البردوني وشجون الشؤون الثقافية
تاريخ النشر: 16th, December 2024 GMT
الثورة /محمد القعود
ككلِّ كتاباته النثرية المطوّلة والقصيرة، في مجال الفكر والأدب والنقد والسياسة والتاريخ والاجتماع, يجد القارئ دائماً فيها فائدة جمّة ومتعة كبيرة, وينهل منها ما يروي الظمأ, ويشبع نهمه إلى المعرفة المثمرة, ويطوف ويرحل من خلالها وعبرها في عوالم جديدة بديعة, ويتغوّر في أعماق وجوانب وآفاقٍ مذهلة من المعرفة والثقافة, كانت غائبة ومحجوبة ومجهولة وقصية أمام تلهفه لمعرفتها والاطلاع عليها , وإلى ما تشير إليه من دلالات وإحالات وإضاءات مشرقة ولامعة، تومض لتكشف وتوضح وتنير وتشرق بما هو أجمل وأبهى.
والقارئ لهذه المقالات والخواطر والرؤى, والتأملات والوقفات, والمقاربات والتناولات- مثل هذه النماذج المختارة والمنشورة هنا – يجد فيها ما يبهج ويسرّ العقل والقلب والخاطر والوجدان, من متعة , ولذة معرفية، وفنية, من حيث الأسلوب, والمضمون, والتناول والالتقاط الذكي, واللغة الندية والمشرقة والجملة المعبرة والبليغة, أو من حيث المعالجة البارعة والطرح والتناول والإلمام البديع والتحليل والتفسير الشافي والكافي والإضاءة النافذة والكاشفة عن جماليات المحتوى ودلالاته.
وفيها ومعها سيجد القارئ ذلك التجليّ الذي لا شبيه له في أسلوب كاتبها المتميز والمميز, كما يجد ويلامس فيها الرؤى التنويرية والأفكار العالية والنبيلة, المهمومة بالأجمل والأروع, النابعة والمتدفقة من تراكم ثقافي ومعرفي كبير, وفيها سيجد تبرّج اللغة الراقية والصافية, المتوهجة بالجمال والفتنة والبهاء والإبداع المنسوج بحرير الكلام وضوء الفكر.. لغة تشفّ وتكشف مكامن الدر الثمين والسحر والدهشة والانبهار.. لغة لها تعابيرها اللافتة وتراكيبها ومعمارها الباذخ ونبضها المموسق واشراقاتها وإطلالتها النديّة والبهيّة, وربيعها الدائم الاخضرار والحضور الغدق والخلّاب ..
إنها مقالات وكتابات منسوجة بماء القلب وضوء الفكر, ومترعة الرؤى, تدعو القارئ – بكرم حاتمي لا حدود له – إلى وليمة دسمة وباذخة, ووجبة عامرة بطيب الغذاء ولذة المشتهى والمذاق وعذوبة المنهل والرواء, وزاد الدهشة والشغف وتوق اللهفة إلى مثل هذه المائدة الحافلة بالجديد والمتجدّد والأجد من مجاني وقطوف وبساتين المعرفة والإبداع والفكر.
وسيجد القارئ في هذه المقالات والكتابات مالا يجده في معظم كتابات ومقالات الآخرين , المحشوة والمكتظة بالفراغ والخواء والهذيان والتعتعة والادعاء والحشو باللاشيء..!!
2
وأديبنا الكبير الراحل عبدالله البردّوني في مقالاته هو القارئ الفطن لمحيطه، وما يصدر وينتج عنه وما يمور فيه، من تحولات وقضايا, وهو الناقد الحصيف, والمثقف الفاعل والمتفاعل مع واقعه وعالمه, وليس ذلك المثقف الهّش والرخو ,حامل المباخر، ومروّج للزيف والأباطيل، والمهجّن الرعديد والمرتجف من الأشباح والكيانات والقوى الغاشمة الطارئة والراحلة إلى عهدة النسيان, وهو منتج أفكار وفكر ورؤى ومتأمل برؤية نقدية هادفة, ومحرّض على اجتراح الأجمل والأفضل والمنشود..
