مؤمن الجندي يكتب: عرّافة الكواكب في شقة "سِباخ"
تاريخ النشر: 17th, December 2024 GMT
في زاوية معتمة من مساء صاخب، جلست العرّافة تملأ صفحاتها بنبضات المستقبل.. مرّت أصابعها المرتعشة فوق كرة بلّورية، وهي تهمس بما لا يُفهم ولا يُقال! إنها ليلة التنجيم، حيث يجلس البعض معتقدًا أن الكون قد باح بأسراره لأولئك الذين يقرأون خطوط السماء.
مؤمن الجندي يكتب: قائد على حافة الانفجار مؤمن الجندي يكتب: حين تتلاشى الألوانخرجت إلينا عبر شاشات مضاءة ومنصّات مسكونة بالفضول.
الأهلي، النادي العريق، كما اعتاد يملأ البطولات حضورًا، لكنه في ذلك العام سيغيب! فلا منافسة ولا كأس، لن يشارك من الأساس لكن في كلماتها الواثقة صُنعَت البطولة ونُسجت الحكاية.. حكاية تُذكّرك بما لا تراه العيون ولا تصدّقه العقول.
توقفت الجماهير أمام هذا المشهد المربك، أهو كشفٌ للغيب أم وهمٌ تجمّل؟ لعل العرّافة اعتقدت أن الناس أسرى للغموض، وأنّ كرةً زجاجية قد تسوّق الوهم كحقيقة.
غير أن الحكايات الساذجة تنهار دائمًا تحت ثقل الواقع.. لا نبوءة تُزهر في حقلٍ بلا بذور، ولا كأس يُرفع دون أن يمر عبر الملاعب، والعرّافة التي تصرّفت كملكة للأسرار، كشفت عن جهلها على الملأ.
فكرة "معرفة الغيب" باتت سلعة رائجة! تُباع في المقاهي الصامتة، وعلى ألسنة المتنبئين الزائفين، لكن بين أوراق الحقيقة.. الغيبُ لا يملكه إلا مَن خلق السماء، والغرور وحده يدفع البعض لتقمص دور الإله.
أغلقت العرّافة بابها.. ربما تراجعت، أو ربما هي تبحث عن تنبؤ آخر لعلّه ينقذ ما تبقّى من سُلطانها الموهوم! ولكن الأكيد أن ذاكرة الناس تحتفظ باسمها كشاهدة على قصة خاسرة.. قصة نبوءة كشفت كذب أصحابها قبل أن تبدأ.
قصة خاسرة لعرافة موهومةفي مشهد العرّافة الذي ظهر لنا في برنامج تليفزيوني شهير، تتجلى صورة أخرى من عالم "شقة الخرافات" الشهيرة لعم "سباخ" في فيلم البيضة والحجر، حيث تحوّلت الشقة إلى معبد للأوهام، وملاذ للباحثين عن حلول في ظلام العقول.. تمامًا كما صنع "سباخ" من اللاشيء أسرارًا تُباع، صنعت العرّافة من كلماتها المرتعشة بطولة لا وجود لها، لتعيدنا إلى نفس الدائرة؛ دائرة استغلال السذاجة وبيع الوهم المغلف بغلاف الغيب والمعرفة المزعومة! لكن كما كشف "حسن" بعبقرية أحمد زكي حقيقة التلاعب بالعقول، يفضح الواقع اليوم كل عرّاف متكئ على الجهل، وكل كرة بلّورية تحاول أن تخفي وراءها فراغًا كبيرًا.
في النهاية، العرافون وأشباههم ليسوا سوى سراب يتراقص أمام أعين السذّج، يبيعون الوهم ويلبسون ثوب المعرفة الزائفة.. الغيبُ بيد الله وحده، ومن تسوّل له نفسه ادعاءه يعبث بالعقول والقلوب! احذروا أن تسلّموا مصائركم لأيدي الدجالين؛ فالخرافة لا تصنع مستقبلًا، بل تسرق الحاضر وتشوّه الحقيقة.
للتواصل مع الكاتب الصحفي مؤمن الجندي اضغط هنا
المصدر: بوابة الفجر
كلمات دلالية: الأهلي الزمالك الدوري المصري كاس مصر العرافة برنامج توك شو مؤمن الجندی
إقرأ أيضاً:
د. محم بشاري يكتب: استئناف العمران الإنساني من التجزيء المعرفي إلى التكامل القيمي
يشهد عالم اليوم حالة من التشظي في أنساق التفكير وفلسفات الفعل، حيث تزداد الفجوة اتساعًا بين ما تنتجه المعارف من أدوات، وما يفتقده الإنسان من معنى. فالعلوم الحديثة، على ما بلغت من دقة وتقدم، لم تُفلح في إنقاذ الإنسان من التيه الوجودي، ولا في حمايته من الاغتراب المتعدد الوجوه: اغتراب عن ذاته، عن مجتمعه، عن الأرض، وعن الغاية. ذلك أن المعرفة حين تنفصل عن القيم، تتحول من محرّك للتحرر إلى أداة للهيمنة، ومن وسيلة للعمران إلى سبب في الانحدار الأخلاقي والبيئي.
