مثلي لا يرى مبررا للقلق من الوضع السوري على مصر، لكن القوم قلقون!
في الأسبوع الماضي كتبت أنه لا داع القلق، ويبدو أن هذا كان باعثا لمزيد من القلق بدلا من أن يبعث على الاطمئنان!
فعلى غير العادة عقد الجنرال لقاء مع ثمانية من أذرعه الإعلامية مساء، وهو لا يميل للعمل في هذا الوقت المتأخر، فحتى ليلة القدر يحتفل بها صباحا، خلافا لطبيعتها (ليلة القدر) أو مع تقاليد الدولة المصرية.
ولا نعرف لماذا "ثمانية فقط"، منهم مقدمو برامج، ورؤساء تحرير، وأعضاء في الهيئات الإعلامية بدون رؤسائها، فليس لقاء مع كل مقدمي البرامج، أو كل رؤساء التحرير، أو كل رؤساء وأعضاء الهيئات الإعلامية ولو من باب التهنئة بالتشكيل الجديد، والمعنى أنه ليس للاجتماع عنوان، ولم يهتموا بأن يكون له مبرر، ولو بدعوة نقيب الصحفيين وأعضاء المجلس بمناسبة انعقاد المؤتمر العام السادس للنقابة!
الأعصاب المنفلتة:
لقد بدا أن ترتيبات اللقاء تمت على عجل، وعلى قاعدة من يرتدي ملابسه الآن يحضر فورا، فلا وقت أمامنا للانتظار، وإن لم يكن الأمر تم على هذا النحو، فالمعنى أن الثمانية هم من طلبوا اللقاء، لاستشعارهم القلق، ولحاجتهم لمن يبث الطمأنينة في قلوبهم!
منذ أن سقط النظام في سوريا والأعصاب في مصر منفلتة، ويركز بعض الإعلاميين في خطابهم على أن الجيش المصري قوي، وقادر على حماية مصر، فيبدو الكلام بلا سياق مفهوم، ولا تعرف هل هي رسائل لإسرائيل مثلا، لأن الكلام أحيانا يكون عن القدرة على حماية الحدود، أم أنه موجه للأشرار، الذين ربما يغريهم المشهد السوري فيعملون على تقليده
ومنذ أن سقط النظام في سوريا والأعصاب في مصر منفلتة، ويركز بعض الإعلاميين في خطابهم على أن الجيش المصري قوي، وقادر على حماية مصر، فيبدو الكلام بلا سياق مفهوم، ولا تعرف هل هي رسائل لإسرائيل مثلا، لأن الكلام أحيانا يكون عن القدرة على حماية الحدود، أم أنه موجه للأشرار، الذين ربما يغريهم المشهد السوري فيعملون على تقليده!
ولأول مرة يعبر رأس النظام عن القلق في لقاء الثمانية، وهو يقول إنه ليس قلقا، فيده لم تلوث بالدماء (استخدم مفردة قديمة)، كما أنه لم يستول على مال أحد!
ولن أكرر نفسي، أو أكرر ما يُعرف من المشهد المصري بالضرورة، فسوف أبتعد عن مناقشة صحة ذلك، إلى دوافع ما قال، فإذا كانت الطمأنينة مردها إلى عدم فعل ذلك، فمن حقه أن يقلق، وأن يقلقوا معه!
وسواء كان يطمئنهم بما قال، أو يطمئن نفسه ويطمئنهم في وقت واحد، فهذا لا ينفي القلق، مع أنه حاول بعد وقوع الأحداث أن يبدو مطمئنا!
فعندما سقط النظام السوري، كان الجنرال في جولة خارجية لا قيمة لها اقتصاديا، أو حتى على المستوى السياسي، فتبدو مثل غيرها من جولات إثبات الحضور، وكان عليه أن يعود، حتى وإن لم يكن لما جرى تأثير على الحكم المصري، لأن مصر لا تعتبر علاقتها بسوريا ثانوية، فضلا عن أن مكانة مصر لا تسمح بالترف ومواصلة الجولة وكأن شيئا لم يقع!
