جذوة ثورة ديسمبر لن يطفئها رماد الحرب
تاريخ النشر: 16th, December 2024 GMT
جذوة ثورة ديسمبر لن يطفئها رماد الحرب
حيدر المكاشفي
كتب أحد غلاة البلابسة من مسعري الحرب وقارعي طبولها ونافخي كيرها و(محمشي) نيرانها، يهدد ويتوعد ثوار ديسمبر بأنهم حتى لو قدر لهم العودة إلى الخرطوم بعد نهاية الحرب فلن يستطيعوا ترديد هتاف مدنياااا، وقد صدق هذا البلبوسي وهو كذوب، فهو قد صدق لأن الذي اتضح جلياً وبجملة من الشواهد والأدلة، أن أحد أهم أهداف هذه الحرب القذرة اللعينة، هو هدفها المركزي القضاء على ثورة ديسمبر وإخراس الثوار، وأن هذه الحرب موجهة بالأساس لمحاربة القوى المدنية والسياسية الداعية للحكم المدني الديمقراطي، وليس مليشيا الدعم السريع كما يتوهم بعض (المخمومين) والغشيمين، المنساقين كالقطيع بلا وعي ولا تدبر ولا تفكر خلف مزاعم الكيزان والفلول مشعلي الحرب، ومن عجب فما من حديث مكتوب أو ملفوظ يصدر من هؤلاء إلا وتجده موجهاً بالأساس لسب وشتم وشيطنة القوى المدنية والديمقراطية، وليس ضد الدعم السريع الذي أعلنوا صراحة وتلميحاً أن لا مشكلة لديهم معه ويمكن أن يتصالحوا ويتحالفوا معه أن عاد كسابق عهده إلى موالاتهم وحمايتهم، أما أن هذا البلبوسي كذوب ذلك أنه يظن واهماً أن حربهم هذه ستقضي على الثورة بكل أهدافها وعلى الثوار بكل شعاراتهم وهتافاتهم، ولكن هيهات فجذوة الثورة ستبقى مشتعلة ومتوهجة ولن يخمدها رماد حربهم القذرة.
وستهل علينا يوم الخميس القادم الموافق التاسع عشر من ديسمبر، ذكرى ثورة ديسمبر المجيدة التي شهدت ملاحم بطولية قادها شباب وثاب وواعي، ويطيب لنا هنا في مقام الذكرى والتذكير، أن نعرض في إيجاز ما حدث ما بين ديسمبر 2018 وابريل 2019، ففي ديسمبر من العام 2018 وطوال أربعة أشهر إلى ابريل 2019، انطلقت بلا توقف التظاهرات الرافضة لحكم جماعة (الإنقاذ) الذي امتد لثلاثين عاما حسوماً، وشهدت بعض الأماكن عمليات حرق لمقار حزب المؤتمر الوطني المحلول، وكانت تلك التظاهرات الحاشدة التي عمت كل البلاد بدءاً من الولايات، تلتزم بالجدول الثوري الذي كان يعلنه تجمع المهنيين وتلتزم بتنفيذه، وكانت التظاهرات تبدأ بإطلاق إحدى الكنداكات زغرودة مجلجلة، وكانت شعارات الثوار تتمحور حول إسقاط النظام، وكانوا يرددون هتافاتهم المركزية (حرية سلام وعدالة) و(سلمية سلمية ضد الحرامية) و(تسقط بس) و(حكومة الجوع تسقط بس) و(حكومة البطش تسقط بس) و(الشعب يريد إسقاط النظام)، إلى آخر تلك الشعارات والهتافات الهادفة إلى إطاحة النظام الفاسد والقمعي واستبداله بنظام مدني ديمقراطي كامل الدسم، عبر عنه شعارهم الأثير (عسكرية ااااوين يا.. مدنية وي وي وي)، وكان أن لجأت سلطات البطش والقمع في محاولة يائسة منها لإخماد الثورة، بضرب المتظاهرين بالرصاص الحي والاستخدام الكثيف للغاز المسيل للدموع، فسقط جراء هذا العنف المفرط عشرات الشهداء ومثلهم من المصابين، علاوة على اعتقال أعداد كبيرة من المتظاهرين والناشطين في مؤسسات المجتمع المدني وقيادات الأحزاب المعارضة، ووقتها أكدت منظمة العفو الدولية أن 37 متظاهراً قتلوا بالرصاص منذ بدء الحراك، كما دعت كل من المملكة المتحدة والولايات المتحدة والنرويج، النظام إلى تجنب إطلاق الرصاص الحي على المتظاهرين والاعتقال التعسفي والقمع، ليضطر الرئيس المخلوع عمر البشير بعد هذه الضغوط الشعبية والدولية، للظهور للرأي العام ليعلن عن نيته إجراء ما أسماه (إصلاحات جدية)، في محاولة لإخماد الثورة وامتصاص الغضب الشعبي والقلق الدولي، وبالطبع وكعادته لم ينس المخلوع أن يتهم من يتوهم أنهم خونة وعملاء ومرتزقة، يعملون