سورية أم ”سوريا“ ولماذا نصر على ”سورية“؟
تاريخ النشر: 16th, December 2024 GMT
مقالات
د. علي أكرم زعيتر
يحسب كثيرون، وبعضهم من المثقفين، أن ما من فرق بين سورية و”سوريا“، وأن الأمر عائد أولاً وأخيراً لذوق الفرد. فإذا شاء كتبها بالتاء، وإذا شاء كتبها بالألف، ولا تثريب عليه البتة، فكلا الرسمين سيَّان، ما داما يشيران إلى معنى واحد. فيما الحقيقة تقول خلاف ذلك تماماً، فما بين الألف المفتوحة والتاء المربوطة قصة صراع إيديولوجي ولغوي طويل، سنعرض لها بإيجاز مفرط في مقالنا التأصيلي ذا.
وللوقوف على حقيقة الفارق بين التاء والألف علينا أن نلفت عناية القارئ الكريم إلى أن للمسألة بعدين. بعد لغوي نحوي، وبعد قومي وإيديولوجي.
نحوياً، يتفق النحاة ـ إلا ما ندر ـ على وجوب رسم أسماء البلدان الأعجمية المؤنثة بالألف الطويلة، مثال: روسيا، إيطاليا، تركيا، آسيا، كيليكيا.. إلخ.
بينما يتعين كتابة أسماء البلدان العربية المؤنثة ذات النسق المشابه بالتاء المربوطة، مثال: رامية (بلدة من أعمال جبل عامل ـ لبنان)، قيسارية (بلدة من أعمال فلسطين المحتلة، أصل الاسم قيصرية، وهو أعجمي، لكنه معرَّب)، السلميَة (مدينة سورية)، وما دامت سورية مفردة عربية فمن باب أولى أن ترسم بتاء مربوطة لا بألف طويلة كما هو حال أسماء البلدان الأعجمية.
إيديولوجياً، منذ نهاية القرن التاسع عشر حتى منتصف القرن المنصرم، دار نقاش عميق ومطول، بين رواد النهضة العربية وبين المتأثرين بطروحات المستشرقين، حول هوية سورية، وحول ما إذا كان اسمها عربياً أو أعجمياً. فبينما ادعى الفريق الثاني:
١ـ أن سورية ليست بلداً عربياً خالصاً، وإنما بلد متعدد القوميات، لا يصح أن نختزل مكوناته القومية بالهوية العربية.
٢ـ أن اسمها أصلاً ليس عربياً، وإنما يوناني وفي أحسن الأحوال آرامي ـ سرياني.
أصر الفريق الأول على عدم صحة ذلك، مشدداً على:
١ـ أن سورية بلد متعدد القوميات فعلاً، لكن غلبة العنصر العربي واضحة عليه، ولا شيء يدعو للشك حيال ذلك، ما يعني أنه بلد عربي قح.
٢ـ أن اسمها عربي محض، وهو يعني السور العالي، أو سور الإله.
فأين الحقيقة؟ وأي الرأيين أكثر صواباً؟وما الأدلة التي بحوزة الفريقين؟.
حقيقةً، لا يخلو الرأي الثاني من شيء من الصحة، فسورية بلد متعدد القوميات فعلاً، ولكنه ليس متعدد الهويات كما يتوهم أصحاب هذا الرأي. فنسبة العنصر العربي فيه تفوق نسب العناصر الأخرى مجتمعة، وبالتالي لا مجال للحديث عن تعدد هويات. إن هي إلا هوية واحدة. عربية لا غير. لكنها لا تصادر حق الأقليات الأخرى غير العربية في التعبير عن خصوصيتها.
ولإثبات وجهة نظرهم، يستحضر أصحاب هذا الرأي جملة من القرائن التي لا ترقى لمستوى الأدلة القطعية، نذكر منها:
١ـ إن ”سورية“ مفردة سريانية ـ آرامية، تعني بلاد السريان. وما دامت سريانية فهي أعجمية، وعليه فإن القاعدة النحوية آنفة الذكر لا تسري عليها.