وفضلا عن ذلك، فسوريا تمثل دفعة مهمة للنظام الحاكم الآن، وذلك بعيدا عن تاريخ الوحدة الذي لم يتأثر بالانفصال!
مكانة سوريا:
الأسد سقط أخيرا، وكان سقوطه مهينا، إنه لم يمتلك شجاعة صدام حسين، أو الصلابة في حدها المتوسط التي مثلها القذافي وعلي عبد الله صالح، أو حدها الأدنى التي مثلها مبارك، الذي كان يدرك أنه في حماية أبنائه الذين سلمهم الحكم فلما اضطروا لسجنه، ذهب للمحكمة على سرير نوم! بشار النموذج، والقدوة، والمثل الأعلى، هرب ليلا بدون أن يخبر أحدا، كأي لص استشعر استيقاظ أهل الدار، فلاذ بالفرار!
فسوريا مضرب الأمثال لإثبات نجاح الجنرال، فلم تصبح مصر بفضله كسوريا، والسلطة بقرارها بعودة المذيعة ريهام سعيد للشاشة، ذكرتنا بهذا المشهد المبتذل في بداية الانقلاب العسكري في مصر، عندما ذهبت بسيارة مساعدات لتصور السوريين المتكالبين عليها، للتأكيد على أن الجيش المصري بانقلابه حمى المصريين من هذه النهاية، صحيح أن المشهد تكرر في مصر، من تكالب على مساعدات تقدم للفقراء، لكن ظلت سوريا مضرب الأمثال على أنه إن لم يكن للنظام المصري من إنجاز فيكفي أنه حمى المصريين من هذا البؤس، ورحلة الشتات في بلاد الله الواسعة! فضلا عن أن استمرار حكم بشار الأسد كان يمثل للجنرال المصري دفعة معنوية، فالتقتيل وضرب الشعب بالبراميل المتفجرة لا يدفع المجتمع الدولي لعزله، وقد مثّل قدوة له منذ اليوم الأول، فذهب يقلده بالانعطاف شرقا، والتقرب من الروس ومن الصين، مستلهما تجربة بشار الأسد!
بيد أن الأسد سقط أخيرا، وكان سقوطه مهينا، إنه لم يمتلك شجاعة صدام حسين، أو الصلابة في حدها المتوسط التي مثلها القذافي وعلي عبد الله صالح، أو حدها الأدنى التي مثلها مبارك، الذي كان يدرك أنه في حماية أبنائه الذين سلمهم الحكم فلما اضطروا لسجنه، ذهب للمحكمة على سرير نوم!
بشار النموذج، والقدوة، والمثل الأعلى، هرب ليلا بدون أن يخبر أحدا، كأي لص استشعر استيقاظ أهل الدار، فلاذ بالفرار!
بيد أن محاولة إثبات عدم الاكتراث دفعت رأس السلطة في مصر أن يذهب بعيدا في سياق التجاهل، حتى لا يبدو متأثرا، فلم يعد من الخارج إلا بعد انتهاء جولته، وترك المسألة السورية لوزير الخارجية، ولم يتدخل في الموضوع، ولو من باب أنه يرأس الدولة العربية الكبرى، أو لأن استقرار سوريا يمكن أن يكون هدفا، ولا يزال الجيش السوري الذي سقط إلى الآن هو الجيش الأول في الجمهورية العربية المتحدة، ولهذا فإن مصر لديها الجيشان الميدانيان الثاني والثالث، فإذا سئلت عن الجيش الأول فأضف إلى معلوماتك أنه الجيش السوري الذي اختفى في ظروف غامضة!
افتعال اللقاء:
لقد ظل النظام المصري يخفي قلقه مما جرى، ويترك الأمر للإعلاميين، إلى لقاء الثمانية، الذي جاء بلا موعد مسبق، أو ضرورة معلنة، والمعنى في بطن الشاعر! فهل تم افتعال اللقاء للإعلان عن عدم القلق (من قال لكم إنكم قلقي؟)، أم لأن المجتمعين كانوا يبحثون عند رئيسهم عن الأمان؟!
