موقع النيلين:
2025-01-15@21:10:21 GMT

الشفشفة: التفكيك العاقب لـدولة الإنقاذ (1-2)

تاريخ النشر: 15th, December 2024 GMT

ملخص
هذه الشفشفة ممارسة في هذه الحرب لم تستقل بتحرٍّ خاص فيها لمعرفة أوثق بنظام “الإنقاذ” الذي هو ليس أطول عهود الحكم في دولة 1956 إذا شئت فحسب، بل مكّن بنيات في الدولة والسياسة والثقافة ستبقى معنا لزمن طويل.

تكرر على فيديوهات مذاعة وقفة مجند في “الدعم السريع” أمام مشهد لجماعة من المدنيين ممن يسمونهم “المتفلتين” اعتقلها وفي حوزتها مسروقات من أسواق أو أحياء.

ومع أن أخذ حق الناس مما لم يسلم منه منسوبو “الدعم السريع” أنفسهم إلا أن عبارة المجندين الذين ظهروا على تلك الفيديوهات عن نذالة الحرامية ترن صادقة. وفي بعضها اشمئزاز يمثل الخلق الديني مما يرون يجري من نهب أمامهم وباسمهم بغض النظر عن توظيف مثل هذه الفيديوهات بواسطة قيادة “الدعم السريع” لتبرئة ساحتها مما تسميه “الظواهر السلبية” التي التبست بهم جراء خسائس هؤلاء المتفلتين وخفة يدهم. بل أنشأت هذه القيادة إدارة باسم “محاربة الظواهر السلبية” لتطهر اسمها من فسوق هؤلاء المتفلتين.

فيديوهات وظواهر
وقف في فيديو أخير مجند دعامي على مشهد في سوق مدينة ود مدني التي احتلتها “الدعم السريع” يقرع جمعاً من فقيرات النساء وأطفالهن وغيرهن على كسرهن لدكاكين السوق ونهبها. فقال، وهو يمر عليهن وعلى منهوبهن بعدسة موبايله، إن هؤلاء مواطنين استباحوا السوق وسيخرج من يقول إنه من عمل “الجاهزية”، وهو اسم آخر لـ”الدعم السريع”.
جاء مجند “الدعم السريع” بعبارة من شأنها أن نطالع منها صورة للحرب غير تلك التي اقتصرت على انتهاكات “الدعم السريع”. فقال المجند، وهو يطوف بجماعات المدنيين الناهبة، إن المواطنين هم أنفسهم “ظواهر سلبية” لا تتورع عن أخذ ما ليس حقها متى ما سنحت السانحة وأين.

جاء ذكر مثل هذه الظواهر السلبية في الأدب التاريخي الإسلامي. فعرفوا بـ”العياريين” ومفردها “عيار” وهو في اللغة الرجل كثير الحركة. وتمدح العرب به وتذم. فيقال رجل عيار في المعاصي كما يقال إنه عيار في طاعة الله. وجاء ذكرهم عند المقريزي ك”الزعار”. كما يسمونهم “الرعاع والأوباش والطرارين”. كما يسمونهم “الفتيان”. فظهر العيارون في بغداد بعد فتنة الأمين والمأمون (809) في شبه تنظيم عسكري ليتحولوا إلى عصابات. وسموهم “الشطار” أيضاً. ولأخذهم أموال الناس قيل عن شطارتهم إنها “شطارة فسق”. أما “الزعار” فظهروا بعد فتن أعقبت وفاة السلطان الظاهر برقوق (1399) في مصر ثار فيها أهل الريف تحت وطأة الضرائب وانتشرت عصابات النهب من “الزعار وقطاع الطرق”.

والأقرب إلى ظاهرة “زعار” السودان وعيارييه في يومنا الحداثي هذا هو مفهوم “فائض البشر” عن أهل المدينة الذين هم عند الاقتصاديين الكلاسيكيين منتج، أو بثور، بداية النظام الرأسمالي في بلد ما مرزؤ بالفقر والعطالة. وهم من جاء مالتس (1766-1834) بنظريته عن سبل الطبيعة في التخلص منهم كفائض عن الحاجة. أما ماركس فكان سيئ الظن بهم فسماهم الـ”بروليتاريا الرثة” ليميزهم عن طليعته الـ”بروليتاريا”، أو القاع الطبقي في معنى الرعاع، وجعلهم من أدوات الرجعية. وأعاد كلايد دبليو بارو المفهوم إلى دائرة البحث بكتابه “الطبقة الخطرة: البروليتاريا الرثة” (2020).

