ناشونال إنترست: لماذا تنهار الجيوش القوية ظاهريا؟
تاريخ النشر: 15th, December 2024 GMT
سلطت مجلة "ناشونال إنترست" الضوء على أسباب انهيار الجيوش القوية ظاهريا، مستشهدا بتفكك الجيش السوري المفاجئ أمام هجوم المعارضة، وموضحا أن هذا الانهيار يرتبط بعوامل مثل الفساد والإقصاء العرقي والاعتماد على الدعم الخارجي.
وقالت المجلة، في هذا التقرير الذي ترجمته "عربي21"، إنه بحلول 2017، وبعد ست سنوات من الحرب، كانت نظما بشار الأسد قد استقر في وضع طبيعي جديد، لم يكن هذا الوضع الطبيعي هو الذي كان يتمتع به آل الأسد قبل الربيع العربي، ولكن بمساعدة روسيا وإيران وحزب الله - وللغرابة، الولايات المتحدة التي كانت تهاجم تنظيم الدولة - نجحت قوات الأسد في دحر المعارضة، ومع مرور السنوات، أصبح نظامه يسيطر على ما يقرب من ثلثي سوريا.
وبدأ الأسد الآمن في السلطة بالسفر إلى الخارج، وبدا أن الجميع يتقبل أن الرجل الوحشي موجود ليبقى، وكان "التطبيع" هو كلمة السر بين دبلوماسيي الشرق الأوسط وحتى بين بعض الدبلوماسيين الغربيين، وفي أيلول/سبتمبر، عينت إيطاليا أول سفير لها في سوريا بعد 13 سنة من وقف العلاقات الدبلوماسية.
ولكن هذا الاستقرار تلاشى يوم السبت الماضي بعد هجوم مفاجئ استمر عشرة أيام من قبل هيئة تحرير الشام؛ حيث انهار جيش النظام، وتخلى جنوده عن مواقعهم وخلعوا زيهم العسكري، واستولى المتمردون على دمشق دون قتال، وهرب الأسد إلى موسكو.
ولفتت إلى أن الاستسلام المفاجئ وغير المتوقع لجيش النظام هو جزء من تاريخ طويل للجيوش القوية ظاهريا والهشة داخليا التي تنهار بسرعة أمام تقدم الثوار، فقد انهار الجيش الأفغاني في أفغانستان سنة 2021 في غضون أشهر مع صعود طالبان إلى السلطة، وقبل ذلك انهار الجيش العراقي مع استيلاء تنظيم الدولة على معظم أنحاء البلاد سنة 2014، وفي العام نفسه، استولى الحوثيون في اليمن على العاصمة صنعاء في غضون أيام فقط وسرعان ما أطاحوا بحكومة عبد ربه منصور هادي.
وحدثت نفس الظاهرة في جمهورية أفريقيا الوسطى سنة 2013، عندما أطاح ائتلاف سيليكا للمتمردين بالحكومة في غضون أشهر، واستولى على العاصمة بانغي دون مقاومة تذكر، وهرب رئيس البلاد المحاصر، فرانسوا بوزيزيه، إلى الكاميرون، وفي الجنوب في زائير، انهارت قوات موبوتو سيسي سيكو سنة 1997 عندما اجتاح تمرد من الشرق البلاد، ومع اقتراب المتمردين من قصره في الغابة، فر موبوتو إلى المغرب.
وأفادت المجلة أنه من المستحيل التنبؤ بتوقيت الانهيار؛ ولكن يمكن دائما فهرسة أسبابه؛ حيث تتكرر نفس العوامل التي تهدم الجيوش التي تحارب حركات التمرد.
وبحسب المجلة؛ العامل الأول هو الإقصاء العرقي، فغالبا ما تملأ الحكومات جيوشها بأبناء عرقهم، ورغم مزايا هذا النهج في "حماية الأنظمة من الانقلابات"، ولكن في الحروب الأهلية ذات البعد العرقي، غالبا ما تكون القوات الحكومية من مجموعة والمتمردون من مجموعة أخرى، وتؤدي هذه الممارسة حتما إلى استياء متزايد بين تلك المجموعات الأخرى المهمشة.
