قبل نحو عشرين سنة، زرت مدينة درعا مهد الثورة السورية، كنت وقتها في دمشق، مدعوا بصفتي الصحافية لمتابعة أعمال موتمر نقابي عربي، وكان طبيعيا أن أتواصل مع الأحباب في حزب «الاتحاد الاشتراكي العربي الديمقراطي»، وهم الجماعة الناصرية الرئيسية في سوريا، التي أسسها الراحل جمال الأتاسي، وكان قياديا بارزا في «حزب البعث»، انشق عنه منحازا إلى خط جمال عبد الناصر، في صراعه مع «البعث»، عقب نكبة انفصال سوريا، ونهاية تجربة «الجمهورية العربية المتحدة» مع مصر.
وبعد استيلاء حافظ الأسد على السلطة، في ما سماه «الحركة التصحيحية» عام 1970، زادت ضراوة اختلاف الأتاسي مع الأسد، بعد وئام عابر، خرج الأتاسي وجماعته مما كان يسمى «الجبهة الوطنية التقدمية» وقتها، وحل كثير من الناصريين ضيوفا على سجون «الأسد الأب» و»الأسد الإبن» من بعده، وأصبح «حزب الاتحاد الاشتراكي» أقرب إلى الحزب السري، رغم سابقة الترخيص بوجوده، ودأب الأتاسي على توحيد جهود المعارضة اليسارية بالذات، وأقام «الجبهة الوطنية الديمقراطية» المعارضة، التي صارت نواة لهيئة «التنسيق الوطني» بعد ثورة سوريا، أواسط مارس 2011، التي انطلقت أولا من درعا، التي زرتها قبلها بسنوات، كانت الزيارة نوعا من المخاطرة، فقد التقيت بعدد من القياديين الناصريين في منزل أحدهم بدمشق، وفوجئت بدعوة أحدهم للذهاب إلى درعا، وكانت المسافة قريبة لا تستغرق بالسيارة سوى أقل من نصف ساعة، لكنها امتدت إلى أكثر من ساعة بكثير، فقد لجأ مرافقي ومضيفي إلى طرق جانبية بعيدة عن الحواجز الأمنية المنتشرة بكثافة، وإلى أن وصلت منزل قيادي ناصري في منطقة «درعا المحطة»، وعلى دعوة الغداء الكريم وقبلها وبعدها، دار حوار طويل مع قياديين وناشطين سوريين، وكان مجرى الحوار الرئيسي حول قضية التغيير والثورة في العالم العربي.
أول بديهيات حرية السوريين أن يعيشوا في وطن حر، فليس هناك شعب حر في أمة مستعبدة، ولا في وطن مستلب السيادة، وفي صورة سوريا الراهنة مخاطر مرعبة، فهيمنة وسيطرة الأجانب الإقليميين والدوليين منظورة
كنت وقتها قياديا مؤسسا في حركة «كفاية»، وأول متحدث رسمي باسمها، ثم منسقها العام المنتخب في ما بعد إلى وقت قيام ثورة 25 يناير 2011 في مصر، وكانت «كفاية» قد اشتهرت بشعارها المختصر (لا للتمديد.. لا للتوريث)، وكنت في رئاسة تحرير جريدة «العربي» المصرية، واستعد للانتقال إلى رئاسة تحرير جريدة «الكرامة»، وكنا في جريدة «العربي» أول المنتقدين بحدة لما جرى في سوريا عقب وفاة «الأسد الأب»، والمسارعة إلى تنصيب ابنه بشار، وتغيير الدستور السوري في كوميديا سوداء استغرقت ربع ساعة لا غير، ونزلت بسن الترشح للرئاسة ليوافق سن الابن الموعود، الذي كان وقتها في الرابعة والثلاثين من عمره، وكان مانشيت «العربي» وقتها قاطعا «نرفض توريث الجمهوريات».
كان الرفض بمناسبة ما جرى في سوريا، وكانت العين طبعا على ما كان يجري في مصر، وفيما بعد دعيت من فضائية «الجزيرة» للمشاركة في حلقة من برنامجها الأشهر، جرى بثها من دمشق نفسها، وذكرت كوميديا الربع ساعة السوداء، وأبدى مقدم البرنامج السوري الدكتور فيصل القاسم هلعه على مصيري، لولا أن الله سلم، وخرجت من دمشق بسلام، تماما كما خرجت من درعا قبلها بسنوات.