الخوف من هذه النهاية لا يجوز إلا إذا قامت ثورة، وبسبب منسوب القلق لدى القوم، وإن عبّر رأس النظام بأنه ليس قلقا لأن يديه لم تتلوث بدماء المصريين ولم يستول على أموالهم، يشككون في تحليلاتنا
مهما يكن الأمر، يبقى السؤال: هل هذا القلق يستند على مبررات، أم أنه قلق مرضي من أناس رأوا المشهد السوري، وكيف أن الثورة السورية قررت محاكمة الإعلاميين الحربيين الذين انحازوا لبشار الأسد في سياساته الاستئصالية، وهم فعلوا نفس ما فعل الإعلاميون السوريون؟ ومن هنا كانت دهشتهم التي عبّروا عنها، فالثورة المصرية سمحت لإعلاميي مبارك بالتحول، حتى أن لميس الحديدي وبعلها وغيرهما جاءوا لميدان التحرير، وادعت الأذرع الإعلامية للتوريث أنها كانت مضطهدة في عهد مبارك، وتسامحت معهم الثورة، حتى أعادوا إنتاج أنفسهم من جديد! الثورة السورية تؤسس لقواعد مختلفة عن تلك التي عرفها الربيع كله.
والخوف من هذه النهاية لا يجوز إلا إذا قامت ثورة، وبسبب منسوب القلق لدى القوم، وإن عبّر رأس النظام بأنه ليس قلقا لأن يديه لم تتلوث بدماء المصريين ولم يستول على أموالهم، يشككون في تحليلاتنا..
وهذه التحليلات تنتهي بي بأن مصر ليست سوريا، فحتى النسخة الإسلامية مختلفة، فضلا عن أن الثورة السورية لديها جبهة مساندة تمثلها دولة الجوار، والجوار المصري كما نعرف. والثورة السورية مسلحة، والسلطة في مصر من تحتكر السلاح، وتاريخيا فإن كل التنظيمات التي حاولت الاستقواء على الدولة بالسلاح انتهت إلى الهزيمة الساحقة الماحقة، مثل تنظيمات الجهاد، والجماعة الإسلامية، والفنية العسكرية، والتكفير والهجرة، بجانب تنظيمات يسارية مثل التنظيم الناصري المسلح!
فهل يعلمون ما لا نعلم، أم هي المبالغة في تقدير الأمور؟!
x.com/selimazouz1
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه مصر سوريا الأسد الثورة سوريا مصر الأسد السيسي الثورة مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة صحافة سياسة سياسة صحافة اقتصاد سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الثورة السوریة التی مثلها على حمایة على أن فی مصر
إقرأ أيضاً:
على طريق الانعتاق من الهيمنة المصرية «18 – 20»
على طريق الانعتاق من الهيمنة المصرية «18 – 20»
“لنْ يستطيعَ أحدٌ أنْ يركبَ على ظهرِك، ما لمْ تكُنْ مُنحنياً”
مارتن لوثر كينج
د. النور حمد
الخنق الإخواني للحياة في السودانلقد أفقر النظام الإخواني الحياة في السودان؛ إذ أفقر غالبية أهلها ماديًّا وقضى على ما تسمى الطبقة الوسطى، بعد أن خلق طبقةً مترفةً بالغة الثراء، مرفهةً، تعيش في فقاعةٍ خاصةٍ بها في الأحياء الراقية في الخرطوم، وفي بعض المدن الكبرى. هذه الطبقة بالغة الثراء منغمسةٌ في نمط عيش مختلفٍ في فقاعتها المعزولة، ولم تعد تشعر بحياة من حولها من بقية السودانيين. يعيش هؤلاء فقاعتهم الخاصة بهم في الخرطوم، حيث يرتادون مطاعم لا يرتادها غيرهم، ويصلون في مساجدَ فاخرةٍ جعلتها مواقعها في الأحياء الراقية خاصةً