النيوليبرالية في زمن العولمةو أزمة الفكر ومستقبل النظام الاقتصادي
تاريخ النشر: 17th, December 2024 GMT
شهد العالم خلال العقود الأربعة الأخيرة تحولات اقتصادية واجتماعية عميقة، أبرزها صعود النيوليبرالية كإطار فكري وهيكلي أعاد تشكيل السياسات الاقتصادية العالمية. ظهرت النيوليبرالية بوصفها حركة ثورية محافظة، سعت إلى إعادة صياغة دور الدولة في الاقتصاد، وتقليص تدخلاتها لصالح إعلاء شأن السوق وقيمته المطلقة. غير أن التغيرات العالمية الأخيرة، بما في ذلك الأزمات الاقتصادية المتكررة، وتصاعد التفاوت الاجتماعي، وتزايد الانكماش الاقتصادي، دفعت إلى إعادة تقييم هذا النموذج، وطرحت تساؤلات عميقة حول استمرارية النيوليبرالية وقدرتها على التكيف مع التحديات الجديدة.
الجذور التاريخية للنيوليبرالية
ظهر الفكر النيوليبرالي في منتصف القرن العشرين كرد فعل على تدخل الدولة المتزايد في الاقتصاد، والذي بلغ ذروته في السياسات الكينزية التي أعقبت الحرب العالمية الثانية. شكّلت تلك الحقبة ذروة "دولة الرفاه" التي اعتمدت على تدخل الدولة في إدارة الاقتصاد وتحقيق العدالة الاجتماعية. لكن مع تفاقم الأزمات الاقتصادية في السبعينيات، مثل الركود التضخمي وأزمة النفط، برزت أصوات المحافظين الاقتصاديين، أمثال ميلتون فريدمان وفريدريش فون هايك، داعية إلى تقليص دور الدولة وإطلاق العنان لقوى السوق لتحقيق النمو والازدهار.
هذا الفكر وجد تجسيده السياسي في سياسات قادة مثل مارجريت تاتشر في بريطانيا ورونالد ريغان في الولايات المتحدة. لقد أعاد هؤلاء القادة صياغة دور الدولة من راعٍ اقتصادي واجتماعي إلى جهة تركز على تشجيع المبادرة الفردية وتحرير الأسواق من القيود التنظيمية. كان الهدف هو بناء نظام اقتصادي يعتمد على المنافسة المفتوحة باعتبارها المحرك الأساسي للابتكار والتنمية.
الصراع بين المحافظين والتجديديين في الفكر الليبرالي
لم يكن الانتقال إلى النيوليبرالية سلسًا أو موحدًا، بل شهد صراعًا داخليًا بين التيارات المحافظة والتجديدية. المحافظون دافعوا عن عودة القيم التقليدية للسوق الحر، معتبرين أن تدخل الدولة يؤدي إلى تشويه الحوافز الاقتصادية وتقويض النمو. أما التجديديون، فقد حاولوا المزج بين قيم السوق الحر ومتطلبات العصر الحديث، بما في ذلك الاستدامة البيئية والعدالة الاجتماعية.
لكن الهيمنة الفكرية للمحافظين جعلت النيوليبرالية تتحول من مشروع فكري إلى أيديولوجيا جامدة، تقوم على تقليص الضرائب، وتحرير الأسواق، وتقليل الإنفاق الاجتماعي. هذه السياسات، رغم نجاحها في تعزيز النمو الاقتصادي في بعض الفترات، أدت إلى تفاقم التفاوت الاجتماعي وزيادة هشاشة النظام الاقتصادي العالمي.
الأزمة العالمية وأزمة النيوليبرالية
مع دخول القرن الحادي والعشرين، بدأت النيوليبرالية تواجه تحديات متزايدة. كانت أزمة 2008 المالية العالمية نقطة تحول رئيسية، حيث كشفت هشاشة النظام القائم على تحرير الأسواق بشكل مفرط. في أعقاب تلك الأزمة، تضاعفت الأصوات التي تنادي بضرورة إعادة التفكير في دور الدولة والأسواق، خاصة مع تفاقم التفاوت الاقتصادي وازدياد نفوذ الشركات الكبرى على حساب الديمقراطية والمساواة.
زاد من تعقيد المشهد الاقتصادي والسياسي صعود قادة شعبويين ومستبدين في مختلف أنحاء العالم، الذين استخدموا أزمات النظام النيوليبرالي لتبرير سياساتهم الاستبدادية. هؤلاء القادة استغلوا الغضب الشعبي ضد النخب الاقتصادية والسياسية، التي يُنظر إليها كأداة لترسيخ النيوليبرالية، لإعادة بناء سلطتهم على أسس قومية وشعبوية.
