تراتيل.. مسرحية تونسية عن تناقض القيم الغربية
تاريخ النشر: 15th, December 2024 GMT
أثارت مسرحية "تراتيل" التي عُرضت خلال أيام قرطاج المسرحية في "شارع الحبيب بورقيبة" بالعاصمة التونسية جدلا واسعا على وسائل التواصل، لما يحتويه نصها على قضايا وطنية وعربية وفضح لقيم غربية متناقضة.
المسرحية -التي أعدها وأخرجها الممثل المسرحي التونسي "مهذب الرميلي" بمشاركة تلاميذ معهد الفنون بالعمران- سلطت الضوء على مفاهيم ثقافية وفنية عميقة تفضح تناقضات الجماليات الغربية، خاصة في ظل الممارسات الإسرائيلية في فلسطين.
ويرى الرميلي أن الفن موهبة تتطور بالبحث والممارسة، وأن الانتساب للمسرح يستوجب الحد الأدنى من الإدراك المعرفي والإلمام بحيثيات مختلف مجالات الفن، حتى يكون الفنان قادرا على التأثير الإيجابي في واقع المجتمع.
وتساءل في حديث سابق "لأثير الجزيرة" عن مدى فاعلية وضرورة المسرح وغيره من الأشكال الفنية في مجتمعاتنا اليوم، مؤكدا أن الفن "إما أن يكون سلاحا حضاريا أو أن يكون حالة مرضية".
وفي حديث لوكالة الأناضول اعتبر أن "تراتيل" كان من المفترض أن تُعرض في القاعات، ولكن قرر فريق العمل عرضها في الشارع لما تتيحه من تفاعل مباشر مع الجمهور.
وأشار إلى أن المسرحية تستوحي عناصرها من الأساطير اليونانية، وخاصة أسطورة "أوديب ملكا" للكاتب المسرحي سوفوكليس.
إعلانوأضاف الرميلي "العمل يطرح نشأة المسرح وعلاقة الأسطورة به، ويعيد النظر في تأثير الجماليات الغربية على الفن المعاصر".
ومن حيث استغراب الأزياء والحوار، أحدثت "تراتيل" ضجة على وسائل التواصل في تونس، وطرحت تساؤلات عديدة لا سيما عن ارتداء الممثلين ملابس حيكت من قماش أكياس القمح.
وعلق الرميلي معتبرا أن التلاميذ قدموا أداء جيدا والشارع تفاعل معهم بإعادة ترديد بعض نصوص العرض، وبعض النساء كن يزغردن، إلا أن البعض أخذ مشاهد صغيرة، ونشرها على وسائل التواصل الاجتماعي، وانساق مع استهجان العمل وطرح تساؤلات سلبية حوله.
وقال "انطلاقا من استلهام الأساطير، بنينا فرضية أخرى لجمع أحداث تلك الأساطير، مع إسقاطات على الواقع اليومي والدولي، باعتبار أن الفعل المسرحي ضروري أن يتعامل مع الواقع".
و"مَن حضر واستمع للنص يجد قضايا وطنية وقضايا عربية، ويجد فلسطين حاضرة في النص من خلال جماليات فنية غربية، باعتبار أننا انطلقنا من أساطير يونانية، وفيه (العمل) رسالة أن الفن له بعد فني كوني عالمي، ولكن ليس نقلا للجماليات الغربية فقط، بل هناك إضافة"، وفق الرميلي.
وأردف قائلا "من حقنا أن ننطلق من تلك الجماليات، وإسقاطها على واقعنا، وتكون مبنية على روح جمالية تقبل المحلي، والإيقاعات التي سمعها الناس في المسرحية ليست غريبة عن الواقع المحلي، بعضها يذكِّر بالحضرة (موسيقى صوفية) وحتى ببعض الابتهالات الدينية، وهذا متعمد ليكون هناك قرب عاطفي من المتقبل".