بهم، ويركبون سياراتٍ فاخرةً لا يركبها إلا أهل الخليج. ويسافرون بالدرجة الأولى في الطائرات، ويخرجون ويدخلون عبر صالة كبار الزوار متجنبين العبور بالصالة العمومية الكئيبة لأبأس مطار دولي في العالم. ويقيمون حفلات زفاف أبنائهم وبناتهم في صالات لا يطالها غيرهم. أما أولادهم وبناتهم فلهم عوالمهم الخرطومية الخاصة، ومفاهيمهم الخاصة وجامعاتهم الخاصة، بل لهم لغتهم الخاصة، أيضا. وهكذا أصبح السودان طاردًا لبنيه الباحثين عن حياةٍ حديثةٍ طبيعيةٍ، وأصبح أول ملاذٍ سهل للدخول وللإقامة هو القاهرة وغيرها من مدن مصر. وحين تمل هذه الطبقة الحياة في فقاعتها المخملية المعزولة في الخرطوم، وتحس بأنها تريد عيشًا مؤقتًا في إطار حضاريٍّ متكاملٍ الجوانب،يمنحها مزيدًا من الترفيه ومن التميُّزِ الاجتماعي، فإنها تسافر إلى منازلها وشققها الفاخرة في القاهرة، واستنابول، ودبي، وكوالالمبور، وغيرها من عواصم العالم. والآن، بعد أن نشبت هذه الحرب، هرب كثيرٌ من هؤلاء الذين خنقوا الحياة المدينية في السودان حتى أماتوها، إلى القاهرة حيث يعيشون الآن في أفخم الأحياء السكنية مستمتعين بكل مباهج الحياة الحديثة هناك.
إلى جانب الإفقار المادي، أفقر النظام الإخواني الحياة السودانية ثقافيًا. فقد حارب الابداع والمبدعين الحقيقيين وجاء بالكثير من أدعياء الإبداع في كل مناحي الثقافة من آداب وفنون وملأ بهم الفضاء العام حتى أثقله بالغثاثات والفجاجة والرِّكة. قضى الإنقاذيون تمامًا على دور السينما، وخنقوا النشاط المسرحي. وقضى الفقر وسوء الطرق والظلام وصعوبة التنقل على حيوية الأمسيات التي تتسم بها كل مدينةٍ حديثة. ماتت الحيوية المسائية المتمثلة في نشاط الأسواق والمقاهي والمطاعم في وسط المدن، وانسحب إلى الأطراف في شوارع أحياء الطبقة المرفهة. فوسط مدينة الخرطوم، على سبيل المثال، الذي كان بالغ الحيوية في الأمسيات في عقود الستينات والسبعينات والثمانينات، وكان متاحًا للجميع، أصبح يخيم على الصمت والظلام مع مغيب الشمس. لذلك، أتخذت الطبقة الوسطى التي أعادت تشكيل نفسها بسبب الهجرة إلى العمل في الخارج، وما تبقى من الطبقة الوسطى داخل البلاد، من القاهرة مدينةً بديلة. فأقام بعض هؤلاء فيها بصورةٍ ثابتة، وأصبح البعض الآخر يتردد عليها بكثرة لمختلف الأسباب. بل أصبح صيام رمضان في القاهرة، في العقود الأخيرة، حجًّا سنويًا لدى كثيرين. فحرارة الجو في السودان وانقطاع التيار الكهربائي المتكرر الذي يمتد لساعات طويلة جعل القاهرة قبلةً رمضانية لدى كثيرين. هذا الانهيار العام وانسداد الأفق الذي أحدثه التنظيم الإخواني في السودان، والشعور العام بأن كارثةً وشيكة الحدوث قد أخذت ترفرف فوق الرؤوس، جعل كثيرًا من السودانيين يحتاطون لأنفسهم بشراء شقة في القاهرة. وهذا هو الذي خلق هذا الانفجار الضخم في تملُّك السودانيين للشقق في مصر بالصورة التي ذكرناها إلى جانب ذلك، فإن القاهرة تتسم بحيويةٍ خاصةٍ في رمضان، حيث يصبح الليل هناك معاشًا كما النهار.