لقد قامت الحداثة الغربية على مشروع معرفي وضع الإنسان في مركز الكون، لكنه جرده من أبعاده الروحية، وربطه بنموذج وظيفي اختزله في حاجاته البيولوجية، وغرائزه الاقتصادية، وغروره العقلي. فكان أن نشأت علوم إنسانية تُحلل الإنسان دون أن تُنصت لندائه الداخلي، وتُشخّص المجتمع دون أن تُعنى بضميره الجمعي، وتُخطط للتنمية دون أن تضع العدالة في صلب المفهوم.
وفي المقابل، عانت كثير من النظم الإسلامية من انكماش في آليات التفاعل مع هذه العلوم، فتقوقعت بعض الخطابات الدينية داخل تراث منغلق، يُعيد إنتاج ذاته دون مساءلة، ويفصل بين النص وسياقه، وبين الفهم والتحول. وهكذا تكرّس الانفصال بين علوم الإنسان وعلوم الوحي، وتعمقت الازدواجية في الفكر والمناهج، إلى الحد الذي بات فيه العقل المسلم يتنقل بين منطقين: أحدهما روحاني بلا أدوات، والآخر تقني بلا مقصد.
لكن التحولات العالمية التي نعيشها – من أزمات المناخ، وتآكل الأسرة، وتنامي العنف، وتفكك الروابط الاجتماعية – أعادت طرح السؤال من جديد: كيف يمكن للإنسان أن يُعيد ترتيب العلاقة بين ما يعتقده وما يعقله؟ بين ما يهتدي به وما يحلله؟ بين الغايات الكلية والأدوات الجزئية؟ إنه سؤال يستدعي مشروعًا حضاريًا جديدًا، لا يكتفي بالتوفيق الظاهري بين الحقول، بل يسعى إلى بناء تكامل معرفي غائي، يجعل من القيم روحًا للمعرفة، ومن الوحي إطارًا للتوجيه، ومن الإنسان محورًا للتنمية.
ليس المقصود من هذا التكامل أن تُسْلَمَن العلوم، ولا أن تُدَجَّن النصوص لتُخضع لمنطق الواقع. بل هو فعل مزدوج: تحرير للعلم من العمى الأخلاقي، وتفعيل للوحي في الواقع من خلال مناهج تحليلية حديثة. إنها دعوة إلى تجاوز الصراع التقليدي بين النقل والعقل، والارتقاء إلى مستوى “العقل المؤيَّد بالوحي”، و”الوحي المنزَّل للعقل”.
ضمن هذا الأفق، تغدو التربية أول مجال لهذا التكامل، لأن المدرسة ليست مصنعًا للمعرفة فقط، بل فضاء لتشكيل الرؤية الإنسانية. المطلوب إذن أن يُعاد بناء المناهج على أساس إنساني قيمي، يستثمر في العقل النقدي دون إهمال التزكية، ويستدعي نظريات علم النفس المعاصر دون أن يُقصي سنن الفطرة ومقاصد الشريعة. كما أن الإعلام، وهو صانع الوعي الجمعي، يجب أن يتحرر من سطوة السوق ونماذج الاستهلاك، ويُعاد توجيهه ليصبح حاملًا لقيم الرحمة، والكرامة، والعدالة، بدلًا من أن يكون مرآة مشوهة لعالم بلا مرجعيات.
أما في ميدان الاقتصاد، فإن الأزمة الأخلاقية التي تعصف بالأنظمة الرأسمالية تفتح المجال أمام اجتهاد مقاصدي يُعيد الاعتبار لمفاهيم مثل التكافل، والتوزيع العادل، والاستثمار النزيه، والإنفاق المسؤول. فالنمو في المنظور الإسلامي ليس تراكمًا كميًا، بل تحقق بركة، ومشاركة، واستدامة. وهو ما يُفسح المجال لنقد بنّاء للمنظومة الاقتصادية العالمية، دون الانغلاق على الذات.
ويبقى الإنسان في صلب هذا المشروع: لا بوصفه “فردًا اقتصاديًا” أو “مستهلكًا رقميًا”، بل ككائن كرّمه الله، وجعله مستخلفًا، ومكلفًا، ومسؤولًا. من هنا، فإن أي علم يتناول الإنسان، من علم النفس إلى الأنثروبولوجيا، ينبغي أن يُراجع أدواته ونماذجه من منظور قيمي يؤمن بأن الإنسان ليس مجرد سلوك يُقاس، بل روح تُزكّى، وضمير يُهذّب، وعقل يُسائل.
نحن اليوم أمام لحظة تاريخية تقتضي استئناف مشروع العمران الإنساني، لا بوصفه بناءً ماديًا، بل بوصفه فعلًا معرفيًا أخلاقيًا جامعًا. وهذه اللحظة تفرض على علماء الأمة، ومفكريها، ومؤسساتها، أن يرتقوا إلى مستوى التحدي، وأن يُبلوروا نموذجًا تكامليًا بين علوم الإنسان وعلوم الوحي، يكون أساسًا لرؤية تنموية شاملة، ويمنح الإنسان المعاصر أفقًا جديدًا لفهم ذاته، وصياغة مستقبله، وإعادة الوصل بين العقل والروح.