبدال الدعم العيني أو التموين الحالي الذي يحصل عليه الفقراء والمكون من زيت وسكر ومكرونة وأرز، بالدعم النقدي، وهو ما يتخوف منه المصريون من أن يكون نهاية للدعم، كما يؤكد خبراء أنه إحدى توجيهات صندوق النقد الدولي، بجانب رفع الدعم عن الكهرباء والوقود، ورفع أسعار جميع السلع والخدمات.

وعاود مجلس النواب المصري الاجتماع الاثنين، بعد عطلة امتدت لأسبوعين، ليناقش مشروع قانون "الضمان الاجتماعي والدعم النقدي"، الذي أقر نوابه بالفعل 22 مادة من أصل 44 مادة، وسط رفض خبراء اقتصاد وسياسيين معارضين، بحسب نشرة "إنتربرايز" الاقتصادية.


"البنك الدولي وحد الفقر"
ويؤكد خبراء اقتصاد مصريين أن الحكومة المصرية لا تعترف بمعدلات الفقر الحقيقية في مصر، وتصر على إخفاء النسب الحقيقية لنتائج بحث الدخل والإنفاق، وتصدر فقط نسبا قديمة لا تتسق مع معدلات التضخم وارتفاع الأسعار والغلاء الذي وصلت إليه البلاد بالأعوام الأخيرة.

وعبر صفحته بـ"فيسبوك"، أشار الباحث إلهامي الميرغني، إلى أن البنك الدولي عدل حساب حد الفقر العالمي، موضحا أن "البنك كان في السنوات الماضية يحسب خط الفقر بحوالي 2.15 دولار يوميا، أي 107.5 جنيه يوميا، على أساس سعر الدولار 50 جنيه، وبذلك يكون الدخل الشهري 3.225، وكل ما يقل دخله الشهري عن هذا الرقم يعد من الفقراء".

وبين أن "البنك الدولي قام بعمل حسابات جديدة، احتسب فيها خط الفقر بنحو 6.85 دولار يوميا أي 342.5 جنيه يوميا، وبذلك فإن كل من يقل دخله الشهري عن 10.275 جنيه شهريا فهو فقير، بمعدلات حساب البنك الدولي".

وتابع متسائلا: "فما بالنا بالأجراء الذين لا تزيد أجورهم الشهرية عن 3 آلاف جنيه، وأصحاب المعاشات الذين تقل معاشاتهم الشهرية عن 2000 جنيه، أي 19.4 بالمئة فقط من حد الدخل الذي حدده البنك الدولي"، مبينا أن "هذا للفرد، ما يعني أنه لو هناك أسرة من 4 أفراد يصبح 41.100 جنيه، ولو 5 أفراد يصبح 51.375".

وأكد أنه "منذ العام 2019، لم تنشر مصر نتائج بحث الدخل والانفاق؛ بل وتدخلت جهات أمنية لعدم نشر نتائج بحث الدخل والإنفاق والاستهلاك لعام (2021/2022) والذي كان سينشر عام 2023 عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والاحصاء، أي الجهاز الحكومي للدولة".

وفي إجابته على سؤال "عربي21"، هل معدل الفقر الجديد الذي اعتمده البنك الدولي ينطبق على حالة مصر؟، قال إن "البنك الدولي كان يستخدم مقياسا للفقر والفقر المدقع منذ عام 1990، ثم استحدث مقياسا بالعام 2015، ثم استحدث مقياسا جديدا بالمقارنة مع الدول ذات الدخل المتوسط، ومنذ سنوات صرح بأن 65 بالمئة من الشعب المصري يقع تحت خط الفقر".

وأكد الميرغني، أن "البنك الدولي هو أحد أسباب أزمة مصر الاقتصادية وإغراقها في الديون"، ملمحا إلى أن "رفع نسبة الفقر يعني اغراقنا في مزيد من الديون".

وبحسب صفحة مدونات البنك الدولي، فإن "خط الفقر البالغ 6.85 دولارات هو خط فقر مطلق، يجسد هذا التعريف الموسع للفقر، ويساعد على تقديم صورة أكثر صلة بالفقر في المزيد من المناطق".