وقد تكون مقدمة المقال اليوم، طالت بأكثر مما ينبغي ويسوغ، وإن كانت في ظني ضرورية لتفهم ما يلي من سطور، فقد كنت من أعلى الأصوات تأييدا للثورة في سوريا كما في غيرها، وعبرت عن رأيي مرارا في لقاءات تلفزيونية، وفي مقالات نشر أغلبها في هذا المكان نفسه، وكنت أراقب ما يجري بانتظام مشوب بالقلق، فقد استمرت الثورة شعبية وسلمية غالبا في شهورها التسعة الأولى، ثم أرادت أغلب الأطراف المتصارعة، أن تنقلب على سلمية الثورة، وسارعت جماعة بشار إلى الهروب للأمام، وتحولت الثورة في سوريا إلى ثورة على سوريا، ودارت فصول المحنة السورية الأحدث، وتطورت حوادثها الدامية إلى حرب طائفية كافرة، وإلى تدخلات أجنبية وإرهابية بالجملة، دمرت أغلب مدن سوريا الحبيبة، وقتلت نحو 700 ألف سوري، وشردت نحو عشرة ملايين، وكان القتلة من نحو أربعين جنسية بينها السورية للأسف، ولم يرفض التدخل الأجنبي وعسكرة الثورة سوى «هيئة التنسيق الوطني» المعارضة، ثم توالت التطورات على نحو صار يعرفه الكافة، ونجح التدخل الروسي الجوي في تجميد الوضع لسنوات، وحفظ وضع الرئيس السابق بشار في ثلاجة قصره الرئاسي، وتحويله إلى رئيس افتراضي، ظل في منصبه على نحو اصطناعي، ومن دون أن تكون له سلطة واقعية حقيقية، فقد كان الأمر بيد من أنقذه ظاهريا، بينما كان «الجيش العربي السوري» يتحلل ويضمحل ويفقد همة القتال ودواعيه، فقد قتل من الجيش وحده نحو مئة ألف في حرب طاحنة، كان بشار يملك ـ نظريا ـ فرصة تجنبها، لو أنه أراح واستراح وتنحى من البداية، وحفظ وحدة البلد وتماسك الجيش، وسلامة التحول إلى انفتاح ديمقراطي مدروس، بدلا من اعتياد التجارة بالشعارات القومية وبالمقاومة، وعلى ظن أنها تنجيه من حساب مستحق ولو تأخر، جاءت لحظته الحاسمة في عشرة أيام لاهثة انتهت بهروبه لاجئا بليل إلى موسكو، التي امتنعت عن التدخل الجدى لصالحه هذه المرة، تماما كما امتنعت إيران وجماعاتها وذهبت.
وقد يرى البعض في الخلاص من النفوذ الإيراني مطلبا شعبيا غلابا، وهذا صحيح تماما، لكن المشكلة أن إيران ذهبت، وجاءت «إسرائيل» بنفسها أو من وراء قناع إقليمي، وقد فرحت لفرح قطاعات كبيرة من السوريين بزوال «جماعة بشار» الطائفية المجرمة البائسة، لكن الانقباض سرعان ما طغى على دواعى الفرح، فلا أحد يعرف مدار الحكام المفترضين الجدد، وتواريخ بعضهم مثقلة بإرهاب مفزع، ثم إن مراحل الانتقال ربما تطول وقد تتعثر، وقد ننتظر لسنوات إلى أن تجري انتخابات نزيهة، يحكم بها الشعب السوري نفسه بنفسه، والانتخابات ليست مجرد إجراءات ومظاهر صورية، والديمقراطية لا تنمو ولا تنفع في فراغ وطني موحش، وشرط الديمقراطية الصحيحة مرتبط بأولوية الاستقلال الوطني، ولم يكن حكم «بشار» ولا حكم أبيه حافظا لاستقلال وطني حقيقي، فوق ظلمه وسفكه للدماء بغير حساب، ومن حق الشعب السوري أن يفرح ويستبشر مع زوال حكم الظالمين، ولا أحد عاقلا يبكي على