ففي زائير في أوائل التسعينيات، كان نصف جنرالات الجيش ينحدرون من مقاطعة موبوتو نفسها، وثلث هؤلاء كانوا من أبناء مجموعته العرقية الصغيرة نسبيا، وفي جمهورية أفريقيا الوسطى، كانت إحدى المظالم الرئيسية للمتمردين هي أن الحكومة رفضت دمج بعض المجموعات العرقية في الجيش، وقد شعر الحوثيون في اليمن أن مخاوفهم تم تجاهلها في عهد هادي، وقبل ظهور تنظيم الدولة كان الجيش العراقي في عهد رئيس الوزراء نوري المالكي يهمش السنة، وفي الجيش الوطني، كان الطاجيك يمثلون أكثر من ثلثي القادة، رغم أنهم كانوا يشكلون ربع السكان فقط.
وفي سوريا، كان حوالي 70 بالمئة من جميع الجنود و80 بالمئة من جميع الضباط من الطائفة العلوية التي ينتمي إليها الأسد، رغم أن هذه الطائفة لا تشكل سوى 13 بالمئة من السكان، وكانت هيمنة العلويين شبه كاملة في الحرس الجمهوري، وهي مجموعة الحماية الخاصة التي كان يقودها أحد أشقاء الأسد.
وأضافت المجلة أن العامل الثاني هو الفساد، وهو عامل أساسي في تآكل الجيوش، فالحكومات الضعيفة لا تستطيع في كثير من الأحيان تحمل الرواتب اللازمة لشراء ولاء قواتها، لذا فهي تتسامح مع الكسب غير المشروع أو تشجعه عن غير قصد.
ففي الجيوش اليمنية والعراقية والأفغانية، لم تذهب الترقيات إلى الأكثر تأهيلا بل إلى أولئك الذين لديهم علاقات أو على استعداد لدفع رشوة، وكانت جداول الرواتب مليئة بآلاف "الجنود الوهميين"، وهي مناصب غير موجودة تم إنشاؤها للسماح للقادة باختلاس الرواتب، وفي أفغانستان، اشتبه في قيام ضباط فاسدين في القوات الجوية بتهريب الأفيون والأسلحة، وكان العديد من قادة الجيش الأفغاني من أمراء الحرب الذين كانوا متحالفين مع طالبان في السابق وكان ولاؤهم للبيع لمن يدفع أكثر.
وقد كان جيش النظام أيضا مليئا بالفساد، بدءا من جمع الرشاوى الصغيرة من سيارات المارة، إلى مؤسسة بمليارات الدولارات تنتج وتبيع الكبتاغون.
وقد أدى فساد الجيوش إلى تفاقم مشاكل السكان الذين يعتمد المتمردون على دعمهم، كما أنه جعل الجيوش أقل فعالية مع تحول الموارد بعيدا عن الاستثمار في الأسلحة والمعدات ورواتب الجنود، وكما قال مسؤول أفغاني حول انهيار الجيش الأفغاني: "لم يكن أحد يريد أن يموت من أجل أشخاص يسرقون البلاد"، وقد ثبتت صحة الأمر نفسه في سوريا؛ حيث لم يكن الوعد الذي قطعه الأسد في اللحظة الأخيرة بمنح الجنود السوريين زيادة في الرواتب بنسبة 50 بالمئة كافيا لإحياء الروح المعنوية.
وأشارت المجلة إلى أن العامل الأكثر تأثيرا وراء الانهيارات العسكرية الأخيرة هو فقدان الرعاة الأجانب، فعادة ما تحتاج الحكومات الضعيفة إلى المساعدة في الحفاظ على السيطرة على الأراضي، وعندما ينسحب الرعاة الخارجيون من المشهد يكون هذا هو المسمار الأخير في نعش تلك الحكومات.
فلم يكن من قبيل المصادفة أن ينهار جيش زائير بعد الحرب الباردة عندما لم تعد الولايات المتحدة الأمريكية بحاجة إلى موبوتو، وفي جمهورية أفريقيا الوسطى، وعندما كان الجيش اليمني على وشك الانهيار، رفضت الولايات المتحدة توسيع نطاق دعمها لمكافحة الإرهاب ليشمل محاربة الحوثيين. وبالمثل، في كل من العراق وأفغانستان، كان انسحاب القوات الأمريكية هو ما عجل بانهيار الجيش.