إن الأديب الكبير البردّوني الرائي هو ذلك المتمرد على السائد من الفكر الراكد والآسن والخامل , والرافض لكل إرثٍ وطرحٍ جامد وبليد ومتحجرٍ يتنافى مع العقل والمعرفة والعلم والتطور واليقين, ويتناقض مع إرادة وحرية الإنسان وطموحاته وتطلعاته وصيرورة الحياة ,وضد كل موانع وحواجز ولاءات تحدّ من كل تلك التطلعات والطموحات المشروعة التي لم تدجّنها وتكبّلها وتشقيها قيود وأغلال وسياط الطغاة وجلاوذة وأعداء الحرية والإبداع التطور والكرامة وإرادة الإنسان السوّي والشعوب الحرة في صناعة وبناء الغد والعالم المزدهر والمشرق البهي.
إنه البردّوني, ضمير الأرض والإنسانية, والضمير الجمعي لمجتمعه وشعبه, في كل مرحلة وحقبة ومحطة, عاشها وواكبها ومرّ بها, غير عابئ بكل سدنة ودهاقنة الأوهام والظلام وأشباح الخرافات والخزعبلات التي بددتها وجرفتها رياح وعواصف الحقائق والوقائع.
3
بينما كان أصحاب البصر,لا البصيرة,- ممن تضجّ بهم الساحة الثقافية اليمنية – وحتى العربية – يدبّجون مقالاتهم الإنشائية, بشقّ الأنفس, وبقلة محدودة الإنتاج, وفي مدارٍ ومسارٍ واحدٍ, وبأفكار معادة ومكرورة, وبإعادة إنتاج للمطروق من القضايا والأفكار والمواضيع, وبرتابة مملة وتناولات عبثية , وبلهاء، وبرؤية ورؤى قاصرة، وحسيرة, وبضبابية معتمة وعاتمة, وبمفردات لغوية وجُمل وأساليب مهلهلة ومرقّعة, ومجمّعة، لا روح فيها ولا ملامح ولا نكهة لها..!!
كان مبدعنا وشاعرنا وأديبنا الكبير عبدالله البردوني – وهو الفاقد للبصر، والمالك لبصيرة فذّة – يواصل عطاءاته وكتاباته الأدبية والفكرية والثقافية بكل إبهار وتميز وثراء, مثلما هو في مجال الشعر, ذلك الشاعر المتفرّد بإبداعه الشعري المبهر.
ويتمثل ذلك من خلال وعبر مقالاته وكتاباته الثقافية المتعددة, والتي كان يكتبها وينشرها بصورة شبه منتظمة منذ ستينيات القرن العشرين وحتى رحيله في عام 1999م.
وحقيقة لا جدال فيها, يعدّ البردّوني العظيم من أساطين كتّاب “المقالة” الاستثنائيين, في اليمن والوطن العربي, ومن فرسانها الكبار , وممن كتبها ببراعة وجدارة واقتدار, وأمتلك زمامها, وقيادها, وأتقن فنونها بحرفنة عالية ومهارة مذهلة وفائقة الإجادة- وهو ما يدعو للتوقف إزاء ذلك والكتابة عن فن المقالة عند البردّوني, وهو ما ارجوه في القريب-.
إن معظم كتب البردّوني النثرية التي نشرها طوال حياته, كانت فصولها ومحتوياتها في الأصل عبارة عن مقالات ومقاربات سبق وأن كتبها ونشرها في العديد من الصحف والمجلات ,وجمع – فيما بعد –الكثير منها في كتبٍ, ضمن سياقات نقدية وفكرية وأدبية وسياسية, ومدارات محددة ومعينة, كما أراد لها أن تكون وتخرج إلى القارئ صورتها تلك.