وأضاف البنك أن "التركيز الجديد على خط الفقر البالغ 6.85 دولارات يمثل عددا هائلاً من السكان، وحاجة أكثر إلحاحا لمكافحة الفقر العالمي وبناء القدرة على الصمود في عالم أكثر عرضة للمخاطر المناخية والاقتصادية مما كان عليه قبل بضع سنوات".

وأكد أن "توسع تعريف الاحتياجات الأساسية إلى ما هو أبعد من الغذاء والملبس والمأوى، وأصبح يشمل الآن أيضا النظام الغذائي الصحي، والخدمات الصحية جيدة المستوى، والاتصال بالإنترنت، والحصول على الكهرباء، والتعليم، على سبيل المثال لا الحصر".




"60 بالمئة يصارعون"
وفي تعليقه على أوضاع المصريين المذرية مع الفقر، وما يكشفه سقف خط الفقر الجديد الذي أقره البنك الدولي عن فشل الحكومة المصرية وغياب الشفافية وعدم الإفصاح وتراجع تداول المعلومات، تحدث المستشار السياسي والاقتصادي الدكتور حسام الشاذلي، لـ"عربي21".

وقال: "لابد لنا أن نعرف أن أحد أكبر مشاكل الحكومات المتتابعة في مصر هي قصور الشفافية أو انعدامها؛ ولذلك يصعب التخطيط للمستقبل بدون دراسة الماضي أو التعلم من أخطائه".

الشاذلي، الذي يرأس جامعة كامبردج المؤسسية بسويسرا، أضاف: "وحقيقة الأمر أن التحديد الجديد لسقف الفقر عن طريق البنك الدولي، يتماشى مع متطلبات المرحلة الجديدة وزيادة نسبة التضخم، ومع أهداف الحكومات المتحضرة بتحقيق حياة كريمة لمواطنيها حتى هؤلاء الذين يحصلون على حد أدنى للدخل".

ولفت إلى قول المستشار الألماني أولاف شولتس، الاثنين لحزبه " الديمقراطي الاجتماعي"، إنه "طالما يذهبون للعمل فواجب على ألمانيا أن توفر لهم حياة كريمة فألمانيا ليست فقط الأغنياء".

وعن مصر قال الشاذلي: "أما في مصر فأكثر من 60 بالمئة من الشعب يصارعون الحياة بسبب فحش غلاء الأسعار والتضخم الذي ليس له نهاية، وبات غالبية المصريين يبحثون عن وظيفة ثالثة، بعد أن انخفضت مؤشرات جودة الحياة بصورة مرعبة وصار الناس يعدلون من نمط حياتهم الغذائي بتقليل أكل اللحوم أو الكف عنها مما يعكس أي نوع من الحياة يعيشون".


وأوضح أنه "حسب تقرير صحيفة (الغارديان) الأخير، فإن نسبة الفقر في مصر تعدت 30 بالمئة حسب آخر الإحصائيات الرسمية مع 60 بالمئة من الفئات المعرضة أن تنضم حسب نفس التقرير، والتي هي أرقام أقل من الواقع بكثير، ولكنها تؤكد على ضياع جودة الحياة في خضم زيادة الأسعار".

ومضى يقول: "ويبقي السؤال، هل المنهج الاقتصادي المصري يلبي متطلبات الحالة الاقتصادية المصرية مع كون مصر ثاني أكبر دولة مستدينة من صندوق النقد الدولي، بإجمالي 13.5 مليار دولار؟".

وختم حديثه مؤكدا أن "الإجابة هي: (لا)، حيث أن الكارثة الاقتصادية المصرية مرتبطة بحل سياسي شامل، وإصلاحات اقتصادية جوهرية تركز على بناء اقتصاد حر، وتركز على صناعات الإنتاج والتكنولوجية الرقمية، وتتحرر من قيود صندوق النقد الدولي، وتشارك في تحالفات اقتصادية مثمرة، وغير مستغلة، وبدون ذلك فلن يكون هناك حلول مجدية".

