«الآن يمكنني أن أموت وأنا مرتاح»
تاريخ النشر: 15th, December 2024 GMT
«الآن يمكنني أن أموت وأنا مرتاح»، هي العبارة التي قالها المحامي الفرنسي الراحل جيل دوفير، بعد إصدار المحكمة الجنائية الدولية مذكرات اعتقال ضد بنيامين نتنياهو رئيس وزراء الكيان الإسرائيلي ويوآف جالانت وزير الحرب الإسرائيلي السابق بتهمة ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، حيث اعتبر دوفير ذلك اليوم «عيدًا» سعى لتحقيقه منذ سنوات طويلة، إذ أثمرت جهودُه بصدور قرار المحكمة الجنائية الدولية بحقِّ المجرمَيْن، يوم الخميس الحادي والعشرين من نوفمبر 2024، قبل خمسة أيام فقط من رحيل المحامي دوفير، الذي كرّس حياته للدفاع عن القضايا الإنسانية وعلى رأسها القضية الفلسطينية، فكان أبرز المدافعين عن القضية في المحاكم الدولية وأكبر المناصرين لحقوق الفلسطينيين.
في الوقت الذي كان يُنتظر فيه من العرب أن يتبنّوا قضية أشقائهم الفلسطينيين في المحافل الدولية، بعد أن تغنّوا سنين طويلة أنّ القضية الفلسطينية هي قضيتهم الأولى، كان المحامي الفرنسي جيل دوفير أول من أدخل هذه القضية إلى المحكمة الجنائية الدولية في عام 2009، وخاض معركة قضائية للاعتراف بدولة فلسطين في الهيئات القضائية الدولية، ونجحت جهودُه حين أقرّت المحكمة الجنائية الدولية في فبراير 2021، أنّ فلسطين دولة ذات سيادة كاملة تمتلك صلاحية قانونية على الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس الشرقية. ولأنه كان مؤمنًا بعدالة القضية الفلسطينية، فقد قاد دوفير مجموعة مكونة من 350 منظمة غير حكومية يمثلها أربعون محاميًا كانوا يتولون مسؤولية التعامل مع طلب العدالة المقدّم إلى المحكمة الجنائية الدولية بتكليف من السلطة الفلسطينية ونيابة عنها بشأن جرائم الحرب التي ارتُكبت خلال حرب غزة بين عامي 2008 و2009.
لم يُصب الرجل بكلل أو ملل؛ ففي يوليو 2014، قدّم شكوى ضد إسرائيل بشأن حربها على غزة في العام نفسه والتي استمرت 51 يومًا، شن خلالها جيش الاحتلال أكثر من 60 ألف غارة على القطاع، وأدت الشكوى إلى تحرك إعلامي عالمي كبير وخلقِ ضغوطٍ على محكمة العدل الدولية، ممّا أدى إلى انضمام فلسطين إلى «نظام روما الأساسي» في 2021، المعني بإنشاء محكمة جنائية دولية، وكان ذلك الانضمام أحد الأسباب الرئيسية لقرار المحكمة الجنائية فيما بعد باعتقال نتنياهو وجالانت. وبالرغم من أنّ المحامي الفرنسي الراحل عمل على مذكرات الاعتقال منذ عام 2009، إلا أنه تحرّك بشكل مكثف وبأسلوب مختلف على هذا الملف بعد أحداث السابع من أكتوبر 2023؛ فمع بدء الكيان في ارتكاب جرائمه بحق الشعب الفلسطيني، قاد دوفير بعد شهر واحد من الحرب مجموعةً قانونيةً مؤلفةً من جمعيات حقوقية وأكثر من 500 محامٍ من كلّ أنحاء العالم إلى المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي، وقدّم في نوفمبر 2023 دعاوى ضد مسؤولين إسرائيليين في المحاكم الدولية وعلى رأسها الجنائية الدولية، بسبب تلك الحرب والجرائم التي ارتكبها الكيان ضد المدنيين.