المدينة المدمرة.. فلسطينوأوضح الرميلي أن "الأزياء وبعض الرقصات والإيقاعات ليست لشد الانتباه والغرائبية، بل هو الاشتغال على الشخصيات والحكاية، وكل حركة لشخصية مبنية على بحث معمق حول الأسطورة والفكر والحدث في حد ذاته".
واعتبر أن أبطال المسرحية في احتفالية دينية، على أساس أن أهل طيبة في الأسطورة المتوارثة بعد اللعنة التي حلت بالمدينة، "وبعد أن عرف أوديب الحقيقة ونُفِيَ، توجهوا إلى الإله أبولو وتبين أن اللعنة أتت من الحكام".
إعلانو"المدينة المدمرة أسقطنا عليها الوطن المدمر في فلسطين، وكأننا حمّلنا الأخطاء لمَن يتحملها وطرحنا سؤال: هل هذا المواطن الذي ضربه صاروخ مسؤول أم أطراف أخرى في إطار صراعات سياسية إقليمية، ولم يكن علينا الذهاب إلى المباشرتية"، كما زاد الرميلي.
التمرد على جماليات الغرباعتبر الرميلي أن "تراتيل" تشكل تمردا فكريا وفنيا ضد الجماليات الغربية التي يرى أنها قائمة على زيف فكري.
وقال "الفن الغربي يقدم نفسه كحامل لقيم إنسانية عالمية، لكننا نرى اليوم شعوبا تُباد مثلما يحدث في فلسطين، في حين يبرر الغرب تلك الجرائم".
وأضاف "اليوم لا بد من مواجهة الفكر الغربي، لن ننسخ جمالياتهم، بل سنأخذ منها ما يفيدنا ونضيف إليه من روحنا وثقافتنا المحلية".
مسرح "الاقتحام الأخلاقي"استشهد الفنان التونسي بمفهوم "الاقتحام الأخلاقي" للمخرج البولندي ييجي غروتوفسكي، مشددا على أن "الاقتحام الأخلاقي" لا يعني الالتزام بالمعايير الأخلاقية، بل كسر الجمود الفكري.
وأكد أنه يسعى إلى خلق حالة من الإرباك الفكري لدى المشاهد، مشيرا إلى سعادته بردود الفعل التي أثارتها "تراتيل" في الشارع.
الفن والثورةتطرق الرميلي إلى دور الفن في الثورات، مشيرا إلى أن الثورة التونسية (2011 التي أطاحت بنظام زين العابدين بن علي) عانت من محاولة تأطيرها في قوالب جاهزة.
وقال "الثورة ماتت يوم وُضعت لها نماذج ثابتة لا يمكن الخروج عنها"، ودعا إلى "تحرير الفن من كل القوالب والأطر، مؤكدا أن الجرأة الفنية يجب أن تكون بناءة وليست وقحة".
غياب العدالةوعما إذا كان مسلسل "الحرقة" (عرض على التلفزيون التونسي عام 2021)، و"عطيل وبعد" (مسرحية عرضت الصيف الماضي بمهرجان الحمامات) يمثلان احتجاجا على غياب العدالة عالميا وطلب الحق في العيش الكريم وتقرير المصير بالنسبة لفلسطين.
أجاب الرميلي قائلا "نعم، قصدت ذلك، فالفن موقف"، لافتا إلى أن غياب العدالة الاجتماعية عالميا هو ما يدفع الناس إلى ركوب مخاطر الهجرة غير النظامية بحثا عن عيش كريم في الغرب.
إعلانوأكد أن "ملف الهجرة غير النظامية (الذي تناوله مسلسل الحرقة) وقع استعماله للضغط والابتزاز السياسي".
وأضاف "الاتحاد الأوروبي صنف في وقت من الأوقات الموضوع (الهجرة) على أنه أمني، ورُصدت أموال للدول لتكون حرسا لحدوده".