"ينطبق على مصر"
وقال الباحث المصري في الملف الاقتصادي حسن بربري: "يظهر بتوقيت إصدار تقرير البنك الدولي حول معدلات الفقر والفقر المدقع قانون الضمان الاجتماعي والتحول للدعم النقدي الذي تطرحه الحكومة المصرية".

القيادي في حزب "التحالف الشعبي"،أضاف لـ"عربي21"، أن "القانون الجديد عرف خط الفقر القومي وخط الفقر المدقع؛ وبناء عليه قامت فلسفته التي تحاول بشكل أساسي تحويل الدعم السلعي الذي يعتمد عليه جزء كبير جدا من الشعب لدعم نقدي غير محدد".

 وأوضح الناشط العمالي، أن "تقرير البنك الدولي، أشار إلى أن الدول متوسطة الدخل، ومنها مصر المصنفة وفقا للبنك كدولة متوسطة الدخل، يشير هنا لأزمة على مستوى الاقتصاد، كون هذا التصنيف جعل مصر دولة غير منخفضة الدخل، وبالتالي لا يمكننا اللجوء لفكرة إسقاط ديون خارجية".

وبين أن "تصنيف مصر كدولة متوسطة الدخل أقصى ما يمكننا الحصول عليه هو التوسع في الاقتراض، وهو ما أصبح صعبا مع تقرير لجنة داخلية للبنك الدولي أكد أن مصر اقترضت بأكبر من حصتها بـ4 أضعاف المقرر لها وفقا لقواعد الاقتراض من صندوق النقد".

ولفت إلى أن "ذلك يتزامن مع قانون الضمان الاجتماعي الذي تحاول الحكومة تمريره على أنه قانون الرحمة والشافية الذي يقضي على الفساد بعملية الدعم السلعي، في حين أن الحقيقة أنه يتخلص من عبئ الدعم على حساب دفع فوائد وأقساط الديون من موازنة الدولة، وأن ضمن شروط صندوق النقد التخلص من دعم الفئات الفقيرة والمهمشة".

وأشار إلى أنه "في القانون تم وضع تعريف لخط الفقر القومي، وفقا لحسبة معينة، وفي معادلة تقترب من حسبة الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء التي نشرت آخر معلوماتها في هذا الإطار عن عامي (2019/2020)، وتوقفت منذ ذلك الحين، كما ذُكر ببعض الأوساط أنه تم إخفاء المعلومات منذ ذلك الحين وحتى (2023/2024)، عمدا".

وأكد بربري، أن "خط الفقر في مصر مختلف عن خط فقر الدول الفقيرة أو منخفضة الدخل"، مشيرا إلى "اعترافات محلية عن خطوط الفقر لدينا من رئيس الجمهورية الذي صرح في تشرين الأول/ أكتوبر 2022، بأن الأسرة المكونة من 4 أفراد يكفيها حاجاتها الأساسية 10 آلاف جنيه، لكنه في شباط/ فبراير 2024، أقر حد أدنى للأجور بـ6 آلاف جنيه، ولدينا أصلا مشاكل في تطبيقه".

وأشار الباحث المصري إلى أن "الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء أقر عام 2020، أن الحد الأدني لدخل المواطن لأسرة من 4 أفراد 10.375 جنيه، وهو رقم أعلى من خط الفقر الذي تعمل عليه الحكومة".

وخلص للقول: "وهذا يؤكد تغاضي حكومي عن رفع مستوى معيشة المواطنين، وسط أزمة اقتصادية طاحنة تدور بدائرة مفرغة دون حلول، ورغم وعود متكررة حول أزمة تنتهي وانفراجة قادمة؛ لكن الأوضاع تشير لمزيد من الاقتراض والفقر والتغول على حقوق العمال والفلاحين وزيادة أسعار السلع والخدمات دون ضابط".