وقد كان السبب المباشر لانهيار الجيش السوري هو الانخفاض الحاد في الدعم الخارجي؛ فقد كانت روسيا مشغولة في أوكرانيا، ولم تكن قواتها الجوية قادرة على تكرار وابل الضربات الجوية التي أنقذت الأسد في 2015، أما حزب الله فكان يترنح من الضربات الإسرائيلية ضده في لبنان، ولم يعد قادرا على توفير المقاتلين الذي كان لديه من قبل، وكانت إيران أيضا تلعق جراحها من الضربات الإسرائيلية وسرعان ما سحبت قواتها العسكرية من سوريا.
وختمت المجلة التقرير بقولها إن جيوش الحكومات غالبا ما تكون نماذج مصغرة لأنظمتها، ومثلها مثل جيش النظام السوري، حيث كانت الدولة السورية هشة بسبب سنوات من الفساد والإقصاء، وبالكاد كان الدعم الخارجي يساندها، وإذا أعدنا النظر، فإن اللافت لم يكن سرعة سقوط النظام بل المدة التي تمكن فيها من الصمود.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي صحافة صحافة إسرائيلية الجيش المعارضة الأسد النظام الأسد المعارضة جيش النظام صحافة صحافة صحافة سياسة سياسة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة جیش النظام لم یکن
إقرأ أيضاً:
حين تنهار الضمانات.. سباق التسلح النووي يعود من جديد
ترجمة: نهى مصطفى -
بينما تمضي إدارة ترامب الثانية بسرعة في تفكيك عناصر أساسية من النظام الدولي الذي نشأ بعد الحرب العالمية الثانية، يبدو أنها تغفل بعض العواقب الواضحة لسياساتها، وأبرزها احتمال اندلاع موجة جديدة من الانتشار النووي، لكن هذه المرة، لن يكون التهديد صادرًا عن دول مارقة أو جماعات إرهابية، بل عن دول كانت تُعد سابقًا من بين أقرب حلفاء الولايات المتحدة.
لن تمحو محاولة إعادة عقارب الساعة في السياسة الخارجية إلى الوراء قرنًا من الزمان التهديد الوجودي الذي يواجه العالم اليوم: الخبرة النووية الواسعة، والتكنولوجيا التي أصبحت أرخص وأسهل في المنال، فالنظام القائم على الحد من انتشار الأسلحة النووية يعتمد على التزام طوعي من الدول بضبط النفس الجماعي، وهو التزام ينبع من شعورها بالأمان داخل منظومة دولية تُدار عمومًا تحت مظلة القوة الأمريكية، لكن هذا الشعور بالأمان كان دائمًا مرتبطًا بوجود نظام دولي مستقر، تدعمه شراكات تعاونية مثل حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وهو تحديدًا ما تعمل إدارة ترامب على تفكيكه الآن.
سيؤدي انهيار هذا النظام الليبرالي حتمًا إلى انهيار نظام الحد من الانتشار النووي، والمفارقة أن القوى الأكثر إقبالًا على امتلاك الأسلحة النووية لن تكون بالضرورة خصوم الولايات المتحدة، بل قد تكون حلفاؤها الذين فقدوا الثقة بقدرتها على حمايتهم ولم يعودوا يرون في الضمانات الأمنية الأمريكية رادعًا كافيًا، بل ربما يخشون حتى من استخدامها كورقة ضغط ضدهم، وكما قال عالم السياسة كينيث والتز: «قد يكون المزيد أفضل» فيما يتعلق بالانتشار النووي، إذ إن التوازن القائم على الردع المتبادل قد يفرض نوعًا من الاستقرار الدولي، وربما يكون العالم الآن على وشك اختبار هذه الفرضية عمليًا.