أحدث الكتابات حول نهاية النيوليبرالية
في السنوات الأخيرة، تصاعدت الكتابات التي تتحدث عن "نهاية النيوليبرالية" بوصفها أيديولوجيا مسيطرة. يشير المفكرون إلى أن النيوليبرالية فشلت في تقديم حلول لأزمات العصر الحديث، مثل التغير المناخي، والأزمات الإنسانية الناتجة عن الحروب والهجرة، والانكماش الاقتصادي. الباحث ديفيد هارفي، على سبيل المثال، يرى أن النيوليبرالية لم تكن سوى مشروع سياسي لإعادة توزيع الثروة لصالح النخب على حساب الطبقات الفقيرة والمتوسطة.
أما الفيلسوف الأمريكي نعوم تشومسكي، فيرى أن النيوليبرالية أضعفت الديمقراطية وأفرغت المؤسسات السياسية من قدرتها على تلبية تطلعات الشعوب. بالمقابل، يبرز الاقتصادي توماس بيكيتي في كتابه رأس المال في القرن الحادي والعشرين كيف أن سياسات السوق الحر أسهمت في إعادة إنتاج التفاوت الاجتماعي بصورة متطرفة، مما يهدد استقرار المجتمعات على المدى الطويل.
الرؤية الاشتراكية البديلة
على الجانب الآخر، تجدد الاهتمام بالفكر الاشتراكي كبديل للنيوليبرالية. الاشتراكية تقدم نموذجًا يركز على العدالة الاجتماعية، وإعادة توزيع الثروة، وتعزيز دور الدولة في حماية الفئات الهشة. يدعو الاشتراكيون إلى سياسات مثل زيادة الإنفاق العام على الخدمات الأساسية، وتنظيم الأسواق لمنع الاحتكار، وتحقيق التوازن بين النمو الاقتصادي وحماية البيئة.
لكن الاشتراكية ليست مجرد نقد للنيوليبرالية، بل تقدم رؤية شاملة للمجتمع تقوم على التضامن والتعاون بدلاً من المنافسة الفردية. في هذا السياق، يدعو مفكرون مثل جوزيف ستيجليتز إلى تبني نموذج اقتصادي جديد، يجمع بين كفاءة الأسواق وضرورة تدخل الدولة لتحقيق أهداف اجتماعية مستدامة.
مستقبل النيوليبرالية في عصر العولمة
العولمة، التي كانت الحاضنة الأساسية لصعود النيوليبرالية، تشهد اليوم تحولًا جذريًا. تراجع النظام الليبرالي العالمي القائم على القواعد، وصعود النزعات القومية، يشيران إلى أن العالم قد يدخل مرحلة جديدة تتطلب إعادة صياغة العلاقات الاقتصادية والاجتماعية. السؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل يمكن للنيوليبرالية أن تتكيف مع هذه التحولات، أم أنها ستتلاشى لتحل محلها نماذج جديدة؟
قد يكون الحل في تطوير نموذج هجين، يمزج بين مزايا النيوليبرالية والاشتراكية، مع التركيز على القضايا الملحة مثل الاستدامة البيئية، والعدالة الاجتماعية، وتقليل الفجوة بين الأغنياء والفقراء. هذا النموذج قد يكون السبيل الوحيد لتجنب انهيار النظام الاقتصادي العالمي، وتحقيق توازن جديد بين السوق والمجتمع.
النيوليبرالية، التي هيمنت على الفكر الاقتصادي العالمي لعقود، تواجه اليوم اختبارًا مصيريًا. الانكماش الاقتصادي، وتصاعد التفاوت الاجتماعي، وصعود القومية، جميعها مظاهر لأزمة أعمق تتعلق بفشل هذا النموذج في تحقيق التوازن المطلوب بين السوق والإنسانية. في المقابل، تقدم الاشتراكية رؤية بديلة ترتكز على العدالة الاجتماعية وحماية الفئات الهشة.
بينما يستمر الجدل بين المحافظين والتجديديين، يظل التحدي الأكبر هو كيفية بناء نظام اقتصادي عالمي جديد يحقق التوازن بين النمو الاقتصادي والاستقرار الاجتماعي. النيوليبرالية ليست نهاية التاريخ، لكنها بالتأكيد فصل مثير فيه، وما سيأتي بعدها قد يحمل بذور عالم أكثر عدالة واستدامة
zuhair.osman@aol.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: تدخل الدولة دور الدولة
إقرأ أيضاً:
أزمة الطلاب السودانيين في تشاد تثير جدلا بمنصات التواصل
تفاعلت منصات التواصل الاجتماعي السودانية مع إعلان مسؤول سوداني أن سلطات تشاد رفضت السماح لآلاف الطلاب السودانيين هناك بأداء الامتحانات، حيث حمّل البعض الحكومة السودانية المسؤولية عن ذلك.