4
قد يتساءل القارئ الكريم وهو يطوف بين عوالم هذا الكتاب كيف كان يتسنى للأديب الكبير البردوّني أن يتابع ويكتب عن الكثير من الأحداث والفعاليات والمناشط والإصدارات الثقافية والفكرية والأدبية وهو ذلك الشخص الأعمى القابع في منزله بصنعاء, بعيدا-جغرافياً وزمنيّاً- عن أماكن حدوثها وقلب وقائعها.!؟
والجواب ببساطة ان ذلك يعود إلى عقله الجبار, الذي كان بمثابة مكتبة متنقلة ,وضخمة ,عمرها من عمر البردّوني , منذ أول حرف تهجّاه, ومنذ أول درس تلقّاه ووعاه, وإلى تلك الذاكرة المتوهجة التي اختزنت واعتصرت وهضمت وحفظت الكثير من المعارف والعلوم والتجارب والثقافات والآداب المختلفة طوال مشواره مع الحياة الحافلة بالعطاء، والاستزادة من كل منابع ومناهل ومصادر الثقافة والمعرفة، وكذلك إلى الذكاء والموهبة التي وهبها الله له.. وإلى رصيده وتحصيله العلمي والمعرفي والفكري والثقافي , و إلى اتكائه على رصيد التراث الذي درسه واطلع عليه وغاص في أعماقه وتغوّر وترحّل ورحل معه وفيه, في مختلف عصوره ومدارسه ومذاهبه المختلفة.. وكذلك حرصه على تتبع المسارات الثقافية والفكرية والفنية وتجاربها وإبداعاتها الجديدة والحديثة في مختلف الأقطار والبلدان.. وبالطبع كان رصيده ومخزونه الكبير، الذي امتلكه من القراءات والمطالعات والمتابعات الجادة والواعية للشأن الثقافي والشأن العام والمعرفي داخل وخارج اليمن, هو معينه الذي لا ينضب، الثراء المعرفي وفي الإحاطة والإضاءة والإضافة والتحليل والتفسير لأي مادة يكتبها ..
والى جانب أصدقائه الخُلّص ممن كانوا يقرؤون للبردّوني كل جديد من الكتب والإصدارات ومراجعه, كان جهاز “الراديو” هو صديقه القريب والمقرب والرفيق الدائم والوفي, والذي من خلاله كان البردّوني يرى العالم, ويسمع ويتابع ويطّلع ويتلقّى عبر برامج الإذاعات كل ما يتعلق بالثقافة وشئونها, وكل مايمور في العالم من أحداث ووقائع, ويحرص كل الحرص على مواعيدها والإصغاء لبرامج ثقافية وأدبية وفكرية معينة, تبث طوال أيام الأسبوع من إذاعات عربية وعالمية ناطقة باللغة العربية.
5
في هذا الكتاب الذي يحمل عنوان “شئون ثقافية” وهو الجزء الأول, نقدم للقارئ العزيز مجموعة من المقاربات والمقالات والإضاءات الثقافية المتعددة، للشاعر والأديب المفكر اليمني الكبير الراحل عبدالله البردُّوني, والتي تنوعت موضوعاتها ما بين النقد والمقاربة والمقال الأدبي، والرأي والرؤية الثقافية والفكرية, واستعراض وقراءة المشهد والمناخ الثقافي العربي.. والتي نشرت جميعها في الصفحة الثقافية والملحق الثقافي بصحيفة الثورة, حيث كنت المشرف الثقافي على الصفحة والملحق, وكنت أتلقى مادة البردّوني وانشرها تحت عنوانها الرئيس “شؤون ثقافية”..
وهذه المقالات والمقاربات كتب- شاعرنا وأديبنا الكبير الراحل- معظمها في الأعوام الثلاثة الأخيرة من حياته ,في أواخر تسعينيات القرن العشرين, وذلك منذ أواسط عام 1996م وحتى يوم وفاته في 30-8-1999م, حيث كانت آخر مقالة نشرت له صباح يوم وفاته, وكانت بعنوان” الثقافة تحت القنابل والنجوم” ومازالت احتفظ بمخطوطتها ومسودتها حتى اليوم.
هذه المقاربات والمقالات ترصد وتضيء ذلك المناخ الثقافي والأدبي الذي كان يعيشه ويتابعه ويرصده الراحل الكبير.. وتعكس مدى متابعته لإنتاج ذلك الواقع ولرموزه ومواسم العطاء الثقافي الخلاق, كما تعكس الذائقة الثقافية العالية لشاعرنا وأديبنا الراحل وروعة وقفاته ومقارباته وتناولاته لتلك الثمار والاشراقات التي تذوقها والتقطها بحس فنان وقلب عاشق وتفاعل معها بعقل مستنير, وبروح تواقة لكل فكر مشرق، ولكل إبداعٍ مدهشٍ وفاتنٍ.