القاهرة مدينةٌ حافظت على نبض الحداثة فيها، بل وزادت فيه الكثير في العقود الأخيرة، في حين فقدت الخرطوم وباطِّراد، حداثتها تمامًا التي عُرفت بها في ستينات القرن الماضي، وفي النصف الأول من سبعيناته. لقد حوَّل التنظيم الإخواني الخرطوم إلى مدينة رَثَّةٍ، ميِّتة، كالحةٍ، وغَبِرة، وقد طال ذلك بقية المدن السودانية. وأدى الغلاء المنفلت والإفقار المتزايد للناس إلى أن ينحصر همهم في البحث عن لقمة عيشٍ لا يتحصَّلون عليها إلا بشق الأنفس. الجميع راسفون في قيود الفقر وقلة الحيلة، وغارقون في جو من الكآبة المستدامة والتشبث بحلمٍ بالتغيير لا يتحقق أبدا. باختصارٍ شديد، حوَّل التنظيم الإخواني مدينة الخرطوم، التي هجر كثيرٌ من أهل الريف أريافهم وأتوا للعيش فيها، إلى غابة ملؤها أنيابٌ زرقٌ ومخالبُ حمر. عاصمةٌ مسؤولي محلياتها لصوص وشرطتها مرتشية وكل إجراء حكوميِّ فيها يتم بشق الأنفس ولابد فيه مع ذلك من سلوك الطرق الملتوية.
منذ بضعة عقود أصبح قضاء العطلة في القاهرة مع بقية الأسرة القادمة من السودان من أمٍّ مسنة وأبٍ مسن ومن حالات طبية طارئة لمرضى في نطاق الأسرة هي الخيار الأفضل للمغتربين السودانيين. فمصر أسهمت في إفشال الدولة السودانية وقد ساعدتها النخب السودانية، خاصة العسكرية، في هذا الإفشال. والمحصلة النهائية هي تدفق مدخرات السودانيين من العملات الصعبة داخل مصر. أيضًا، جعلت القبضة الأمنية الشديدة ومطاردة المعارضين، في فترة حكم الإنقاذ، كثيرًا من السودانيين يتجنبون العودة إلى السودان، ويفضلون قضاء عطلاتهم في مصر. وقد ساعد على ذلك في فتراتٍ سابقة أن السودانيين لم يكونوا مطالبين بالحصول على فيزا مسبقة لدخول مصر. بل، في فترة حكم نميري وأثناء بداية ما سُمِّي التكامل الاقتصادي بين السودان ومصر، أخذت السلطات في البلدين إصدار ما سُمِّيت بطاقة وادي النيل التي تسمح بالتنقل بين البلدين من غير الحصول على فيزا. لكن، ظلَّت مصر تتنكر، كل حينٍ وآخر، لما يجرى الاتفاق عليه، أو تقوم بالالتفاف عليه بطريقة ما، حين تتوتر العلاقات بين البلدين. وهكذا اتسم النهج المصري في السماح للسودانيين دخول مصر من غير فيزا بالتذبذب. فهو قد ابتُدِع أصلاً بغرض التكسب السياسي من أجل استلحاق القطر السوداني بمصر. ثم، ظهر أن الممكن استخدامه كوسيلةٍ للضغط السياسي حين يقتضي الظرف السياسي، وايضًا للَكسُب المالي بجذب مدخرات السودانيين إلى داخل مصر. فالمبدأ الأصيل المتعلق بفتح الحدود بين البلدين، تستخدمه مصر بأسلوبٍ انتقائيٍّ يتغيَّر وفقًا لمقتضى الأحوال السياسية والاقتصادية.