على تخريب مؤسسات الدولة، متبجحاً بأن الاحتجاجات لن تؤدي إلى إسقاط النظام وتغييره، وتمثلت إصلاحاته الجدية التي وعد بها، في إعلان حالة الطوارئ وإقالة رئيس الوزراء معتز موسى وتنصيب محمد طاهر ايلا بدلا عنه، وإقالة وزير الصحة وتقديمه كبش فداء للارتفاع الكبير في أسعار الأدوية وتسليم رئاسة الحزب لأحمد هارون، ولكن كل تلك الإصلاحات المزعومة لم تزد الشارع إلا اشتعالاً، ولم تغير في واقع الحكم شيئاً غير أن تزيد السلطة من جرعات العنف المميت وتوسيع دائرة الاعتقالات والتضييق أكثر على حرية الرأي والحريات الصحفية، إذ سحبت السلطة تصاريح العمل الممنوحة للمراسلين والصحافيين العاملين في وسائل إعلام وصحف خارجية، هذا غير التضييق المستمر على الصحف المحلية بالمصادرات المتكررة، ورغم كل ذلك استمرت الثورة في عنفوانها بلا نكوص أو انتكاس رغم العنف والبطش وسقوط الشهداء، إلى أن تكلل زحف الثوار بكل عزيمة وإصرار بالوصول إلى حرم ومحيط القيادة العامة للجيش وإقامة اعتصام في محيط القيادة، (وتلك ملحمة أخرى سنأتي عليها لاحقاً إن شاء الله)، وتواصل الاعتصام حتى (حدس ما حدس) في عملية فض الاعتصام القذرة، وما تلى ذلك من أحداث ومرور مياه كثيرة آسنة تحت الجسر، وصولاً إلى مرحلة انقلاب اكتوبر (2021) والحرب اللعينة الحالية.. وما قصدنا من هذه الفذلكة السريعة والمختصرة لآخر أربعة أشهر من عمر النظام المباد، إلا للتأكيد على أنها تشبه تماماً ما حدث في انقلاب اكتوبر وما يجري الآن في حرب أبريل القذرة، وكأنما يعيد التاريخ نفسه، فما حدث إبان نظام المخلوع البشير هو عينه الذي يحدث الآن منذ انقلاب اكتوبر وحتى يوم الحرب هذا، ولكن الانقلابيين لا يتعظون ولا يقرأون حتى التاريخ القريب، بل الأنكى أنهم لا يتعلمون، فالثورة ماضية وعائدة وراجحة حتى بلوغ أهدافها بإرادة الثوار والشعب الذي هو أقوى من أي ردة..
الوسوماعتصام القيادة العامة البلابسة الجيش الحرب الدعم السريع السودان الشهداء القوى المدنية ثورة ديسمبر المجيدة معتز موسى نظام الإنقاذالمصدر: صحيفة التغيير السودانية
كلمات دلالية: اعتصام القيادة العامة البلابسة الجيش الحرب الدعم السريع السودان الشهداء القوى المدنية ثورة ديسمبر المجيدة معتز موسى نظام الإنقاذ ثورة دیسمبر
إقرأ أيضاً:
فرنسا تتربص للجزائر
علي بن مسعود المعشني
ali95312606@gmail.com
العقلية الاستعمارية لا تعرف السكينة ولا الهدوء، خاصة تجاه مُستعمراتها السابقة، كما لا تعرف العقلية الاستعمارية السيادة ولا النِّدية في علاقاتها مع الآخر، ولا تحترم مصالح الآخرين. والاستعمار الفرنسي أقذر ما ابتُلِيَت به البشرية المُعاصرة في تعامله وحروبه وجرائمه النكراء والتي تفوق جميع الاحتلالات على الإطلاق.
العقلية السياسية الفرنسية والعقيدة العسكرية الفرنسية لا تُقيمان أي وزن للإنسان ولا للقيم ولا الأخلاق ولا الحريات ولا الحقوق في تعاملها مع الآخر الذي لا يشبهها، رغم ضجيجها بقيم "الثورة" الفرنسية وتشدقها بتاريخها. وفي عام 1830م، قام القنصل الفرنسي بزيارة الداي حسين الوالي العثماني على الجزائر، وكانت الجزائر حينها خاضعة لحصار بحري فرنسي منذ عام 1827م، وطلب منه على ما يبدو نفوذًا فرنسيًا في الجزائر، فاشتد النقاش بينهما حتى غضب الوالي ورمى مروحة بيده في وجه القنصل الفرنسي، فوجدتها فرنسا ذريعة لغزو الجزائر واحتلالها، وكانت الجزائر حينها في أوهن حالاتها العسكرية بعد دعم أسطولها البحري للعُثمانيين في حروبهم وخسارتهم لجزء كبير من هذا الأسطول الأسطوري، علمًا بأنَّ غزو الجزائر واحتلالها من قبل فرنسا مُخطط له من عهد نابليون.