ما الذي يدعو رجلًا مثل جيل دوفير أن يكرّس حياته للقضية الفلسطينية، في وقت تخلى فيه بعض العرب عن القضية؟! إنها «الإنسانية» التي تحلى بها، إذ آمن أنّ الوقوف إلى جانب الحقّ الفلسطيني واجب إنساني، ويحتاج ذلك الوقوف إلى شجاعة ونقاء في الفطرة الإنسانية، وهي الفطرة التي فجّرت ينابيع الغضب في شوارع وميادين مدن وعواصم وجامعات العالم، وجعلت الكوفية الفلسطينية شعارًا للأحرار وغزة شعارًا للحرية.
ولأنّ دوفير كان «إنسانًا» في كلّ توجهاته، فقد بدأ حياته المهنية ممرِّضًا قبل أن يقرر التحول إلى مجال القانون، وعمل أستاذًا محاضرًا في جامعة «ليون 3» الفرنسية، وأشرف على كثير من الأبحاث الأكاديمية فيها، وشغل منصب رئيس تحرير مجلة «القانون: الأخلاقيات والرعاية»، وكتب عددًا من المؤلفات القانونية ونشط في ثلاثة مجالات رئيسية هي القطاع الصحي والاجتماعي، والدفاع عن الحريات، والقضايا المتعلقة بالقانون الدولي لا سيما المتعلقة بفلسطين، وهي مجالات تدافع عن الإنسان؛ وهذا قاده -وهو المسيحي- أن يكون محاميًا لمنظمة تسعى لحماية حقوق المسلمين ومكافحة التمييز العنصري ضدهم وضد «الإسلاموفوبيا»، وقدّم استشارات قانونية ومثّل منظمات إسلامية، منها «المسجد الكبير في ليون» بعد أن صنفته وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون) «موقعًا مفترضًا لتجنيد منظمات إرهابية».
رحل المحامي الدولي جيل دوفير عن العالم، وهو مرتاح الضمير، وحَقَّ له أن يرتاح. صحيحٌ أنه لم يشاهد اعتقال نتنياهو ولا جالانت، لكن يكفي أنّ جهوده أثمرت عن صدور قرار مثل هذا، الذي كان حتى فترة قريبة من المستحيلات. ورغم العقبات التي واجهت الفريق القانوني ورفض الطلبات التي تقدّم بها في ملف الجنائية الدولية، فإنّ دوفير تميّز بإصراره في الاستمرار وعدم الاستسلام، لاعتباره أنّ «نخوة الشعب الفلسطيني أهم من نخوة المحامين» كما نقل عنه صديقُه المحامي الجزائري عبد المجيد مراري، لموقع «الجزيرة نت»، والذي يُعدُّ من أقرب المحامين إليه وأكثرهم عملًا معه، ووصف مراري دوفير بـ«دينامو الفريق القانوني»، قائلًا: «كان يسأل عندما نتراخى، ويكتب مذكرات من مئات الصفحات عندما نتكاسل، وفي هذه القضية مارس الضغط على أعضاء الفريق لجمع الأدلة، وعمل على تنسيق الأدوار فيما بينهم رغم كلّ المشاكل الصحية التي كان يعاني منها آنذاك».
وإذا كان عمل الإنسان ينقطع عنه إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له، فإنّ دوفير ترك أثرًا طيبًا في حياته بمناصرته الحقيقية للشعوب المظلومة، وعلى رأسهم الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة، كان صادقًا في نضالاته ووفيًّا لمبادئه، وترك وراءه إرثًا نضاليًا وحقوقيًا لن يُنسى، وستظلّ مواقفه الشجاعة، خاصة بعد العدوان الإسرائيلي على غزة في أكتوبر 2023، حاضرة في ذاكرة الشعب الفلسطيني ومؤيدي قضيته العادلة حول العالم. ومثل دوفير لا ينبغي للشعوب الحرة أن تنساه؛ فيكفيه أنه نجح في ملاحقة الاحتلال الإسرائيلي في المحافل الدولية وفي إثبات تهمة ارتكاب جرائم الحرب والإبادة الجماعية بهذا الاحتلال وقادته. ومن أقواله: «غياب الماء والغذاء والرعاية الطبية والكهرباء، والنقل القسري للسكان تحت تهديد السلاح، مصحوبًا بخطاب نزع الإنسانية، يمثل التعريف الدقيق للإبادة الجماعية».