عندما بدأ صانعو السياسات الأمريكيون في الأربعينيات ببناء نظام دولي قائم على القواعد، كان ذلك استجابةً لثلاثة عقود من الحروب والأزمات الاقتصادية. وكان الدرس الذي استخلصوه واضحًا: السعي وراء المصالح الذاتية قصيرة الأجل دون اعتبار للتداعيات الأوسع قاد إلى سياسات اقتصادية تقوم على مبدأ «إفقار الجار»، وإلى استراتيجيات أمنية قائمة على إلقاء اللوم على الآخرين، مما أدى إلى اضطرابات اقتصادية واجتماعية، وصعود أنظمة استبدادية عدوانية، وانتهى في نهاية المطاف بكارثة عالمية، لتجنب تكرار هذا النمط المدمر، اختارت واشنطن تبني نهج طويل الأمد قائم على التعاون، والعمل مع الحلفاء لبناء نظام مستقر وآمن يتيح للجميع النمو والازدهار دون خوف.منذ البداية، استند النظام الدولي إلى قوة أمريكية استثنائية، لم تُوظَّف لخدمة المصالح الأمريكية وحدها، بل لصالح الحلفاء جميعًا. لم يكن ذلك بدافع الإيثار العاطفي أو نزعة إمبريالية مستترة، بل كان إدراكًا لضرورة التعامل مع الاقتصاد والأمن على نطاق يتجاوز الحدود الوطنية، فهم صانعو السياسات الأمريكيون أن الرأسمالية ليست لعبة محصلتها صفر، بل يمكن لجميع الأطراف أن تنمو معًا بدلًا من أن يكون نمو أحدهم على حساب الآخر، والأمن المشترك بين الحلفاء ليس موردًا تنافسيًا بل مكسبًا جماعيًا. لذلك، بدلًا من استغلال قوتها الهائلة كما فعلت القوى العظمى السابقة، اختارت واشنطن تحفيز اقتصادات شركائها وتعزيز دفاعاتهم، ما أدى إلى إنشاء منطقة تعاون متنامية داخل النظام الدولي القائم على مبدأ القوة.
فرضت الأسلحة النووية، باعتبارها الأداة الحربية المطلقة، تحديًا فريدًا على هذا النظام، فمن الواضح أن الدول التي تمتلكها ستتمتع باستقلال استراتيجي وقوة ردعية، بينما ستبقى الدول غير النووية عرضة للابتزاز أو التهديد، ولم يكن مفاجئًا أن العديد من الدول فكرت في تطوير برامجها النووية، كما يحدث دائمًا عند ظهور تكنولوجيا عسكرية جديدة، لكن موجة انتشار الأسلحة النووية على نطاق واسع أُحبطت عندما ظهر حل وسط في الخمسينيات والستينيات: التزمت الولايات المتحدة بردع أعدائها المسلحين نوويًا، مع توفير مظلة ردع لحلفائها، مما جعل امتلاكهم لترسانات نووية مستقلة أمرًا غير ضروري. وقد تم تكريس هذا الترتيب رسميًا من خلال معاهدة حظر الانتشار النووي (NPT) عام 1970، والتي سمحت للولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي وبريطانيا وفرنسا والصين بالاحتفاظ بترساناتهم النووية لضمان استمرارية الردع، بينما تخلّت الدول الأخرى الموقعة عن حقها في امتلاك السلاح النووي، ومنذ ذلك الحين، لم تنضم إلى النادي النووي سوى إسرائيل والهند وباكستان وكوريا الشمالية.
لطالما انصب الاهتمام في المجال النووي على القوى العظمى، ثم على الدول المارقة، ومع ذلك، فإن التطورات الأخيرة تسلط الضوء على حالتين غالبًا ما يتم تجاهلهما: بريطانيا وفرنسا. بدأت المملكة المتحدة تطوير برنامجها النووي عام 1941، ثم دمجته مع مشروع مانهاتن عام 1943. وعندما أوقفت واشنطن التعاون النووي بعد الحرب، واصلت لندن جهودها بمفردها ونجحت في اختبار أول قنبلة عام 1952، في الوقت نفسه، أطلقت فرنسا برنامجها النووي العسكري السري عام 1954، ثم أعلنت عنه رسميًا عام 1958، قبل أن تنجح في اختبار سلاحها النووي عام 1960.