مقدمة كتاب شؤون ثقافية.. والذي سيصدر قريباٍ
*مشرف عام منتدى البردّوني الثقافي
المصدر: الثورة نت
إقرأ أيضاً:
الكتلة الثقافية الحرجة
وجدي كامل
“الحرب تسلب الأمم أصواتها الثقافية، وتحول الموروث إلى أطلال.”
– إدوارد سعيد
من حقائق هذه الحرب الدائرة منذ الخامس عشر من ابريل 2023، ان اي محاولة لتقدير احجام الخسائر الناجمة عنها، سوف تصبح محاولة ناقصة، او اقل بكثير مما تقوله التصريحات الرسمية لإعلام الطرفين المتحاربين، أو ربما الجهات الدولية المختصة، أو ذات الصلة. فما تذهب اليه الاحصاءات الفعلية الواقعية من خلال المراقبة اليومية بما يضخ عن الحرب ربما هو الذي يقود إلى جادة صواب التقدير. إنها أعداد مهولة ومتجاوزة تدعو لضرب ناقوس الخطر في الحال. فنحن غالبا ما نكون قد تجاوزنا حالياً درجة العيش تحت وضع الكارثة الى ما بعده. فاينما ستنظر ستجد الفقد كاملا، وبحقيقته العارية الصادمة.
غير ان في الغد ستنجلي المعلومات اكثر عن حجم الضرر البشري والمادي الذي سببته الحرب. ذلك وبلا شك سيشمل أعداد الموتى بسبب قصف أسلحة الطرفين، او بسبب المترتبات الصحية المتدنية، المدمرة التي اوجدتها عمليات التهجير، والنزوح، والتجريد من الممتلكات. كذلك سيكون الفقد المرتبط بالحياة المادية من دمار مؤسسات ، وبيوت ، وموجودات ترتبط بمنجزات الانسان السوداني على مر التاريخ.
غير ان ما يهم هنا، هو التنبيه لمتغيرات الثقافة المادية نفسها في علاقتها بالحرب بتأسيس، وإتفاق مع مقولة فيكتور هوغو بأن “الثقافة تقاوم الحرب، لكن الحرب غالبًا ما تبتلع الثقافة.”
ان الاسلامويين في ثنائيتهم المتحاربة بالجيش او الدعم السريع حققوا للخراب ذات نفسه، امنية عزيزة بجعله قدرا يخص السودان والسودنيين، ضمن اخرين، بما إستطاع سحقه في هذه الحرب من وثائق الهويات التاريخية المتعددة.
ان الخراب في هذه الأيام، وفي النسخ الأحدث، يبدو كعملية إبادة كاملة تستهدف الإنسان والحيوان والارض بما يحفظه باطنها من ثروات.
ما اود تلمسه بالنقد، أوالتفكير النقدي هنا يتصل بتأثير الحرب على الثقافة والقيم بنقد لمقولة “عندما تتكلم المدافع فعلى الموسيقى أن تصمت.”. هذه المقولة المجهولة المصدر، وبحكم تجارب شعوب كثيرة في الحرب او الحروب، تغدو من منتجات النظر السياسي القصير المحدود لماهية العلاقة بين الثقافة، والثقافة الفنية بصفة خاصة، والحرب. فهذا النظر الاحادي البعد يتأسس على افكار تتبنى، او تدعم صحة فرضية أن على الثقافة الفنية أن تكف عن الحديث أثناء الحرب. هذه الفكرة تلغي الدور المناط بالثقافة لعبه في البناء بتجميده وتاجيله لما بعد سكوت البنادق. وهذا يعني أن علي الثقافة الفنية، والتي منها “الموسيقى” ان تصمت أثناء تدفق لغة العنف الحربي.
تلك وفي تقديري نظرة تستبعد فكرة مهمة للغاية عن الحرب كونها تتمظهر بصفة يومية مستمرة ودائمة عبر التخلخل، والتشقق، والتغيير الذي يلحق بالنسق القيمي الثقافي للناس مما ينفي سلامة، وأصالة فكرة تجميد التفكير الثقافي لحين إنتهاء الحرب للبدء في التفكير الثقافي بعدها وإفتتاح أعمال العلاج والتعافي منها.