عاش جيل دوفير عظيمًا وكانت همته عظيمة، وحتى في لحظاته الأخيرة، -وهو بين الحياة والموت- قبل إجراء أخطر عملية له في المستشفى، كان ملف «حي الشيخ جراح» في القدس الشرقية آخر ما تحدّث عنه.
وإذا كان الفيلسوف الفرنسي بول فاليري يرى أنّ الرجل العظيم هو من يترك الآخرين في حيرة بعد وفاته، فإنّ الحيرة التي تركها المحامي جيل دوفير هي إنسانيته التي جعلته يكافح أكثر من ثلاثة عقود لإحقاق الحقِّ الفلسطيني، في وقت نرى فيه مِن المسلمين مَن يقول بكلِّ جرأة ووقاحة: «ستُسألون في القبر عن البول لا عن فلسطين»، وكأنّ البول أهم من دماء المسلمين التي تراق بغير حق وأهم من المقدسات الإسلامية التي تدنس وتستباح كلَّ يوم. والسؤال هو: من هو «الإنسان» الحقيقي؟ الذي يقف ضد إزهاق أرواح الأبرياء، رغم اختلافه معهم في الدين والعقيدة واللغة ويدافع عن المسلمين ومساجدهم في فرنسا، أم المتدين المزيّف صاحب اللحية الطويلة الذي يهاجم ويشمت بالضحايا، ويرى أنّ البول أهم من دماء الأبرياء!
زاهر المحروقي كاتب عُماني مهتم بالشأن العربي ومؤلف كتاب «الطريق إلى القدس»
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الشعب الفلسطینی جیل دوفیر
إقرأ أيضاً:
بتهمة ارتكاب جرائم حرب في غزة..مطالبة الجنائية الدولية باعتقال درزي إسرائيلي
رفعت مؤسسة "هند رجب"،المؤيدة للفلسطينيين، طلباً إلى المحكمة الجنائية الدولية لاعتقال اللواء غسان عليان، رئيس هيئة تنسيق أعمال الحكومة الإسرائيلية في المناطق الفلسطينية، بتهم ارتكاب "جرائم حرب" في غزة.
وذكرت المؤسسة أن عليان كان في إيطاليا لحضور اجتماع، بحسب صحيفة "تايمز أوف إسرائيل".وقال رئيس المؤسسة، دياب أبو جهجه، في تصريح لبرنامج "ديمقراسي ناو" الأمريكي ذي التوجهات اليسارية: "رفعنا قضية ضده في المحكمة الجنائية الدولية، وطالبنا بتفعيل أي مذكرة توقيف قد تكون موجودة ضده، أو إصدار واحدة جديدة. كما أبلغنا السلطات الإيطالية بذلك."
يُعد عليان أحد أعلى الضباط رتبة في الجيش الإسرائيلي الذين تستهدفهم المؤسسة، وهو درزي إسرائيلي، وسبق له أن ترأس وقاد لواء غولاني الشهير، في الحرب التي تواصلت 50 يوماً بين إسرائيل وحماس في 2014. سابقة تاريخية.. درزي قائداً للجيش الإسرائيلي بالضفة
كما دعت المؤسسة علنًا إلى اعتقاله عبر إكس متهمة إياه بارتكاب "إبادة جماعية وجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية."
في المقابل، تنفي إسرائيل بشدة هذه الاتهامات، مشيرة إلى جهودها لتجنب إصابة المدنيين أثناء الحرب ضد حركة حماس، التي بدأت في 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023.
كما تتهم إسرائيل حماس باستخدام المدنيين كدروع بشرية خلال القتال.