التكسب من وراء تَشَرُّدِ السودانيينفي هذه الحرب الجارية الآن استثمر النظام المصري إجراءات الدخول لتصبح أداةً لمص دماء السودانيين بقسوةٍ ووحشيةٍ بالغة. فالسودانيون الآن شعبٌ مشرَّدٌ يبحث عن ملجأٍ آمنٍ، وهو يحتاج ذلك الملجأ حاجة حياة أو موت. وغالبية الذين يذهبون إلى مصر بسبب هذه الحرب، لا يكلفون الدولة المصرية قرشًا واحدًا. فمن يسجلون أنفسهم في مفوضية اللاجئين، تتكفل برامج الأمم المتحدة بإعاشتهم. وإلى جانب فإن كثيرين منهم يتلقون تحويلاتٍ مالية من أقاربهم المغتربين في جهات الدنيا الأربع. لكن الذي حدث أن مصر تفننت عبر سنتيْ هذه الحرب، في تغيير سياسة دخول السودانيين إليها. فاخترعت بالإضافة إلى رسوم الفيزا شيئًا جديَدًا اسمه “الموافقة الأمنية”. وتبلغ تكلفة الحصول على هذه الموافقة 2500 دولارًا، وفقاً لما ذكرته بعض وكالات السفر والعاملين في هذا المجال. فهل رأى الناس رسومًا باهظة كهذه في أي بلدٍ من بلدان العالم في أمورٍ تتعلق بإجراءات فيزا الدخول؟ (راجع: موقع “أخبار السودان” على الرابط: https://shorturl.at/lprGc). ولابد من الإشارة هنا إلى أن دول الخليج العربي، التي استقبلت أعدادَا غفيرةً من السودانيين بسبب هذه الحرب، ومنحتهم إقاماتٍ مؤقتةٍ، لم ترهق كاهلهم بالأتاوات الباهظة وبالتعقيدات وبالفساد الإداري المؤسسي، ولم تتفنن في إذلالهم وفي الجَّأْرِ بالشكوى منهم، كما فعلت مصر التي تكسب من ورائهم ذهبا.
اخترع النظام المصري هذه البدعة المسماة “الموافقة الأمنية”، على الرغم من أن بين مصر والسودان اتفاقية موقعة منذ عام 2004، تُسمى “اتفاقية الحريات الأربع”. والحريات الأربع هي: حرية التنقل والإقامة والعمل والتملك. ويعني هذا أن كل سوداني ومصري يستطيع دخول البلد الآخر ويستطيع الإقامة والعمل والتملك فيه. وهي اتفاقية ظل السودان يطبقها حرفيًا ويدع المصريين يدخلون إلى السودان ويعيشون فيه مثلهم مثل السودانيين. لكن مصر ما أن نشبت الحرب وظهر أن ما يقارب المليون سوداني يقفون على حدودها هاربين من لظى الحرب شرعت في التفنن في التكسب من هذا المورد الجديد. والحق يقال إن كثيرًا من الأصوات المصرية قد طالبت النظام المصري بتطبيق اتفاقية الحريات الأربع، وألحَّ هؤلاء المطالبون أن يجري فتح الحدود المصرية الجنوبية لدخول السودانيين النازحين بسبب الحرب، دون أي قيد أو شرط. لكن ما يراه الشعب المصري وما يريده شيءٌ، وما تراه وتريده الأنظمة الدكتاتورية التي ظلت تحكم مصر منذ منتصف القرن الماضي، شيءٌ آخر. (راجع: موقع قناة “بي بي سي” العربية، على الرابط: (https://shorturl.at/5V8im. وللمرء أن يتساءل ماذا تعني هذه الاتفاقية الأمنية وما سبب جعلها شرطًا؟ أهي خوفًا من دخول إرهابيين؟ فالإرهابيون ليسوا عامة شعب السوداني المشرَّد ان، وإنما هم نفس النظام الإخواني الذي يحكم السودان حاليًا، وكثيرون منهم يعيشون مع النظام المصري في قلب القاهرة. هؤلاء هم أنفسهم من أتوا بأسامة بن لادن وكارلوس إلى السودان. وهم أنفسهم من قاموا بمحاولة اغتيال الرئيس حسني مبارك في أديس أبابا. وهم أنفسهم من أتوا بالإيرانيين إلى المنطقة. وهم أنفسهم من يهربون الأسلحة الإيرانية إلى حماس عبر بدو صحراء سيناء. وهم أنفسهم من يقومون في هذه اللحظة باستجلاب الدواعش من كل أركان الدنيا ليحاربوا معهم في هذه الحرب الأكثر قذارةً منذ مطلع العصر الحديث. باختصار، لم يكن شرط “الموافقة الأمنية” الذي ابتدعه النظام المصري سوى حيلةٍ لمص دماء شعبٍ مشرَّدٍ يبحث عن أمن ومأوى ومأكل.