وهكذا فنحن حين نتكلم عن “المواطنين الظاهرة السلبية”، فإنما نتطرق إلى فئة اجتماعية حضرية ادخرت تظلمات من دولة استدبرتها لتنتهز سانحة سقوطها كما حدث لحكومة السودان على يد “الدعم السريع”، لتفرغ غبنها بيدها.
من أين جاء هؤلاء المواطنون ذوو السمعة السيئة؟

جاؤوا جسداً كنازحين من حروب السودان الأهلية في جنوب السودان وجبال النوبة ودارفور التي تفاقمت خلال فترة دولة الإنقاذ بمعدلات هندسية. وسكنوا عشوائياً حول المدن في الشمال بما عرف بـ”الحزام الأسود” الذي لم تتورع بعض الدوائر عن إرعاب الناس منه بما قد يتولد من عنف عنه. وكان ذلك دافع الحركة الإسلامية للتعاقد مع الأكاديمي عالم الاجتماع المسلم عبده ملقم سيمون لينصحها حتى في الثمانينيات حول تصميم استراتيجيتها للتعامل مع هذا الحزام. وقال سيمون إنهم لم يحسنوا الإصغاء إليه وأهملوه ثم تركوه. وكتب عن تجربته مع ذلك “الحزام الأسود” في كتاب مميزبعنوان “في أي صورة؟ الإسلام السياسي والأنشطة الحضرية” (1994).

“باسم توبة الدولة إلى الدين”
وجاؤوا في رزقهم المقتر من دولة الإنقاذ التي أسقطت عنها كل تكليف من تكاليف الولاية على الناس. فحكمت باسم توبة الدولة إلى الدين، حكماً مطلقاً أساء إلى حس الناس بمواطنتهم. وألقت بهم في فيافي الاقتصاد الهامشي لينصرف طاقمها إلى أكل أموالهم بينهم بالباطل. وجرى وصف دولة الإنقاذيين بالفساد. وهو تهوين كثير من إفراطها فيه حتى انقلب إلى شيء آخر. فالفساد يقع كجريمة في بلد ماله العام في حفظ ولاية الدولة وصونها. فيطاول القانون من خرق القانون واستولى على مال بالحرام. ولم تكن “الإنقاذ” دولة لها ولاية على المال العام. فمكّنت منه الحاكم وبطانته بالتجنيب والشركات الحكومية وسبل أخرى مما سنرى. وربما لم يصح عليها حتى وصفها بمصطلح حديث هو “الفساد المتوحش”. فاستباحة المال العام على ذلك النحو شديد الإفراط جعل من الإنقاذ “دولة لصوص” kleptocracy في مصطلح علم السياسة الأفريقي. فهي ليست دولة فاسدة وكفى لأن الفساد فيها صار عاملاً من عوامل الإنتاج عن فكرة أذاعها الأكاديميان الواثق كمير وإبراهيم الكرسني في الثمانينيات سميا فيها الفساد في الدولة بـ”العامل الخامس للإنتاج” (الأرض والعمل ورأس المال وودبارة الاستثمار). وأرادا بذلك أن الفساد ليس مجرد اختلاس مال عام، بل عاملاً ينتج الثروة لطائفة من ولاة الأمر بقوة السلطة.
ونواصل
كتاب الواثق كمير وإبراهيم الكرسني الذي طرح فكرة أن الفساد عامل من عوامل الانتاج في مثل دولتنا واقتصادها.

عبد الله علي إبراهيم

إنضم لقناة النيلين على واتساب

المصدر: موقع النيلين

كلمات دلالية: الدعم السریع دولة الإنقاذ

إقرأ أيضاً:

هل من مشروع سياسي للدعم السريع؟

خالد فضل

لا يمكن الزعم بوجود مشروع سياسي لقوات الدعم السريع، فطبيعة تكوينها حامية لمشروع الاستبداد الإسلامي طبعة المؤتمر الوطني، تجعل منه امتداداً طبيعياً لذلك المشروع. في الواقع فطن حميدتي إلى وضعية استغلاله كحارس لمشروع لم ينتم إليه فكريا، وطوّر إمكانات قواته حتى صارت قوة ضاربة؛ لأنّه اكتشف طبيعة المشروع الذي استخدمه كخفير عند بواباته، يفزع ضد مساكنيه من قبائل الزرقة في دارفور تحديدا مستغلين دوافع ومبررات الدفاع عن النفس والقوافل التجارية والاستهداف العرقي للعناصر العربية من جانب بعض منسوبي حركات الكفاح المسلح؛ ومعظمها من مجموعات الزرقة. عرف حميدتي أنّ من يستخدمونه يريدونه هكذا، يحمي ويحرس سطوتهم وثروتهم، ولا يهم ما يحدث، لذلك أطلق له العنان، وتمّ تقريبه من البشير تحديدا ليخدم الأغراض الشخصية والمطامع الذاتية لذاك الرئيس المخلوع،