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة سياسة عربية مقابلات حقوق وحريات سياسة دولية المصريين الفقر المصريون البنك الدولي مصر المصريون البنك الدولي الفقر المزيد في سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة البنک الدولی صندوق النقد خط الفقر لم یعد فی مصر إلى أن

إقرأ أيضاً:

مراقب إخوان سوريا الأسبق علي البيانوني يروي سيرته لـ عربي21.. هذه بدايتي

علي صدر الدين البيانوني هو أحد أبرز القادة من الجيل الثاني في جماعة الإخوان المسلمين في سورية، وله دور متميز في تاريخ الجماعة في المرحلة الأخيرة. فقد كان من أبرز القادة الذين تولوا المسؤولية في مواقع مختلفة، في مرحلة الصراع مع حافظ وبشار الأسد. وشارك في العديد من الفعاليات السياسية التي سعت إلى تغيير النظام السوري، كما كان له تأثير كبير في إعادة بناء تنظيم الجماعة في مرحلة بشار الأسد.

نشأ في محضن شرعي وثيق الصلة بالعلوم الشرعية, وبفكر الجماعة منذ صغره، حيث نشأ في بيئة إسلامية وفكرية مشبعة بالقيم الإسلامية. وانضم إلى جماعة الإخوان المسلمين في سن مبكرة وكان من الأعضاء المؤثرين في صفوفها. وشهدت الفترة التي انضم فيها إلى الإخوان توترات سياسية في سورية. حيث كانت الجماعة في سنوات تأسيها الأولى ( 1946- 1963) جزأ حيوياً من المشهد السوري على الصعد الاجتماعية والفكرية والسياسية.. قبل أن تفرَضَ على الجماعة سياساتُ الإقصاء والمواجهة بعد انقلاب الثامن من آذار 1963.

وكان الأستاذ البيانوني أحد كبار القادة من الجيل الثاني، الذين انخرطوا في العمل الدعوي والسياسي للجماعة. ولقد انخرط الأستاذ البيانوني في صفوف الجماعة من عهد الفتوة، وشارك في أنشطتها الاجتماعية والثقافية في البداية، ليصبح من بعد أحد القادة البارزين.

منذ تفجر الأحداث العنيفة في سورية وطفوها على السطح منذ 1979 اضطر جسم الجماعة العام، إلى الهجرة من سورية. فبعد إعلان وزير داخلية الأسد الحرب على الجماعة ببيان رسمي، وبعد صدور القانون 49/ 1980 الذي يقضي بإعدام كل من ينتمي إلى جماعة الإخوان المسلمين، أصبح جسم الجماعة العام بين شهيد وطريد...

في عام 1996 بدأ الأستاذ علي صدر الدين البيانوني ومن معه في إعادة تشكيل هيكل الجماعة، وعادوا إلى النشاط السياسي من خلال المعارضة السياسية السلمية، وعملوا على دمج الجماعة في المشهد السوري العام.

منذ عام 1996 تسلم الأستاذ علي صدر الدين البيانوني موقع المسؤولية الأولى في جماعة الإخوان المسلمين. كانت الجماعة الرازحة تحت نير المحنة المتمادية، ومنها ما تعرضت له الجماعة من انشقاق منذ 1986 تحتاج إلى مراجعات شاملة ومداوة كثير من الجراح. وقد جاء موت حافظ الأسد عام 2000 ، وتولية بشار الأسد للسلطة، ببعض الآمال الكاذبة، لجميع فئات السوريين.

ولقد شهدت الفترة من عام 2000 حتى 2010 العديد من الإنجازات على الصعد التنظيمية العملية والوطنية والمجتمعية...ولعلنا نتابع عناوينها في هذا اللقاء.

ومع اندلاع الثورة السورية في عام 2011، كان البيانوني أحد أبرز الداعمين للثورة والثوار، ولمطالب الشعب السوري في الحرية والعدالة، وكان يرى مع جمهور السوريين الثائرين أن النظام السوري لا يمكن إصلاحه، بل يجب إسقاطه.