واقعاً، لا شيء يثبت ما ذهب إليه هؤلاء بخصوص الأصل الآرامي السرياني لمفردة ”سورية“. فلو طالبت أياً منهم بمصدر يجلي الريب، لأهطعوا رؤوسهم (طأطأة رؤوسهم).
ببساطة، إن هي إلا تكهنات وتخمينات يحاول أصحابها أن يضفوا عليها بعداً أكاديمياً، لكن سرعان ما يبدو عُوارها عند أول امتحان.
فالسريان الذين ما تزال بقايا منهم تعيش في سورية ولبنان حتى اليوم، هم في الأصل آراميون وفدوا من بلاد ما بين النهرين، وقد اكتسبوا اسمهم الذي يعرفون به اليوم (السريان) من البلاد التي سكنوا فيها (سورية)، وليس العكس، كما يروج منظِّرو السرينة في بلاد الشام. فهم سريان نسبة إلى سورية، ونسبة الواحد منهم ”سرياني“.
وبالمناسبة، فإضافة الألف والنون والياء، بغرض النسبة هو أمر شائع في اللهجات الشامية، ومن ذلك قول القائل: ”مسلماني“ والتي تعني مسلم، وحمصاني نسبةً إلى مدينة حمص السورية، والديراني نسبة إلى دير الزور.. إلخ، وهي تواقع في صِيَغها صيغة ”سرياني“.
وقد أطلق عليهم الرومان هذا الاسم بعدما اعتنقوا المسيحية، وذلك بغرض تمييزهم عن أبناء عمومتهم الآراميين الذين بقوا على وثنيتهم.
٢ـ إن مدناً وقرى عربية كثيرة تنتهي أسماؤها بألف ممدودة، مثال: صيدا، طَليا، إيلْيا، بترا.. إلخ. أوليست هذه الأسماء عربية؟! ما دامت كذلك، فلماذا يصح تذييلها بالألف، بينما لا يصح ذلك مع اسم سورية؟! هل في الجغرافيا استنسابية؟!
ومقابل ذلك، يحتج أصحاب الرأي الأول بسلسلة موازية من الأدلة الدامغة، نأتي على ذكر أهمها:
١ـ إن مفردة سورية عربية خالصة، وقد وردت في أمهات مصادر التاريخ العربي، مربوطة التاء، وكذلك في المعاجم العربية قديمها وحديثها، وهي صفة تطلق على البلاد الواقعة شمال جزيرة العربية، ومعناها الأرض ذات السور.
ويكفي للدلالة على ذلك، الاستشهاد بما ورد في معجم البلدان لياقوت الحموي، وهو أحد المعاجم القديمة: ”سُورِيَة ــ بكسر الراء وياء مفتوحة غير مشدَّدة ـ موضع بالشام، بين خُنَاصرة وسَلَمْيَة“.
وكذلك ما جاء في القاموس الغني، وهو أحد المعاجم الحديثة، ”سُورِيَّة: مِنَ البُلْدانِ العَرَبِيَّةِ بِالشَّرْقِ الأَوْسَطِ. (الجُمْهورِيَّةُ العَرَبِيَّةُ السُّورِيَّةُ). عاصِمَتُها دِمَشْقُ“.
٢ـ لم يغب عن بال المشرعين السوريين ذلك، نظراً لأهميته، فخلفوا لنا نصاً دستورياً واضحاً لا لبس فيه، يشير إلى وجوب ربط تاء ”سورية“. وحسب الباحث عن الصواب أن يركن إلى ما جاء في الدستور السوري، فهو المعني الأول والأخير بكيفية رسم (كتابة) اسم البلد.
٣ـ ما ذهبت إليه جمهرة واسعة من لغويِّي سورية، من أن ”سورية“ بالياء المشددة أو الخفيفة هي صفة مؤنثة للقطر الشامي، وما دامت كذلك فلا بد من أن تنتهي بتاء مربوطة حالها حال كل الصفات المؤنثة. نقول ذلك، وإن كنا نعارض هذا المذهب ونعتبره اجتهاداً خطأً، فالصواب برأينا هو ما ذكرناه آنفاً، لجهة أن سورِيَة بالياء المخففة هي الموضع ذو السور العالي، أو سور الإله كما ورد في بعض المصادر التاريخية المعتبرة.