ذهاب بشار، فقد كان حكمه ذهب قبل ذهاب شخصه بعقد كامل، وأول بديهيات حرية السوريين أن يعيشوا في وطن حر، فليس هناك شعب حر في أمة مستعبدة، ولا في وطن مستلب السيادة، وفي صورة سوريا الراهنة مخاطر مرعبة، فهيمنة وسيطرة الأجانب الإقليميين والدوليين منظورة، قواعد لأمريكا في الشرق وقواعد لروسيا في الغرب، وأعداد هائلة من الأجانب في بنية المنظمات المسلحة، إضافة لتحديات كبرى تنتظر الوضع الجديد، فالسلطة ليست مجرد غلبة بتسلط السلاح، والمخاوف من عودة إلى حروب داخلية لا تزال مخيمة، فالقواعد الأمريكية لا تزال تحمي «قوات سوريا الديمقراطية» الكردية الانفصالية، والقواعد الروسية في حميميم وطرطوس موجودة بالقرب من أنفاس «العلويين» المرتابين على الساحل السوري، والنفوذ والسلاح التركي مسيطر من الشمال إلى دمشق، ونذر تفتيت سوريا حاضرة بكثافة، ففي زمن الانتداب الفرنسي القديم، كان المستعمر قبل رحيله يخطط لإنشاء خمسة كيانات منفصلة في سوريا، دولة للسنة وأخرى للعلويين وثالثة للدروز ورابعة للأكراد وجيب إضافى للمسيحيين والأقليات الأصغر، وكانت سوريا على مدى أكثر من قرن مضى عرضة لدورات تقسيم، في البدء كانت سوريا الكبرى، التي أعيد رسمها و»بلقنتها» باتفاق «سايكس ـ بيكو» بعد الحرب العالمية الأولى، وأقيمت على أرضها التاريخية دول لبنان وفلسطين (حتى احتلالها صهيونيا) والأردن إضافة لسوريا الحالية، وما من ضمان أكيد لوقف تفتيت سوريا، خصوصا مع تدهور وانحطاط الوضع العربي العام، ففي زمن «سايكس ـ بيكو» جرى تقسيم الأمة إلى أقطار، ثم نتحول اليوم إلى مرحلة تقسيم الأقطار إلى أمم صغرى طائفية وعرقية وقبلية، وسوريا ـ أكثر من غيرها ـ عرضة لتفتيت المفتت اليوم، خصوصا مع كثافة التدخلات الدولية على أراضيها، والرغبة الأمريكية الظاهرة في الترويج لفيدراليات سورية متناحرة، يزيد خطرها الماحق مع تدمير كيان الاحتلال للجيش السوري بالكامل برا وجوا وبحرا في 50 ساعة غارات عقب خلع النظام، والاستيلاء الخاطف على مناطق إضافية في الجنوب السوري، تعادل كامل مساحة لبنان، ونزع سلاح دفاع الوطن السوري يلحقه استراتيجيا بكيان الاحتلال، ويكشف حقيقة «الشرق الأوسط الجديد»، الذي تدفع إليه أمريكا و»إسرائيل»، وهو «الشرق الإسرائيلي الجديد» بامتياز، الذي لا يترك للسوريين سوى فرص الاقتتال الداخلي بلا نهاية، فاللهم احفظ سوريا.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه سوريا الأسد الشرق الأوسط سوريا الأسد الشرق الأوسط مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة صحافة اقتصاد سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة فی سوریا فی وطن
إقرأ أيضاً:
"اجتماعات الرياض بشأن سوريا" بحثت خطوات دعم الشعب السوري
اجتمع، الأحد في مدينة الرياض السعودية، وزراء خارجية وممثلي عدد من الدول العربية والغربية، لبحث خطوات دعم الشعب السوري.