وأعلن مالك عقار، نائب رئيس مجلس السيادة الحاكم بالسودان، أن السلطات التشادية رفضت السماح لـ13 ألف طالب سوداني بأداء امتحانات الشهادة الثانوية السودانية -المقررة نهاية الشهر الجاري- على أراضيها، ما يضع مستقبل هؤلاء الطلاب في مهب الريح.
وأظهر مقطع فيديو تداوله ناشطون على منصات التواصل الاجتماعي عقار وهو يوضح أن عملية الترتيب لعقد امتحانات الشهادة الثانوية تمضي بصورة جيدة، لكنها تواجه مشكلة واحدة وهي أن "حكومة تشاد رفضت امتحان الطلاب في مدينة أبشي"، معتبرا ذلك "جزءا من الحرب الرامية إلى تدمير السودان"، على حد قوله.
وبذل الطلاب السودانيون اللاجئون بتشاد خلال الشهور الماضية جهودا مضنية لتجهيز أنفسهم للجلوس للامتحانات المقررة في نهاية الشهر الحالي، رغم النقص الحاد الذي يواجهونه في الموارد الأساسية للعملية التعليمية، المتمثلة في الفصول والكتب الدراسية والطباشير والمياه وغيرها من المستلزمات الأخرى.
وأظهرت مقاطع مصورة سابقة جانبا من معاناة الطلبة اللاجئين في تشاد، خلال حصولهم على التعليم، ومنهم من طالب آنذاك بمساعدتهم لإتمام دراستهم الثانوية، خاصة في ظل الظروف الصعبة التي تعاني منها بلادهم باستمرار الحرب.
إعلانوبحسب المفوضية الأممية السامية لشؤون اللاجئين، فإن شهر أكتوبر/تشرين الأول الماضي وحده شهد لجوء نحو 60 ألف سوداني إلى تشاد في أعقاب تصاعد حدة القتال في إقليم دارفور، حيث تجاوز إجمالي عدد اللاجئين 1.1 مليون شخص، كـ"أكبر تدفق للاجئين تشهده تشاد في تاريخها".
وأثارت تصريحات المسؤول السوداني ردود فعل واسعة على مواقع التواصل الاجتماعي بين مهاجم ومشكك بشأن ما أثير حول قرار الرفض، إذ اعتبرها مدونون فرصة للتساؤل عن الخدمات التي قدمتها الحكومة السودانية للطلاب داخل البلاد في ظل الحرب، في حين اعتبره البعض "نتاجا طبيعيا لهجوم قيادات الحكومة السودانية على تشاد، واتهامها بالتورط ونقل أسلحة إلى الدعم السريع عبر المعابر الحدودية"، وفق تعبيرهم.
وكتب المدون عماد الجيلي عبر إكس "نتمنى أن تكون الامتحانات في موعدها، مع توفر حلول لاحقا للطلبة والطالبات الذين لم يجلسوا في الزمن المحدد، ولن تفشل الدولة -بإذن الله- في عقد الامتحانات في مواعيدها داخل السودان وخارجه". بينما قالت المدونة أحلام الفيل "عدد الطلاب كبير جدا، لازم الدولة يكون عندها حل لهم".
حقد حسد منعا للامتحان، نتمنى أن تكون الامتحانات في موعدها، وحلول في وقتها للطلبة والطالبات من لم يجلس في هذا الزمان. ولن تفشل الدولة بإذن الله في تغير العملة وعقد الامتحانات في مواعيدها في السودان وخارجه، وتفشل جميع خطط الجنجويد وتقدم الإرهابيتين. #سودنا????????فوق رغم أنف الحاقدين
— Emad Aljalli (@EmadAljalli) December 15, 2024
حديث نائب رئيس مجلس السيادة بأن تشاد رفضت جلوس 13 الف طالب سوداني لامتحانات الشهادة السودانية في تشاد ده مستوي عدواني جدا مقيت جدا من دولة تشاد.
هؤلاء مجرد طلبة ما عندهم ذنب في حرمانهم من الجلوس للامتحانات ومن المفترض يكونوا خارج اي مشكلة بين الحكومتين
دولة تشاد شوية شوية… pic.twitter.com/rbkXNuKzTm
— Shukri (@shukrisudani) December 14, 2024
دا عدد كبير جدا، لازم الدولة يكون عندها حل ليهم.
متوقع جدا ترفض تشاد وهي بتعادينا
— Elham Elfeel (@ElfeelElham) December 15, 2024
دا عدد كبير جدا، لازم الدولة يكون عندها حل ليهم.
متوقع جدا ترفض تشاد وهي بتعادينا
— Elham Elfeel (@ElfeelElham) December 15, 2024
من أنتم تسبون وتشتمون تشاد في كل منابركم ثم تطالبون منه الخدمات، علما بأن آلاف من السودانين امتحنوا في تشاد ومع ذلك لا تعترفون بالجميل.
اذهبوا إلى مصر
— Souleyman (@Souleymh) December 14, 2024
إعلان