إن التحولات بالنسق القيمي للناس بازمنة الحرب امر يحدث أثناءها نفسها بما تنتجه من ظواهر أجتماعية، وفنية، وأخلاقية لحماية قيمها، وتصوير نفسها كحرب واقع وكقدر حتمي. فالحرب الحالية، ودونما تمييز للطرفين، او عزل لهما عن بعضهما البعض، هى حرب، وفي العمق الحيوي لها، تقوم على نهب الموارد، وهي وبسبب ذلك الهدف العزيز حرب تعمل على دعم أهدافها الخاصة عبر إنتاج قيمها الأجتماعية، والإقتصادية والفنية والادبية والاخلاقية دفاعاً عن توصيفها الذاتي لنفسها كونها حرب كرامة، بالنسبة للجيش، وحرب تخليص وتخلص من غول الإسلامويين الفلول بالنسبة للدعم السريع.
إن كلى الطرفين في هذه الحرب القذرة يستلهم ثقافة، وقيم، وفنون قتال ثقافي، كما منازلات إعلامية تروج لمحتوياتها بثقافة إعلامية ذات محتوى فني غنائي وموسيقي، وشعري لتأييد، وتحسين موقفه القتالي بالمعركة بما يؤكد صحة مقولة جورج أورويل ” إن الحرب تجعل من الثقافة أداة للدعاية، بدلاً من أن تكون أداة للتنوير.”.
وبما ان المهمة المنتظرة بعد توقف الحرب هي البناء الجديد وليس اعادة البناء كما هو شائع، فإن البناء الجديد يعني البناء على القيم المضادة، القيم المغايرة لثقافة الحرب من كراهية، وعنصرية قبلية، او حتى انعدام الديمقراطية الداخلية بالأحزاب. يقول مارتن لوثر كينغ “إن أسوأ ما تفعله الحروب هو أنها تجعل البشر ينظرون إلى بعضهم كأعداء، بدلاً من شركاء في الإنسانية.” ذلك اذن يقترح ان النشاط الامثل لمقاومة تلك الكراهية يتمثل في أن ننشط أثناء الحرب نفسها لبث روح الإخاء والوحدة في المجتمعات.
ان المواد المكونة للنسق الثقافي القديم، واعني به النسق الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والفني الذي ساد تصبح جميعها من عداد الماضي. الماضي الذي ساهم بكلياته في اعداد حالة الحرب، ان لم هو ما تسببت في إشعالها أصلاً. ولكن فإن تيارات ومجموعات التفكير السياسي القصير النظر عندنا، ما تفتأ ان تستخدم كماضي ملهم ل “اعادة البناء” بإعتباره مكونا ذا “أصالة” وافضلية. ان ذلك موقف يستبعد ديالكتيك الحرب وما تولده من انساق قيمية جديدة باتت تشكل الحاضر القيمي الثقافي بما نكاد نشاهده، ونشهد عليه، ونتابعه، ونتعرف على عروضه البائسة عبر الميديا الجديدة بهذه الايام وما تضخه من غرائب وصدمات.
ان الحقائق اليومية المستخلصة من هذه الحرب هذه تشير الى استمرارها، واستمرار تدهور البنى البشرية والمادية معا ، مما يضع مهمة البناء بالمستقبل لا تبدا مع سقوط النظام الثنائي لحرب الاسلامويون ضد بعضهم البعض* جيش دعم سريع*، بل يجب ان تترافق مع ما يقع من هدم يومي بوجود قوة ثقافية ما، اقرب ما تكون للقوة الثقافية لمكافحة الانهيارات بسبب الحرب، وعلى ذات قاعدة مكافحة الظواهر التي تصنعها الحرب للامراض النفسية والفيزيائية المرتبطة بها وباستمرارها.
هنا اجد أننا سنكون بحاجة لإطلاق ما يمكن تسميتها بالكتلة الثقافية الحرجة التي يجب ان تتنظم للقيام بمهمتها المركزية في الدرء والتخفيف لآثار التدمير القيمي الثقافي الذاتي اليومي. فالدمار او الخراب لم يلحق فقط بقيم السياسة الشاخصة المرئية للجميع. ولكن بقيم الثقافة الاجتماعية التي تذروها الرياح وتتبدل وتتغير يوميا مع هذه الحرب، وبحيث تنتج نسقها القيمي المناوئ للتطور والتقدم. ان من المهم الإبقاء والصيانة للقيم الكبرى هنا والمتمثلة في الحرية والسلام والعدالة ولكن، على الحيز الاجتماعي لمجتمعات العيش والبقاء تحت القصف، ومجتمعات النزوح بالداخل والخارج والتي بدون وجود الكتلة الثقافية الحرجة سوف يكون ما نقوم به من جهود سياسية كما الحرث في البحر.