٤ـ إن مدناً مثل صيدا وإيليا وبترا وسواها، مما تنتهي أسماؤها بألف ممدودة، لا علاقة لها بحديثنا حول ألف سورية وتائها، لا من قريب ولا من بعيد.
فصحيح أنها أسماء مؤنثة منتهية بألف، لكنها في الأساس مهموزة الآخر (تنتهي بهمزة) وقد أهملت همزتها للتخفيف، وهذه خاصية شائعة جداً في اللغة العربية، فصيدا أصلها صيداء، وإيليا أصلها إيلياء، وبترا الأردنية أصلها بتراء.
ولا يقتصر حذف الهمزة من أواخر الكلمات للتخفيف على أسماء المدن الثلاث آنفة الذكر، بل يتعداها إلى كل كلمة منتهية بألف وهمزة على السطر، مثال: السما وأصلها السماء، والفنا وأصلها الفناء، والقضا وأصلها القضاء.. وهلم جراً.
بوسعنا أن نعرض لكل الآراء والاجتهادات والتخمينات التي طرحها الأكاديميون على مدى قرن ونيف من الزمن، بخصوص معنى اسم سورية، فنبدو كأننا نلقي محاضرة أمام جمع من الطلبة والمتخصصين، وهذا ما لا نتوخاه، لأن غايتنا ليست النقاش الأكاديمي، وإنما الوقوف على حقيقة الأمر، بعيداً عن الإسهاب والإطناب.
إن استغراقنا في عرض الآراء والآراء المقابلة، قد يوقع القارئ في دوامة من التفكير العبثي، وهو ما يجعله في نهاية الأمر عرضة لخطر العصف الفكري. لذا ومن باب الحرص على ألَّا يصاب القارئ بأعراض العصف الفكري، ارتأينا أن نعرض على عجالة للرأيين الأبرزين ونحسب أننا وفقنا في ذلك.
يبقى أن نشير إلى ما بلغ أسماعنا، قبل بضعة أيام، حول نية الجماعات المسلحة التي سيطرت على دمشق مؤخرًا اعتماد رسم (كتابة) جديد لاسم بلدهم، وذلك من باب النكاية للنظام السابق، والذي كان يتبنى الرسم المذيل بالتاء المربوطة بدلاً من الألف.
إن بلوغ هؤلاء هذا المبلغ من النكايات ـ فيما لو صح ما نُقل عنهم ـ لهو أمر يشير إلى ضِعة وصَغار، يعتريان نفوسهم، وإلى محدودية أفق منقطعة النظير. فإرساء التاء المربوطة من عدمها شأن علمي، ولا علاقة له بالمكايدات السياسية. نأمل أن يعي المعنيون ذلك، قبل أن تحل عليهم لعنة التاريخ والجغرافيا واللغة.
المصدر: يمانيون
كلمات دلالية: ما دامت
إقرأ أيضاً:
العثرات التي واجهت الهلال
خلال منافسات الموسم الماضي، واجه الهلال حملة تشكيك واسعة من جهات متعددة، سعت للنيل من انتصاراته والتقليل من إنجازاته، رغم أنه الفريق الأكثر استقرارًا وتفوقًا على المستطيل الأخضر. تفنن المشككون في رمي الاتهامات جزافًا، محاولين تشويه كل مكسب يحققه الزعيم، إلا أن الإدارة الهلالية اختارت التعامل مع هذه الحملات برأس بارد، متبعة سياسة الحكمة والصبر، ومتيقنة أن الإنجازات هي خير رد على المشككين.