لكن لماذا سعت فرنسا إلى امتلاك القنبلة رغم أنها كانت تحت المظلة النووية الأمريكية؟ ببساطة، لم يكن الرئيس الفرنسي شارل ديجول يثق في التزامات واشنطن الأمنية. كان يرى أن الردع الأمريكي «الموسع» مجرد وهم، وأن أمن فرنسا لا يمكن أن يكون مضمونًا إلا بقدرة نووية وطنية مستقلة. لأجيال، تعامل معظم المحللين غير الفرنسيين مع هذا المنطق بازدراء، واعتبروه تعبيرًا عن الغرور الفرنسي أو جنون العظمة المفرط، بدلًا من كونه استراتيجية عقلانية، لكن بعد الأسابيع الأولى من ولاية ترامب الثانية، بدا هذا المنطق أكثر وجاهةً من أي وقت مضى، ولم يعد هناك كثيرون يسخرون منه اليوم.
مع نهاية الحرب الباردة وتفكك الاتحاد السوفييتي، تغيّر المشهد النووي بشكل جذري. أصبحت احتمالات المواجهة بين القوى العظمى بعيدة، وبرزت تهديدات جديدة، أهمها خطر تسرّب المواد النووية والخبرات السوفييتية السابقة إلى دول أخرى أو جماعات غير حكومية.
لكن واحدة من أكثر القضايا تعقيدًا تمثّلت في مصير بقايا الترسانة النووية السوفييتية المتمركزة في أوكرانيا المستقلة حديثًا. تعرضت كييف لضغوط مكثفة من أطراف دولية لإعادة تلك الترسانة إلى موسكو، مقابل وعود بعدم تعرّضها لأي تهديد. وبقدرات محدودة للمقاومة، وافقت أوكرانيا، وتمت صياغة هذه التسوية رسميًا في مذكرة بودابست لعام 1994، التي انضمت بموجبها بيلاروسيا وكازاخستان وأوكرانيا إلى معاهدة حظر الانتشار النووي، مقابل ضمانات أمنية من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وروسيا.
في ذلك الوقت، رأى البعض أن هذا القرار كان خطأً استراتيجيًا، ففي مقال نشرته مجلة Foreign Affairs عام 1993، حذّر العالم السياسي جون ميرشايمر من أن أوكرانيا ستواجه مستقبلًا عدوانًا روسيًا، وأن امتلاكها لقدرة نووية مستقلة هو السبيل الوحيد لردع ذلك. وكتب: «لا تستطيع أوكرانيا الدفاع عن نفسها ضد روسيا المسلحة نوويًا بالأسلحة التقليدية، ولن تقدم لها أي دولة، بما في ذلك الولايات المتحدة، ضمانًا أمنيًا ذا معنى. الأسلحة النووية الأوكرانية هي الرادع الوحيد الموثوق للعدوان الروسي»، لكن المخاوف من انتشار السلاح النووي طغت على المخاوف من الحروب المستقبلية، وهكذا انتهى الأمر بأوكرانيا ما بعد الاتحاد السوفييتي إلى جيش تقليدي بحت.
لأكثر من عقدين، لم يشكّل ذلك مشكلة كبيرة، حتى قرر بوتين في 2014 تلقين أوكرانيا درسًا بسبب ميلها نحو الغرب. دعم حركات انفصالية، ثم أرسل قواته، فضمّ القرم وسيطر على أجزاء من دونباس. استمرّ الصراع لسنوات، حتى شنّ في 2022 غزوًا شاملًا لإعادتها إلى الفلك الروسي. رغم تفوّق روسيا العسكري، صمدت أوكرانيا، وحين بدا أن كييف لن تسقط سريعًا، دعمتها الولايات المتحدة وأوروبا عسكريًا واقتصاديًا. تحوّلت الحرب إلى استنزاف طويل، مع احتفاظ روسيا بالقرم ومعظم دونباس، واستعادة أوكرانيا لبعض المناطق قرب كورسك، لكن التزام بوتين بتوظيف موارد بلاده منحه تفوقًا متزايدًا رغم استمرار الدعم الغربي لكييف.
لكن كل شيء تغيّر مع عودة ترامب إلى البيت الأبيض.