ثم إن حميدتي عرف تهافت وضحالة وفراغ ما تنطوي عليه ما يعرف بمؤسسات الدولة المدنية منها والعسكرية، وخبر جوهرها فوجدها تنطوي على نقائص فادحة، إذ تسود فيها العنصرية والجهوية والعرقية والقرائبية والحزبية الإسلاموية بصورة لا يمكن مداراتها والتستر عليها، فجاء سعيه لتمكين قواته على مستوى القيادات تحديدا على نفس المنوال، ولذلك ليس غريبا أن يكون معظم مستشاريه من كوادر المؤتمر الوطني عبر بوابات القرابات القبلية والجهوية، فتلك هي السنّة الماضية في كل أجهزة الدولة. وعندما طرح فكرة القضاء على دولة 56 في أتون هذه الحرب، كان لديه ما يسعفه من الشواهد والخبرة وسط دهاليز تلك الدولة العقيمة، لكن يبقى عنصر الجدية والمصداقية هو ما يحول بين اقتناع الناس بحديثه، ضف لذلك الممارسات الوحشية والهمجية المنسوبة لقواته؛ مما شكّل عنصرا إضافيا في بناء حاجز نفسي موجود أساسا في المشاعر العنصرية والجهوية وبنية وعي وتفكير معظم سكان الوسط والشمال ضد (الغرّابة) عموما، ولدرجة لا تسمح لهذه العقلية المغلّفة بالعواطف أن ترى غلبة العناصر العربية في جل مكونات الدعم السريع، عرقيا نلحظ أنّ عرب الماهرية مثلا لا يكاد تمييزهم من عرب الشكرية أو الدباسين في مناطق الجزيرة، لكن غلبة روح العنصرية وداء الجهوية المستحكم في النفوس يحول دون رؤية مثل هذه المشتركات العرقية.

المهم أنّ ادعاء قيادات الدعم السريع بأنها تخوض حرب تحرير ضد دولة 56 لا تجد آذانا صاغية لدى الأوساط التي نشأت وتمتّعت بامتيازات تلك الدولة المختلة فعلا، كما أنّ الدعم السريع كقوة عسكرية لا يمتلك التأهيل الفكري والنظري والسياسي الملائم لطرح مشاريع كبيرة كهذه، فإعادة بناء السودان على أسس جديدة وجد حظّه بصورة معمّقة في أطروحات الحركة الشعبية لتحرير السودان وقائدها الفذ الراحل د. جون قرنق، وهي الأدبيات التي وجدت طريقها إلى أدبيات معظم القوى المدنية الديمقراطية والتكوينات الشبابية والمدنية الأخرى، فليس هناك جديد قدّمه الدعم السريع سوى مضمضمة شفاه لا تسمن ولا تغني عن تحميله وزر ما ارتكب من فظائع وانتهاكات ضد المدنيين، وفيهم من ينادي فعلا ببناء السودان الجديد على أنقاض دولة 56 البالية.

في المقابل، لن يجتهد المرء كثيرا ليرى بأم عينيه أنّ الجيش يحمل مشروعا سياسيا واضح المعالم، فحواه بصورة لا تحتمل التأويل، هو إعادة تشغيل وتفعيل مشروع دولة الإسلام السياسي ماركة المؤتمر الوطني. ولن تستطيع بعض قيادات الجيش الفكاك من أسر هذا المشروع وإنْ سعت لذلك، السبب بسيط هو أنّ معظم القيادات العليا في مؤسسة الجيش والأمن والشرطة هي جزء أصيل من ذلك النظام والتنظيم، هذه هي الحقيقة في تقديري، ولذلك فإنّ السطوة البارزة لعناصر التنظيم خلال هذه الحرب لم تنبع من فراغ أو شطارة أو رجاله _كما زعم زاعمهم من قبل_ بل نجمت من طول عمر وعمق الدولة البائسة المنهارة الفاسدة، نعم كثير من الديكتاتوريات؛ على بؤسها، جثمت على صدور الشعوب لمئات السنين؛ لأنها أنهكت القوى الحية وسط الشعوب، واستهلكت طاقاتها المبدعة وقدراتها على البناء في مقارعة تلك الأنظمة لشق الطريق إلى النور، وهو ما حدث في السودان الآن بشكل لا يخفى إلا على عمي البصيرة، فالحرب أشعلت أساسا ضد طريق الحرية والعدالة والسلام الذي اختطه ثوار ديسمبر.