ومع ذلك، حين تعرض الهلال لأخطاء تحكيمية؛ اتفق عليها أغلب المحللين، وأثرت على نتائجه، أصدرت الإدارة بيانًا، كشفت فيه بوضوح ما كان يجري خلف الكواليس، وكان أبرز ما جاء في البيان هو الحديث عن طلب رئيس لجنة الحكام فرناندو نافارو من الإدارة الهلالية وقف استقدام الطواقم التحكيمية الأجنبية، والاعتماد على الحكام المحليين، وهو أمر أثار تساؤلات عديدة حول مدى عدالة المنافسة، إضافة إلى ذلك، جاءت تصريحات المدير الرياضي إيمينالو؛ لتؤكد أن الهلال سيواجه تحديات صعبة هذا الموسم، وهو ما انعكس فعليًا على نتائج الفريق في بعض المباريات. الهلال كان يحتل الصدارة بجدارة، لكن أخطاء تحكيمية فادحة حرمته من 5 نقاط ثمينة، كما حدث في مواجهتي القادسية والرياض، ما أدى إلى تراجعه وفقدانه للريادة التي كان يستحقها. اللافت للنظر أن الجهات التي كانت تشكك في مكتسبات الهلال في الموسم الماضي، واصفة إياها بالمساعدات، أصبحت اليوم تتجاهل الأخطاء التي يتعرض لها الفريق، بل وتباركها، وهو ما كشف زيف ادعاءاتهم وعدم موضوعيتهم في تناول الأمور، في المقابل كان هناك دعم واضح ومكشوف للفرق التي تسير معه جنبًا إلى جنب، أو التي تقف خلفه، حيث استفادت من قرارات تحكيمية مثيرة للجدل، ساهمت في تحسين مراكزها، ومساعدتها على تحقيق نتائج لم تكن لتصل إليها في الظروف العادية، ظهر ذلك في احتساب ركلات جزاء غير مستحقة، وتجاهل أخرى ضدها، وتغاضي الحكام عن قرارات حاسمة؛ كان من شأنها أن تغير مسار المباريات. هذا الدعم الموجه أثر بشكل مباشر على توازن المنافسة، ولاشك أن مثل هذه الأخطاء العكسية تُسهم في تسهيل الطريق نحو منصات التتويج أو مراكز المقدمة، ولم يكن الدعم التحكيمي هو العثرة الوحيدة أمام الهلال، بل واجه الفريق تحديات داخلية أيضًا؛ أبرزها إستراتيجية المدرب خورخي خيسوس، الذي يعتمد على أسلوب هجومي مبالغ فيه، ما أدى إلى استقبال الفريق عددًا كبيرًا من الأهداف. هذا النهج جعل الهلال في بعض المباريات عرضة لفقدان نقاط سهلة، رغم قدرته على السيطرة المطلقة على مجريات اللقاء، لكن حتى مع هذه الأخطاء التكتيكية، يبقى الهلال فريقًا متكامل العناصر، قادرًا على النهوض سريعًا وتصحيح المسار.
تقويض منظومة متجانسة بحجم الهلال ليس مجرد ضرب لنادٍ معين، بل هو إضرار بجمال المنافسة في الكرة السعودية. الهلال هو النموذج المثالي للفريق القادر على تقديم كرة قدم متطورة وممتعة، وبدلًا من أن يُسعى لإيقافه، كان الأجدر تحفيز بقية الفرق للوصول إلى مستواه، حتى تكون المنافسة عادلة ومتوازنة. كنا نتمنى أن نرى أكثر من فريق بمستوى الهلال، لكن الواقع أظهر أن هناك أيادي تعمل على إيقاف مد هذا الفريق؛ إما بقرارات تحكيمية مجحفة، أو بمحاولات خارج الملعب لتشتيت استقراره الفني والإداري.
في نهاية المطاف، ورغم كل هذه العثرات، يبقى الهلال الرقم الصعب في الكرة السعودية، والفريق الذي لا يتأثر بالمؤامرات قصيرة المدى، بل يواصل طريقه بثبات نحو القمة، مستندًا على إرثه الكبير وقوة عناصره، مدعومًا بجماهيره التي تعرف أن مكان فريقها الطبيعي دائمًا هو في الصدارة؛ مهما حاول البعض عرقلته، والأكيد من كان بالأمس يرمي التهم في طريق الهلال، يقرع الطبول للعثرات التي توضع أمامه عمدًا الآن.