كان للبيانوني تأثير كبير في توجهات جماعة الإخوان المسلمين في سوريا، حيث كان يؤكد في خطابه على إعادة بناء الحركة على أسس إسلامية معتدلة. وكان يحث على الوحدة الوطنية والتعايش بين مختلف الطوائف والانتماءات الدينية والعرقية والسياسية، على قاعدة السواء الوطني، ومبدأ المواطنة. ودعا إلى إقامة دولة مدنية ديمقراطية، على أسس العدالة والمساواة واحترام حقوق الإنسان.

الآن وقد تمكن السوريون بعد طول معاناة وملايين الضحايا بين شهداء ومهجرين ومختفين قسريا من إسقاط نظام الأسد وإنهاء الحكم الاستبدادي، الذي جثم على صدر الشعب السوري أكثر من ستين عاماً.. توجهت "عربي21" إلى الأستاذ علي صدر الدين البيانوني، الذي مازال يقيم في منفاه بالعاصمة البريطانية لندن، وبدأت معه في تقليب صفحات الماضي، من أجل التوثيق والتاريخ، في ذاكرة سننشرها في حلقات أسبوعية، في "عربي21".

بقي أن أشير إلى نقطة مهمة قبل البدء في رواية سيرة البيانوني الأقرب إلى الشهادة التاريخية على العصر بلسان أحد صناعه، تتصل بعلاقتي أنا عادل الحامدي بالملف السوري، فقد أقمت في سوريا أعوامًا طويلة، عايشت تفاصيل حياتها، واختبرت نبض شوارعها، حتى غدت جزءًا من تكويني الشخصي والفكري. لم تكن متابعتي للشأن السوري من موقع المتفرج، بل من قلب المشهد، حيث التقيت شخصياته الفاعلة، وحاورت رموزه في أشد لحظات الصراع توترًا.

قبل عشرين عامًا، أجريت حوارًا مع علي صدر الدين البيانوني، وكان حينها في طليعة المعارضة، يخوض معركته ضد نظام بشار الأسد الذي بدا راسخًا في مكانه. واليوم، أعود لحواره مجددًا، ولكن في مشهد مختلف تمامًا؛ فقد سقط النظام، وتحولت السلطة إلى جزء من إرادة الشعب، ليصبح الحديث مع البيانوني شهادة جديدة على تحولات الزمن، بين الماضي الذي كان يبدو ثابتًا والمستقبل الذي أعاد رسم خارطة سوريا.

وقد اخترت في حواري هذه المرة مع البيانوني أسلوب السرد الذاتي لإضفاء طابع شخصي وحيّ على سيرة الرجل. فهو من يتحدث، مستعرضًا محطات حياته من الداخل، وكأننا نعيش تأملاته الشخصية في مسيرته الطويلة مع المعارضة والتغيير.

فكان هذا الحديث:

1 ـ الولادة والنشأة:

اسمي: علي صدر الدين البيانوني، والدي الشيخ أحمد عز الدين البيانوني من علماء حلب ودعاتها، وجدّي الشيخ عيسى البيانوني كان من الرعيل الأول في تخريج العلماء، وكان عالما وشاعرا، وقد غلبت عليه محبة الرسول صلى الله عليه وسلم، ومعظم شعره في المحبة النبوية. ووالدتي عريفة بنت عبد العزيز الدباس.

تشير سجلات الأحوال المدنية إلى أنني ولدت بتاريخ الحادي عشر من كانون الثاني في العام 1937 الميلادي، إلا أن هذا التاريخ هو - في الحقيقة - تاريخ ولادة أخي الأكبر، الذي كان يحمل نفس الاسم، وتوفّيَ قُبَيْل ولادتي، فبقيتُ مسجّلاً على اسمه، كما يشير والدي رحمه الله في مذكّراته، ويشير أيضاً إلى أنني (علي صدر الدين الثاني) ولدتُ يومَ الخميس السابع عشر من جمادى الأولى في العام 1357 الهجري، الموافق للرابع عشر من تموز في العام 1938 الميلادي، في منزل جدّي الشيخ عيسى البيانوني رحمه الله، الكائن في جامع أبي ذرّ، في حيّ الجبيلة، في مدينة حلب.