وبحسب التقديرات الميدانية تم تحليل الوضع بأنّ وجود قائد الدعم السريع بقوته الضاربة، وطموحه الزائد بأن يكون له موطئ قدم في مستقبل إعادة بناء السودان سيشكل عقبة كؤود أمام استئناف مسيرة عصابات التمكين عبر استعادة دولة المؤتمر الوطني على نسق الدولة العقيمة بامتيازاتها الحصرية، ولربما استقوت القوى المدنية في خطتها لتفكيك التمكين بالدعم السريع باعتباره قوة مكافئة لجبروت وعنجهية مؤسسات الإسلاميين العسكرية والأمنية.

وقد تمت عدة تمارين في هذا الاتجاه، مثل حل هيئة العمليات ذات الطبيعة التنظيمية القحة، وكشف عدد من التحركات الانقلابية لضباط الجيش من الإسلاميين، وغيرها من شواهد، ويبدو أن محاولات إستئلاف حميدتي وترويضه قد فشلت لذلك كان لا بد من إشعال الحريق على فرضية عليّ وعلى أعدائي كأقل تقدير، واستغلال ما بدا وكأنه تمرد على سطوة من أنجبوه ليخدم أهدافا محددة، وتوافق ما بدأ يطرحه مع معظم الأطروحات السائدة وسط القوى المدنية الديمقراطية من ضرورة تفكيك نظام التمكين، وإصلاح المؤسسات العسكرية والأمنية، وبناء جيش قومي مهني موحد، وحظر المؤتمر الوطني عن المشاركة خلال الفترة الانتقالية، وخروج العسكر من السياسة والاقتصاد وغيرها من أدبيات ظلت موجودة في سرديات القوى المدنية الديمقراطية من قبل أن يتحدث عنها حميدتي، لكن هذه الحقائق يجب طمرها مباشرة، والحديث عن القوى السياسية المدنية الديمقراطية كحاضنة سياسية وذراع سياسي للدعم السريع، وبقدرة التضليل الهائلة تمّ إقناع كثيرين بهذا الزعم، لأنّ مجرد التفكير في كيف لقوة عسكرية عمرها بالكاد عشر سنوات أن يكون ذراعها السياسي تنظيمات سياسية مدنية عمرها حوالي ثمانين عاما!! هذا استعباط للناس وتجهيل فوق جهالة، فلو قالت الدعاية والتضليل إنّ الدعم السريع استلف أدبيات هذه القوى ليبرر بها حربه مثلا لقلنا هذا تحليل موضوعي، فهل المطلوب في هذه الحالة أن تتخلى هذه القوى عن أطروحاتها؛ لأن الدعم السريع قد استغلها؟ هل يترك الناس الإسلام؛ لأنّ إسلامي السودان _ بصورة خاصة_ قد أسأنا استخدامه أيما إساءة!!

الوسومخالد فضل

مقالات مشابهة

  • مساعد لبوتين: أوكرانيا ستزول هذا العام ومولدوفا ستصبح تابعة لدولة أخرى
  • البرهان: الحرب لن تتوقف إلا بالقضاء على «الدعم السريع»
  • مدني عباس: تجربة الدعم السريع مع ولاية الجزيرة كانت تجربة مريرة
  • تظاهرات الانتقالي في عدن… استثمار لمطالب الناس ومتاجرة بمعاناتهم
  • عواطف: إسم جديد لدولة عربية
  • هل من مشروع سياسي للدعم السريع؟
  • تغيير الوضع السيء للشعوب والمجتمعات والقضاء على الفساد
  • هزائم متتالية لمليشيات الدعم السريع
  • متاوى يرد على قائد الدعم السريع
  • أيها الإسلاميون بشروا ولا تنفروا: ود الحسين والظاظا لمقدم الشرطة عبد الله سليمان (2-2)