ان قمة جبل المأساة في النظام السياسي الثنائي المتورط في ادامة الحرب ينشط بمن يسانده ويؤيده من مجتمعات مصالح محلية، واقليمية، وعالمية، وان التخلص من كل ذلك، ومحاصرته لأجل إيقاف الحرب امر مهم وواجب بالطبع. ولكن التفكير السياسي الاستراتيجي الفعال يجب ان يعمل على معالجة الانساق الثقافية الاجتماعية المنهارة بشكل يفوق التوقع والوصف أثناء الحرب في حال اتباع تفكير سياسي قائد جديد . فقيم الفرد والجماعة اذا لم تتحرر من قيم الحرب، ويتم طرد الحرب نفسها من تلك القيم في أثناء إشتعال الحرب سنكون في إنتظار السلام المنقوص. سلام الخيبة والخيبات، وأعني به السلام السياسي. فمثل هذا السلام الذي تجتهد السياسة القديمة لتحقيقه. هنا علينا تذكر شعار اليونسكو القائل بأن الحرب: “تبدأ في عقول البشر، ولذلك يجب أن تبدأ ثقافة السلام من هناك أيضًا.”.
إن ثمة اوقات اخرى ستكون في انتظار السلام السياسي ولكنه انتظار لن يكون بأسلحة بيضاء، ويمعركة بريئة تخلصنا منها نوايا السياسي صاحب الحسابات الآنية، ذلك المتعجل للتكوين والمشاركة وتقاسم المناصب في الحكومات. ما أعنيه ان تلك معركة اخرى جديدة تحتاج منذ الان الى اعداد مبكر في الوعي الثقافي الذي عليه أن يبحث عن تكوين كتلته وتمثيها بكافة مستويات العمل السياسي المقاوم للحرب. ان تأجيل المعركة مع النسق القيمي للحرب، هو ذات ما ترمي اليه غايات الاسلامويين من الطرفين في سباقهما المحموم للانفراد بالسلطة او بالتاثير في التشكيلات السياسية المكونة لسلطة ما بعد الحرب حتى تضمن عدم المساءلة عن جرمها الضخم الذي ارتكبته.
ان ما يستدعي التفكير والانتباه في ذات الوقت، هو ادراك، ومعرفة ان الطرفين المتقاتلين يعملان ضمن موقف ثقافي واحد. انه موقف غير معني وفي اطار ذاك النسق بفكرة الجودة، أو التحسين القيمي الثقافي. كلا الطرفين بما يحتويانه من موقف بائس من دمقرطة جودة الحياة نفسها سينصرفان الى غاياتهما الساخنة، لمراكمة اكبر قدر من الحماية، والمحافظة على ما تم نهبه، وارتكابه من جرائم، وإن افضل ما يمكن أن يفعلاه هنا توظيف الأخلاق والقيم بما يخدم مصلحتهما كمنتضرين، وليس توظيف الاخلاق المعبرة عن مصالح الشعوب السودانية وحقها في محاكمتهم. كل ذلك يؤكد أن المعركة الحالية، ومن الناحية الفعلية معركة مدنية ديمقراطية صرفة وحصرية بامتياز، *معركة أكثر من حرب بالنسبة لنا. انها معركة تكشف، وبجلاء، ان اعتبار أن لحظة وضع الحرب لاوزارها هي اللحظة المثالية للبدء في الانخراط ( سياسيًا) بغرض ايجاد الحلول والمعالجات الثقافية النفسية والذهنية، أمر سيعد وبلا ريب كارثة ومأساة لا تقل عن اي كارثة ومأساة أخرى تنبئ عن مجيء حروب مستقبلية، حروب سندفع أثمانها مجددا الأجيال القادمة كونها حروبا محتملة.