وأردف قائلا "بدلا من استثمار الأموال في إنشاء مصانع تساهم في الحد من هجرة السكان، لا سيما في المناطق الحدودية عبر توفير فرص عمل، جرى التمويه ببعض المشاريع الشكلية، في حين خُصصت معظم الأموال للقضايا الأمنية".
وذكر الرميلي أنه "في مسلسل "الحرقة".. نقول هل تريدوننا أن نصدق أن أحدهم يغادر بلدته والمياه الإقليمية والمياه الدولية ويصل إلى إيطاليا دون أن يُتفطن له (يُكشف أمره).. لا نصدق هذا"، في إشارة إلى أن السلطات تغض الطرف.
واستدرك "لكن هذا لا ينفي أن هؤلاء ضحايا للوضع الاقتصادي الصعب الذي يجعلهم يفقدون القدرة على العيش الكريم في بلدهم، وثانيا: غياب الوعي، لأن هناك أزمة انتماء حقيقية للوطن".
ورأى أن "مواجهة هذا لا تُبنى بمقاربة أمنية فقط، بل بمقاربة تربوية وثقافية واجتماعية، ويحس (المواطن) بالانتماء عندما تحترمه، ويحس أنه شريك في الوطن.. نحن نصبر على الوضع، لكن يتم تحسيسنا (إشعارنا) بأن الوطن لنا".
"عطيل وبعد".. إعادة قراءة النص الغربيفي مسرحيته "عطيل وبعد"، أعاد الرميلي قراءة مسرحية شكسبير "عطيل"، منتقدا الصورة النمطية التي رسمها الكاتب الإنجليزي للعربي.
وقال "عطيل في الرواية الغربية شخصية فاشلة وقاتل مهتز وغير ثابت، ونحن في مسرحيتنا قدمناه بشكل مختلف".
وأكد أن العربي في تصورهم هو رجل قوي ومحب، وليس شخصية مهتزة تسهل التلاعب بها.
المصدر: الجزيرة
إقرأ أيضاً:
روحانيات «رمضان» وجمالياته في الفن التشكيلي الإماراتي
محمد عبدالسميع (الشارقة)
أخبار ذات صلةلا شكّ أنّ شهر رمضان بطابعه الروحاني، وطقوسه المثيرة واجتماعات العائلة فيه على التقوى والفرح بذكر الله، مع حضور متميز للطقوس والعادات الرمضانيّة اليوميّة المتمثّلة بالإفطار والسحور وأداء الصلوات، وكثرة الابتهالات والأدعية، وازدهار الأسواق بمستلزمات الشهر، وزينة رمضان. هو شهرٌ جديرٌ بأن يحمله الشاعر والأديب والفنان، كلٌّ في مجاله، في ديوان الشعر أو الرواية، أو في اللوحة التشكيليّة.
وما دمنا نتحدث عن اللوحة التشكيليّة، فإنّها مهيّأة لرصد وتوثيق هذه التفاصيل واليوميات الرائعة والفريدة جمالياً وبصرياً، بحسب مدرسة الفنان الواقعيّة والتجريبية أو التجريدية، بالتركيز على لحظات ومشاهد نابضة بالحياة كتعبير واقعي، أو الاشتغال على الظلال والنور كرمزية جماليّة عميقة.
واللافت في كلّ هذا وذاك أنّ الفنان الإماراتي ينطلق دائماً في استلهامه الشهر الفضيل من روعة الفرح والحياة وحركة الناس وتصالحيّتها مع النفس في هذا الشهر، وهو ما نراه في هذه اللقاءات التي خصّ بها فنانون إماراتيّون «الاتحاد»، حول قيم وروحانيات الشهر الفضيل التي يتمّ استلهامها في لوحات فنيّة.