البرهان والإخوان يحققون لمصر حلمهاسيذهب الفريق عبد الفتاح البرهان في التاريخ السوداني بوصفه أسوأ حاكم مر على البلاد منذ الحقبة الكوشية القديمة. ويمكن أن ينال في حداث الخراب العميم، لقب نيرون السودان بلا منازع. ولسوف يذهب النظام الإخواني السوداني كأسوأ منظومةٍ سياسويةٍ أيديولجيةٍ، أحالت البلاد التي حكمتها على مدى ستة وثلاثين عامًا إلى كومةٍ من الحطام والرماد. لقد حقق الفريق البرهان والنظام الإخواني للأنظمة المصرية حلمًا ظلَّت تحلم به منذ أن أخرجتها الثورة المهدية من السودان في عام 1885. هذا الحلم القديم المتجدد هو أن يسقط السودان بين فكيها كما تسقط الثمرة الناضجة. فنحن الآن في أخطر منعطف تمر به الدولة السودانية، فعلينا أن نعي خطر الهيمنة المصرية والدور المصري في إفشال الدولة السودانية. وقد ظل يجري استخدام عديد القوى والنخب السياسية السودانية في هذه الخطة القديمة المتجددة. ولو سارت الأمور على هذا المنوال، فإنها سوف تؤدي في نهاية المطاف إلى إعادة استعمار مصر للسودان من جديد. وفي تقديري، أن ذلك سوف يبدأ بسقوط شمال السودان وشرقه، وربما وسطه، لقمةً سائغةً في الفك المفترس للأوليغاركية المصرية الحكومية.
باختصارٍ شديد، لقد فشلنا نحن السودانيين عبر ما يقارب السبعين عامًا من الاستقلال في إدارة بلدنا. فنحن المسؤولون عن هذا الفشل، ولا ينبغي أن نلومَنَّ عليه أحدًا سوانا. لكن، لابد من القول: إن للأنظمة المصرية المتعاقبة دورًا في تسبيب هذا الفشل، بل، وبقسطٍ وافرٍ جدا. وحين نقول ذلك لا نقوله للتشنيع بالأنظمة المصرية. فالأنظمة المصرية، مثلها مثل أنظمة كل الدول؛ ديكتاتوريها وديمقراطيها، تهتبل فرص ضعف الدول الأخرى والثغرات التي تنشأ فيها لخدمة أهدافها. وحين نشير إلى يد الأنظمة المصرية في تكبيل السودان وتعطيله بغرض إلحاقه، إنما نريد إيقاظ الشعب السوداني ونخبه الفكرية والثقافية والسياسية، لنخرج جميعًا من حالة الغيبوبة الطويلة التي أنامتنا فيها الشعارات البراقة الخادعة المتعلقة بالقومية العربية وبالأممية الإسلامية، والأممية البروليتارية، وكذلك الأمة الواحدة ذات الرسالة الخالدة.