فقد تعهّد خلال حملته الانتخابية بإنهاء الحرب في يوم واحد، دون توضيح كيف. ومع توليه المنصب، بدأت ملامح استراتيجيته تتضح. فرض تسوية قسرية على أوكرانيا تقضي بالتنازل عن أراضٍ، وتفكيك قدراتها العسكرية، والعودة إلى النفوذ الروسي. وما زال من غير الواضح إلى أي مدى ستذهب الإدارة الجديدة في دعم موسكو، لكن أصبح مؤكَّدًا أن الضمانات الأمريكية السابقة لم تعد موضع ثقة.
وهكذا، مثلما أثبت ديجول صحّة منطقه قبل عقود، كان ميرشايمر محقًا أيضًا. الردع النووي الموسّع كان مجرّد وهم، ومن اعتمد عليه كان ساذجًا. والآن، تواجه العديد من الدول المهددة السؤال الحتمي. لماذا لا نسلك الطريق الفرنسي ونحمي أنفسنا بسلاحنا النووي؟
مع تراجع مصداقية الولايات المتحدة كحليف، تبحث الدول عن بدائل. أحد الخيارات هو الاعتماد على رادع نووي ممتد من قوى أخرى. في هذا السياق، أعلن فريدريش ميرز، رئيس الوزراء الألماني القادم، عن نيته التفاوض مع بريطانيا وفرنسا لتوسيع مظلتهما النووية لتشمل ألمانيا، ومن المرجح أن تحذو دول أوروبية أخرى حذوه. ستارمر في بريطانيا وماكرون في فرنسا منفتحان على الفكرة، ما قد يؤدي إلى ظهور رادع نووي أوروبي حقيقي.
لكن رغم أن ذلك قد يعزز استقرار أوروبا، فإن خيانة واشنطن ستُلقي بظلالها. لقد بات واضحًا أن الضمانات الأمنية ليست التزامات حتمية، بل قابلة للتفاوض. فإذا كانت لندن لم تثق سابقًا بواشنطن، وباريس لم تثق بلندن وواشنطن، فلماذا تثق دول أخرى بهما الآن؟
في النهاية، «من يخدعني مرة، فالعار عليه. ومن يخدعني مرتين، فالعار عليّ».
لذلك، قد تسعى بعض الدول إلى امتلاك أسلحتها النووية لضمان أمنها، رغم العقبات الهائلة التي تعترض هذا المسار، من تكاليف باهظة إلى الحاجة إلى خبرة وتقنيات متقدمة، ومع ذلك، يظل الأمر ممكنًا، كما أظهرت تجارب إسرائيل وباكستان والهند.
اتبعت اليابان نهج «القنبلة في القبو»، حيث تمتلك قدرات نووية متقدمة دون تطوير أسلحة، ما يتيح لها التحول بسرعة إذا لزم الأمر. أما المرشحان الأبرز لامتلاك السلاح النووي فهما أوكرانيا وتايوان، المهددتان من قبل قوى نووية، لكن أي محاولة منهما قد تؤدي إلى ضربة استباقية مدمرة من روسيا أو الصين. كذلك، تواجه إيران احتمال تعرضها لهجوم إذا اقتربت من العتبة النووية.
مع تراجع الثقة في الحماية الأمريكية، قد تصبح كوريا الجنوبية أول دولة تسعى للتسلح النووي، وهو نقاش بدأ بالفعل داخل أروقتها السياسية. وإذا مضت قدمًا، فمن المحتمل أن تحذو اليابان وأستراليا حذوها. في أوروبا، تزايدت الدعوات داخل بولندا ودول البلطيق للبحث في امتلاك قدرات نووية مستقلة، وسط تصريحات رسمية تدعم ذلك.
لا شيء محسوم بعد، لكن إذا استمرت الولايات المتحدة في التراجع عن التزاماتها الأمنية، فقد تعيد دول كثيرة النظر في خياراتها الاستراتيجية، مما قد يؤدي إلى عالم جديد حيث تصبح الأسلحة النووية أكثر انتشارًا، والحواجز النفسية التي حالت دون ذلك تتلاشى تدريجيًا.
جيديون روز محرر سابق لمجلة الشؤون الخارجية وعضو في مجلس العلاقات الخارجية.
نشر المقال في Foreign Affairs