نشأت مع إخوتي وأخواتي في كنف والديّ رحمهما الله، في جوّ عائليّ إسلاميّ ملتزم، حيث كان والدي الشيخ أحمد عز الدين البيانوني، وأكبرُ أخوالي عادل الدباس رحمهما الله، من مؤسّسي جمعية دار الأرقم، التي كانت هي نواة جماعة الإخوان المسلمين في مدينة حلب.وكنت الولدَ الثاني في الأسرة، بعد شقيقتي الكبرى بشرى أم الفضل (أم صفوح) زوجة الشيخ محمد الحجار رحمهما الله، والتي تكبرني بثلاث سنوات، ولديّ غيرها خمسة إخوة وست أخوات، هم حسب ترتيب ولاداتهم: محمد عبد الله أبو الفتح، ومحمد مطيع أبو المجد، وفاطمة الزهراء، ومحمد غياث أبو النصر، وألوف أم السناء، وخديجة أم الهدى، ومحمد موفّق أبو اليسر، وعائشة أم النّهى، ومحمد سهل أبو اليمن، ومسرّة أم البشر. وهؤلاء جميعاً من والدتي عريفة الدبّاس رحمها الله، ثم أختي الصغرى هبة الرحمن من زوجة أبي السيدة وهيبة الشيخة (أم نصر)، التي ولدت بعد وفاته ـ رحمه الله ـ بشهور في العام 1976 الميلادي.

نشأت مع إخوتي وأخواتي في كنف والديّ رحمهما الله، في جوّ عائليّ إسلاميّ ملتزم، حيث كان والدي الشيخ أحمد عز الدين البيانوني، وأكبرُ أخوالي عادل الدباس رحمهما الله، من مؤسّسي جمعية دار الأرقم، التي كانت هي نواة جماعة الإخوان المسلمين في مدينة حلب.

كان والدي رحمه الله يعمل في مجال التعليم، ويحمل شهادة أهلية التعليم من دار المعلمين في حلب، وكان يولي اهتماماً كبيراً لتعليمنا مختلف العلوم منذ طفولتنا المبكّرة، متدرّجاً فيها حسب أعمارنا، وقد قرأت في مذكّراته أنني أنهيت تلاوة القرآن الكريم عندما كان عمري خمس سنوات. وكان يشرح لنا معانيَ الآيات التي نقرؤها ويطلب منا إعراب بعض الكلمات والجمل، بما يتناسب مع أعمارنا، مما كان له أثرٌ كبير في رسوخ آيات القرآن الكريم، وكثيرٍ من معانيها في الذاكرة منذ الصغر، وفي التمكّن من اللغة العربية وقواعدها.. وعندما كان يبلغ أحدُنا السابعة من عمره، يبدأ بالمواظبة على الصلوات في أوقاتها، مستوعباً جميع أحكامها.. كلّ ذلك بأسلوب تربويّ شيّق، يجعلنا نتقبّل ما نتلقّاه ونؤدّيه بمنتهى الرغبة والسعادة.. ولقد سنّ بعد ذلك، الاحتفالَ بمناسبة بلوغ الطفل السابعة من عمره، وبدء مواظبته على الصلاة، ويدعو لهذا الاحتفال أقران الطفل من الأقارب والأصدقاء.. وذلك تشجيعاً للأطفال، وتحبيباً لهم بالصلاة والمحافظة عليها.

ولقد كان والداي رحمهما الله في سلوكهما وتعاملهما معنا ومع الآخرين، داخل البيت وخارجَه، وفي علاقة كلّ منهما بالآخر، وفي تربيتهم لنا.. أنموذجاً عملياً وقدوةً حسنةً، غرسا في نفوسنا حبّ الخير، وحبّ الله وحبّ رسوله صلى الله عليه وسلم، وطاعتهما، وتعلمنا منهما الكثير من خلال أحوالهم قبل أقوالهم. ولا أنسى كيف أننا عندما كنا نستيقظ للصلاة في فصل الشتاء، نجد الماء الساخن جاهزاً للوضوء، تخفيفاً عنا وتيسيرا..