مصر لا تريد سودانًا قويًا ناهضًا مستقل القرار السياسي، لأن ذلك يسير على العكس تمامًا من استراتيجتها وأجندتها المستقبلية. وهي استراتيجيةٌ وأجندةٌ ممعنةٌ في الخطأ. وهي استراتيجيةٌ لا تضر بمصالح السودان وحده، وإنما تضر بمصالح مصر أيضا. تتمثل أجندة مصر في: احتكار مياه النيل، وتدفُّق المواد الخام إليها من السودان بأبخس الأثمان. وكذلك، إتاحة الأراضي السودانية لها للزراعة. بل، وحين تسنح الفرصة، تقوم بإرسال المصريين الذين اكتظت بهم أراضي مصر فوق ما تحتمل، إلى الاستيطان في أراضي شمال السودان الشاسعة الخصبة، قليلة السكان وفيرة المياه. مصر تتجنب بكل سبيلٍ إقامة علاقة تبادل تجاري وتكامل إقتصادي شفافةً معافاةً. هي تريد أن تُملي عبر مختلف الطرق أجندتها دون أدنى مراعاة لمصالح الشعب السوداني ولتنمية القطر السوداني. مصر تحارب الديمقراطية في السودان لأنها تريد أن تعقد الصفقات من وراء ظهر الشعب السوداني. هي تريد أن تملي إملاءً على الديكتاتور الذي تنصبه لحكم السودان. وعمومًا، فإن مصر تعمل على مساراتٍ متعدِّدةٍ وبصبرٍ ومثابرةٍ، منتظرةً مجيء تلك اللحظة التي تستلحق فيه السودان بالدولة المصرية عبر أهله أنفسهم. وستأتي هذه اللحظة حين لا يصبح لدى سكان السودان الشمالي أي حيلةٍ متبقيةٍ لضمان أمنهم واستقرارهم، سوى أن يلجأوا إلى الحماية المصرية. وترجو مصر من هذه الحرب الجارية الآن، التي ينخرط فيها النظام المصري بفعاليةٍ سياسيةٍ وعسكريةٍ عاليةٍ أن تحقق لها هذه الخطة بصورةٍ نهائية. وفي تقديري، أن لحظة نجاحها قد قاربت، وهو ما ألح عليًّ ودفعني دفعًا لدق ناقوس الخطر.
استدعاء الاستعمار Colonization by Invitationلقد سبق أن ناقشت في كتاباتٍ سابقة كيف خرجت إلى العلن، عقب هذه الحرب، دعواتٌ لبعض النخب السياسية والتجارية السودانية، التي نادت، بلا مواربة، لضم شمال السودان إلى مصر. بل، وأشرت إلى حديثٍ لعلي كرتي الزعيم الحالي للتنظيم الإسلامي في السودان يدعو فيه المصريين إلى الهجرة إلى السودان لكسب الرزق مع إخوتهم السودانيين. وهناك الكثير من هذا النوع من الأحاديث التي بدأت تظهر بتزايد ملحوظ في الآونة الأخيرة. وأفضل طريقة لمصر لإكمال هيمنتها على السودان، فيما أحسب، لهي تلك التي تأتي عبر مطالبة السودانيين أنفسهم بالانضمام إليها. فهذه هي أفضل صيغةٍ وأقلها كلفةً لتحقيق الهدف النهائي للماراثون المصري الطويل الساعي إلى استعادة السودان ووضعه، من جديدٍ، تحت كامل الهيمنة المصرية، مثلما حدث في الحقبة الخديوية، (1821 – 1885). فالنظام الإخواني الذي حكم السودان حتى الآن 36 عامًا يعمل أفراده الآن، بعد أن تبددت أحلامهم في السيطرة الكاملة على البلاد، على الحفاظ على الثروات التي نهبوها. ولم يعد متاحًا أمامهم لتحقيق ذلك سوى دمج النظام الأوليغاركي السوداني، في النظام الأوليغاركي المصري، الذي شرع في فتح الباب لهم على مصراعيه. خلاصة القول، لن يتقدم السودان خطوةً واحدةً إلى الأمام، ما لم نعرف نحن السودانيين الكيفية التي نُبطل بها هذا الدور المصري المدمر بالوعي به، وبالوقوف ضده بقوة. وأيضًا، لن تنهض مصر، نهضةً حقيقيةً مستدامةً، تليق بتاريخها القديم السابق لعصور الظلام والامتهان الأجنبي التي عاشتها، ما لم تعرف الطريقة الأمثل لخلق علاقةٍ صحيحةٍ منتجةٍ مع السودان.
(يتواصل)
[email protected]
على طريق الانعتاق من الهيمنة المصرية (17 – 20)
الوسومالإخوان الاستعمار البرهان الحقبة الكوشية الدولة المهدية السودان الهيمنة المصرية د. النور حمد عبد الفتاح البرهان مصر