ترى الفنانة التشكيلية الإماراتيّة وداد الكندي، أنّ أيّام رمضان أشبه ما تكون بلوحة تنبض بالحياة، في ألوانها ودفء مجالسها، وأضوائها وفوانيسها التي تنثر السكينة في الأجواء، أمّا روح الشهر فتجسّدها زينة الشوارع والنقوش الإسلاميّة، التي تزيّن المساجد، فيبدو ذلك لمسات فنيّة تعبّر عن قدسيّة أيّام الشهر الفضيل، كما أنّ الألوان الزاهية في الأطعمة الرمضانيّة تعكس بهجة اللقاء، فيما صوت القرآن الكريم في المساجد يضيف بعداً روحانيّاً إلى المشهد، ولذلك فرمضان هو إلهامٌ يتجدّد، لجمعِهِ بين الفنّ والروحانيّة في لوحة من السكينة والجمال.
الروحانيّة ذاتها، تتحدث عنها الفنانة التشكيلية الإماراتيّة صفيّة الهاشمي، إذ يمتلك الشهر الفضيل روحانيّته التي تختلف عن بقيّة الشهور، أمّا الفنون فهي بمثابة مرآة عاكسة للنشاطات اليوميّة الاجتماعية والدينية للشعوب في رمضان، ولهذا فالفنانة الهاشمي تستلهم عدداً من أعمالها التشكيلية من روحانيات شهر رمضان، وتحديداً الزخرفة النباتيّة، وعلاقتها بزخارف المساجد والمصاحف والمخطوطات القديمة.
توثيق جمالي
وتؤكّد الفنانة التشكيليّة الإماراتية فاطمة الحمادي أنّ الفنّ التشكيلي جزءٌ من توثيق هذه اللحظات المميزة المجسّدة لروح الشهر الفضيل بكلّ تفاصيله، ابتداءً من الأجواء العائليّة الدافئة إلى اللقاءات الاجتماعيّة التي تميّز هذا الشهر المبارك، إذ يظلّ الفنّ الإماراتي شاهداً حياً على عمق الروح الوطنيّة والدينية، التي يعبّر عنها الفنانون في كلّ لوحة. وبالنسبة للفنانة الحمادي، فإنّ هذه اللوحات ليست مجرّد أعمال فنيّة، بل هي رواية مرئيّة تحكي قصصاً من التراث والحضارة الإماراتيّة، بل وتحمل رسائل العطاء والتسامح المعروفة عن المجتمع الإماراتي في هذا الشهر الفضيل.
وينطلق الفنان التشكيلي الإماراتي خالد محمد الأستاد من أنّ الشهر الفضيل أولاً يشكلّ مصدر إلهام متجدّد للفنانين، بما يشتمل عليه من قيم روحيّة واجتماعيّة، ويتجلّى ذلك في أعمال العديد من الفنانين الإماراتيين، كما أنّ شهر رمضان، من وجهة نظره، ليس فقط مناسبةً دينيّة، بل يشكّل حالةً ثقافيّةً وجماليّةً متكاملة تدخل في تفاصيل حياتنا اليوميّة، ويدلل على ذلك بهذه الأجواء الرمضانيّة في المجالس الشعبيّة والأسواق التقليدية التي تزدهر ليلاً، وبالتالي فقد استطاع الفن التشكيلي الإماراتي أن يوثّق هذه المظاهر الاحتفاليّة بأساليب متعددة، سواء من خلال اللوحات الواقعيّة الراصدة لمشاهد التجمعات العائليّة حول موائد الإفطار والسحور، أو من خلال الأعمال الرمزية التي تستوحي عناصر مثل الضوء والظلّ، وهما العنصران اللذان يشكلان جزءاً أساسياً من روحانيّة رمضان.
وأخيراً، ترى الفنانة التشكيليّة الإماراتيّة نايلة مبارك الأحبابي أنّ شهر رمضان، ومن خلال طابعه الذي يحمل السكينة والروحانيّة، أثّر في الفنان الإماراتي في لوحاته التشكيلية، حيث انطلق في تجسيد ذلك من جمال ورونق وروحانيات وتفاصيل الحياة، باستلهام هذا الشعور الفريد والرائع الذي يلامس الوجدان.