أما أسرتنا الكبيرة، فكانت تشمل الجدّ الشيخ عيسى البيانوني الذي توفّيَ رحمه الله بتاريخ 25 كانون الأول 1943 الميلادي، في المدينة المنورة، خلال رحلة الحجّ، ودفن في مقبرة البقيع، ثم لحقت به بعد سنوات زوجته نفيسة عقيل (أم شافع), أما جدّتي لأبي فلا أعرفها لأنها توفيت قبل ولادتي. وأعمامي إخوة الوالد، هم: عبد اللطيف، ومحمد بشير، ومحمد شافع. وعمّاتي: نوريّة، وأمينة، وفاطمة، ولطفية التي لا أعرفها لأنها توفّيت من قبل. أما جدّي لأمي فهو عبد العزيز الدباس، وجدتي فاطمة الدباس، وأخوالي: عادل، ونذير، ومحمد، وفؤاد، وأحمد، وصالح. وخالتي الوحيدة حميدة زوجة عبد الوهاب سراج الدين. ولا أنسى كم كانت فرحتنا كبيرة عند زياراتنا المتبادلة مع هؤلاء الأقارب والأرحام.

2 ـ الدراسة:

نظراً لأنني مسجل على اسم أخي، أكبر من عمري الحقيقي بسنة ونصف السنة، فقد دخلت المدرسة الابتدائية مبكّراً، وكنت أصغر طلاّب صفّي في المدرسة (الحمدانية) الابتدائية، ، وكان مديرالمدرسة الحمدانية آنذاك الأستاذ عبد اللطيف المنصوري، وكان أبرز أساتذتي فيها: حمدي الدلاّل، وحمزة الجوخدار، ونعمان النابلسي. ونلت شهادة الدراسة الابتدائية في عام 1949، كما نلت شهادة الدراسة الإعدادية (الكفاءة) من ثانوية إبراهيم هنانو، في عام 1954، ثم نلت شهادة الدراسة الثانوية العامة (البكالوريا) الفرع الأدبي - قسم الاجتماعيات في عام 1957.

كنت ـ بفضل الله ـ متفوّقاً في دراستي، متقدماً على أقراني، لاسيما في ميادين الدين واللغة والأدب، أنافس، على الدرجة الأولى في مختلف الصفوف والمراحل.

التحقتُ بجامعة دمشق في عام 1958، طالباً في كلية الآداب، ثم تحوّلت إلى كلية الحقوق، في عام 1960، وتخرّجت منها عام 1963. وكان من أبرز أساتذتنا في كلية الآداب: الأستاذ سعيد الأفغاني، وفي كلية الحقوق:، الدكتور مصطفى السباعي، والأستاذ العلاّمة مصطفى الزرقا، والدكتور محمد الفاضل، والدكتور رزق الله الأنطاكي، والدكتور معروف الدواليبي والدكتور أحمد السمان..

3 ـ الزواج والأسرة:

تزوجت مبكراً بتوجيهٍ وتشجيعٍ من والدي، في عام 1954، وأنا في السادسة عشرة، من السيدة خديجة بنت الحاج جميل الخراط، وهذا اقتضى أن أدخل الحياة العملية مبكراً أيضاً، فخضعت لدورة في علم المحاسبة التجارية، لأشتغل بعد ذلك محاسباً لأكفيَ نفسي وأسرتي، ولا أثقل على والدي.