وجاء في البيان الختامي الصادر عن رئاسة اجتماعات الرياض بشأن سوريا: "بدعوة من وزير خارجية المملكة العربية السعودية الأمير فيصل بن فرحان آل سعود، واستكمالاً للاجتماعات الوزارية التي استضافتها المملكة الأردنية الهاشمية في مدينة العقبة في تاريخ 14 ديسمبر 2024م، اجتمع اليوم في 12 يناير 2025م، في مدينة الرياض وزراء خارجية وممثلي كلٍ من مملكة البحرين، وجمهورية مصر العربية، والجمهورية الفرنسية، وجمهورية ألمانيا الاتحادية، وجمهورية العراق، والجمهورية الإيطالية، والمملكة الأردنية الهاشمية، ودولة الكويت، والجمهورية اللبنانية، وسلطنة عمان، ودولة قطر، ومملكة إسبانيا، والجمهورية العربية السورية، والجمهورية التركية، ودولة الإمارات العربية المتحدة، والمملكة المتحدة لبريطانيا العظمى وأيرلندا الشمالية، والولايات المتحدة الأميركية، والأمين العام لجامعة الدول العربية، والممثلة السامية للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسات الأمنية، والأمين العام لمجلس التعاون لدول الخليج العربية، ومبعوث الأمم المتحدة الخاص لسوريا".
وأضاف: "جرى خلال الاجتماع بحث خطوات دعم الشعب السوري الشقيق وتقديم كل العون والإسناد له في هذه المرحلة المهمة من تاريخه، ومساعدته في إعادة بناء سوريا دولة عربية موحدة، مستقلة آمنة لكل مواطنيها، لا مكان فيها للإرهاب، ولا خرق لسيادتها أو اعتداء على وحدة أراضيها من أي جهة كانت".
وتابع: "كما بحث المجتمعون دعمهم لعملية انتقالية سياسية سورية تتمثل فيها القوى السياسية والاجتماعية السورية تحفظ حقوق جميع السوريين وبمشاركة مختلف مكونات الشعب السوري، والعمل على معالجة أي تحديات أو مصادر للقلق لدى مختلف الأطراف عبر الحوار وتقديم الدعم والنصح والمشورة بما يحترم استقلال سوريا وسيادتها، أخذاً بعين الاعتبار أن مستقبل سوريا هو شأن السوريين، مؤكدين وقوفهم إلى جانب خيارات الشعب السوري، واحترام إرادته".
وذكر البيان أيضا: "كما عبّر المجتمعون عن قلقهم بشأن توغل إسرائيل داخل المنطقة العازلة مع سوريا والمواقع المجاورة لها في جبل الشيخ، ومحافظة القنيطرة، مؤكدين أهمية احترام وحدة سوريا وسيادتها وسلامة أراضيها".
وصرح وزير خارجية المملكة العربية السعودية بأن الاجتماع يأتي لتنسيق الجهود لدعم سوريا والسعي لرفع العقوبات عنها، مرحباً بقرار الولايات المتحدة إصدار الترخيص العام 24 بشأن الإعفاءات المتصلة بالعقوبات على سوريا، مطالباً الأطراف الدولية برفع العقوبات الأحادية والأممية المفروضة على سوريا، والبدء عاجلاً بتقديم كافة أوجه الدعم الإنساني، والاقتصادي، وفي مجال بناء قدرات الدولة السورية، ما يهيئ البيئة المناسبة لعودة اللاجئين السوريين، مؤكداً أن استمرار العقوبات المفروضة على النظام السوري السابق سيعرقل طموحات الشعب السوري في تحقيق التنمية وإعادة البناء وتحقيق الاستقرار، معرباً عن تقدير المملكة للدول التي أعلنت عن تقديم مساعدات إنسانية وإنمائية للشعب السوري.
كما أشاد بالخطوات الإيجابية التي قامت بها الإدارة السورية الجديدة، في مجال الحفاظ على مؤسسات الدولة، واتخاذ نهج الحوار مع الأطراف السورية، والتزامها بمكافحة الإرهاب، وإعلانها البدء بعملية سياسية تضم مختلف مكونات الشعب السوري، بما يكفل تحقيق استقرار سوريا وصيانة وحدة أراضيها، وألا تكون سوريا مصدر تهديد لأمن واستقرار دول المنطقة.
وجدد إدانة المملكة لتوغل إسرائيل داخل المنطقة العازلة مع سوريا والمواقع المجاورة لها في جبل الشيخ، ومحافظة القنيطرة، معرباً عن رفض المملكة لهذا التوغل باعتباره احتلالاً وعدواناً ينتهك القانون الدولي واتفاق فض الاشتباك المبرم بين سوريا وإسرائيل في العام 1974، مطالباً بالانسحاب الفوري لقوات الاحتلال الإسرائيلي من الأراضي السورية المحتلة.