دخلت جحافل الجيوش الفرنسية الجزائر وتوسع احتلالها تدريجيًا من السواحل إلى العمق، وقاوم الجزائريون ذلك الاحتلال طيلة وجوده، وفقدوا 10 ملايين شهيد إلى حين تحقق لهم النصر على يد آخر الثورات، ثورة جبهة التحرير الوطني الجزائرية (1 نوفمبر 1954م – 5 يوليو 1962م). "الغريب" أنَّ هذا الاحتلال وغيره خرج بموافقة صريحة ومباركة وبإجماع من تحت قبة البرلمان الفرنسي، ممثل "الشعب" و"سليل" ثورة القيم والحرية والعدالة! خروج فرنسا من مستعمراتها لم يكن بلا ثمن أو مقابل بكل تأكيد؛ بل باتفاقيات وملاحق سرية وعلنية مُحدَّدة بمضامين وزمن، جعلت من استقلال تلك المُستعمرات ناقصاً وتحريراً ناقصاً كذلك، وكانت المساومة الفرنسية بقدر وجعها من مقاومة هذا الشعب أو ذاك؛ حيث أجبرت فرنسا 14 دولة من مستعمراتها السابقة على التعامل بالفرنك الفرنسي، ووضع مدخراتها في البنك المركزي الفرنسي، مع شرط السماح لها باستغلال مناجم الثروات الطبيعية ونهبها في تلك البلاد، الأمر الذي وضع فرنسا في خانة أعلى الاحتياطيات في العالم من بعض المعادن الثمينة كالذهب مثلًا، وهي لا تنتج جرامًا واحدًا منه على جغرافيتها!
كلما جاعت فرنسا فكّرت بالعودة إلى عقلية ومخططات استعمارها القديم مع فارق الزمن والوسائل. واليوم فرنسا جائعة بحق، وتحاصرها بذور الفناء، خاصة بعد استنزافها بدعم أوكرانيا ثم طردها وتهديد مصالحها في دول الساحل والصحراء وغرب القارة الأفريقية. لهذا تبحث فرنسا اليوم عن فريسة تنقض عليها بلغة اليوم ووفق الأجندة الغربية المعاصرة للنيل من البلدان وسيادتها وتطويعها ترهيبًا وترغيبًا. جزائر اليوم ليست جزائر الداي حسين بكل تأكيد؛ فهي دولة عصرية تمتلك كل عناصر القوة البشرية والعسكرية والاقتصادية والنفوذ السياسي، لهذا لن يجرؤ الفرنسي على مواجهتها؛ بل سيسعى للغدر بها وبمساعدة الجوار الجزائري والناتو معًا. لهذا سيبحث عن أي ذريعة للحصار الاقتصادي أولًا، بقصد إجهاد الدولة وتحللها تدريجيًا، وكما حدث للعراق وليبيا وسوريا؛ حيث نجحت الحصارات الغربية في بلوغ مراميها وبأيادٍ عربية للأسف الشديد، لهذا ما يزال مخطط الحصار ناجحًا ومؤثرًا جدًا في زمن الانحطاط الرسمي العربي.
لا شك أنَّ الجزائر مستعدة جيدًا لهذا السيناريو، ولديها العديد من الأوراق الوقائية والمقاومة لإفشاله أو الحد من تأثيره؛ منها التلويح بورقة الغاز الجزائري وقطع إمداداته إلى عدد من العواصم الأوروبية وعلى رأسها مدريد (المستفيد الأول والأكبر من الغاز الجزائري). ولعل ذلك يُفلح في موقف إسباني شبيه بالموقف الايطالي من حصار ليبيا في قضية لوكيربي الشهيرة؛ حيث استخدمت روما الفيتو؛ كونها تعيش وتقتات على النفط الليبي؛ فاستمر تدفق النفط الليبي بسلام إلى إيطاليا طيلة سنوات الحصار الغربي. كما يمكن للدبلوماسية الجزائرية بنفوذها إحداث اختراقات في جدار الحصار من قبل دول الجوار وأصدقاء الجزائر في الاتحاد الأفريقي ومنظومة عدم الانحياز. وإذا غُلبت الروم وبلغت الحلقوم، فمن غير المُستبعد أن تقوم الجزائر بنقل المعركة إلى قلب باريس، وكما كان عليه الحال إبان ثورة التحرير؛ حيث أجبرت الثورة الجزائرية فرنسا على التفاوض بعد نقل المعركة إلى قلب باريس.
قبل اللقاء.. شخصيًا لا أعترف بالثورة الفرنسية بأنها ثورة قيم وحرية وعدالة؛ فالتاريخ المتداول يقول إنها ثورة جياع ينشدون الخبز، واقترحت عليهم ماري أنطوانيت باستفزاز أن يأكلوا البسكويت بديلًا عن الخبز!! فخرجت الجماهير للشارع، وبقيت ما تسمى بـ"الثورة" بلا قيادة ولا مشروع ولا هدف، طيلة سبعة عشر عامًا!
وبالشكر تدوم النعم.