التحقتُ بجامعة دمشق في عام 1958، طالباً في كلية الآداب، ثم تحوّلت إلى كلية الحقوق، في عام 1960، وتخرّجت منها عام 1963. وكان من أبرز أساتذتنا في كلية الآداب: الأستاذ سعيد الأفغاني، وفي كلية الحقوق:، الدكتور مصطفى السباعي، والأستاذ العلاّمة مصطفى الزرقا، والدكتور محمد الفاضل، والدكتور رزق الله الأنطاكي، والدكتور معروف الدواليبي والدكتور أحمد السمان..رزقني الله وزوجتي سبعاً من البنين، هم: أنس، وأيمن، وأحمد عز الدين، ومحمد شمس الدين، ومجاهد. وابنتين هما: ميمونة زوجة المهندس الشهيد عبد الإله البعلبكي، رحمه الله، الذي استشهد في سجون الظلمة في دمشق، ثم تزوجَتْ بعد استشهاده من الدكتور أحمد الكوفحي في الأردن. والثانية: ميسون زوجة المهندس الدكتور صالح بن الأستاذ محمد المبارك رحمه الله. وقد بلغ عدد أحفادي وأحفاد أولادي، حتى هذا التاريخ (103) مئة وثلاثة حفيداً وحفيدة، أسأل الله عز وجل أن يجعلهم وآباءهم وأمهاتهم وذرّياتهم قرّة أعين.

4 ـ الخدمة العسكرية:

التحقت بالخدمة العسكرية الإلزامية بتاريخ  3 كانون الثاني 1959 برتبة طالب ضابط  في كلية الضباط الاحتياط، وتخرّجت منها برتبة مرشّح، في نهاية عام 1959، عملت بعدها مدرّباً في مدرسة الصنائع الجوية، حتى منتصف آذار 1961، ورقّيت لرتبة (ملازم) في أول عام 1961. وكانت خدمتي الالزامية خلال عهد الوحدة بين مصر وسورية التي تمّت في 22 شباط 1958، ثم انفصمت بتاريخ 28 أيلول 1962.

ثم استدعيتُ بعد ذلك للخدمة الاحتياطية عدة مرات، كان آخرها في عام 1967، حيث شهدتُ حرب عام 1967، وانسحاب الجيش السوري فيها من هضبة الجولان، بدون قتال، بناء على أوامر وزير الدفاع في حينها حافظ أسد.

5 ـ الحياة العملية:

بدأت حياتي العملية محاسباً في شركة (محمد عبد اللطيف خواتمي وشركائه) بعد زواجي مباشرة في عام 1954، ثم مدرّساً للغة العربية في المدارس الخاصة في حلب في عام 1957، ثم التحقت بالخدمة العسكرية في عام 1959، عدت بعدها في عام 1961 إلى تدريس اللغة العربية في المدارس الخاصة، ثم تمّ تعييني موظفاً إدارياً في (مؤسسة الكهرباء والنقل بحلب) في عام 1962، شغلت فيها وظيفة رئيس مكتب الدراسات، ثم رئيساً لدائرة الشئون الذاتية، ثم رئيساً لدائرة القضايا القانونية، وذلك حتى استقالتي من المؤسسة في مطلع عام 1978، حيث انتسبت إلى نقابة المحامين والتحقت بمهنة المحاماة، وبقيت أزاولها حتى تاريخ خروجي الاضطراري من سورية بسبب الملاحقة الأمنية، في شهر نيسان 1979.

مقالات مشابهة

  • أعمال ثوابها يعدل قيام الليل.. احرص عليها
  • مراقب إخوان سوريا الأسبق علي البيانوني يروي سيرته لـ عربي21.. هذه بدايتي
  • خلال شهر إبريل .. ضبط 21 ألف قضية تسول
  • الجهاز المركزي للرقابة المالية يبحث مع البنك الدولي التعاون في مجال ‏الحوكمة والاستقلالية المؤسسية
  • سعر شراء الدولار في البنك الأهلي المصري يصل إلى 50.80 جنيه
  • البنك الدولي: تباطؤ اقتصادي عالمي وتراجع في أسعار السلع حتى 2026
  • البنك الدولي يتوقع تراجع أسعار السلع الأولية لمستويات ما قبل كورونا
  • البنك المركزي يسحب فائض سيولة بقيمة 740.85 مليار جنيه
  • البنك العربي الأفريقي الدولي يخفض أسعار الفائدة على حسابات التوفير
  • درميش: الهدف من مذكرة التفاهم مع البنك الدولي تنويع مصادر الدخل وإصلاح الميزانية