عربي21:
2025-02-15@17:47:12 GMT

صهاينة ما بعد الأسد: حسافات وحسابات

تاريخ النشر: 15th, December 2024 GMT

يعيش المرء حفنة أيام، أو شهر رجب واحداً كما تقول الحكمة العتيقة، فيرى عجباً؛ وراهنوا أنّ غرائب شتى سوف تنتظره إذا تابع ما يكتبه صهاينة من كلّ فجّ ضحل أو عميق، حول سوريا ما بعد فرار بشار الأسد وانهيار ركائز نظام “الحركة التصحيحية”، صناعة الأب والوريث، واحدة تلو الأخرى. 

وليس الأقلّ نُطقاً بالعجيب أن تقرأ كتابات أقرب إلى “حسافات”، كما قد يقول أشقاؤنا العراقيون، على رحيل طاغية وابن سفاح وسليل عائلة مجرمي حرب عتاة؛ بل لعلّ أصحاب السبق هم أولئك الصهاينة الذين يتباكون على “تقصير” الديمقراطيات الغربية في حماية نظام ظلّ حارس احتلال الجولان الأمين طوال 50 سنة ونيف.



المفضّل في يقين هذه السطور، حتى الساعة على الأقلّ، صهيوني إسرائيلي يُدعى أرييل بئيري، يعرّف عن نفسه هكذا (نعم، صدّقوا!): “ستراتيجي وباني مؤسسات يكرّس نفسه لمستقبل أفضل لإسرائيل والشعب اليهودي. ويتفانى في حلّ المشاكل التي تواجه الإنسانية”؛ وهو الرئيس التنفيذي لخمس مجموعات عمل واستشارة، وصاحب مدوّنة تتخذ مفردة “المنارة” عنواناً لها. فما الذي يحزنه في رحيل آل الأسد، نظاماً ومافيات وعصابات وقتلة، أي بالجملة والمفرّق كما قد يصحّ القول؟

نقطة أولى هي أنّ العائلة الأسدية، وآخر رجالاتها بشار، كانت تسير حثيثاً نحو تحطيم “كذبة” صنعها الإنكليزي مارك سايكس والفرنسي فرانسوا جورج ـ بيكو بموجب الاتفاقية الشهيرة التي خلقت كيانات زائفة مثل العراق وسوريا؛ وهضمت، استطراداً، حقوق أقليات من الكرد واليزيديين والسريان والآشوريين وسكان الأهوار والعلويين والدروز… وكما أخطأ الغرب في العراق قبل 20 سنة، فظنّ أنّ هذا البلد يحتمل إقامة نظام ديمقراطي يتساوى فيه الأفراد، أو أنّ مسمى “العراق” له أيّ معنى فعلي خارج التخيّل أساساً؛ فإنّ الغرب سوف يخطئ مجدداً حين ينتظر من مسمى “سوريا” أيّ حظّ مماثل.
الخبر السيء لأمثال بئيري هو أنّ السوريين، مثل العراقيين، متجذرون في أرضهم منذ قرون، لا عاقل يضعها في مقارنة مع عقود استيطان الصهاينة في فلسطين
تفريع هذه النقطة، وربما عمود ارتكازها، هو أنّ آل الأسد كانوا على وشك ردّ سوريا إلى مكوّناتها الفعلية بعيداً عن مجموع البلد الذي رسمته “كذبة” سايكس وبيكو، أي إلى دويلات لأقليات إثنية ودينية حرمها المشروع الاستعماري الغربي (نعم، صدّقوا هنا أيضاً!) من حقوقها في الاستقلال والسيادة. وفي مناطق سوريا الساحل والوسط والشمال وشرق الفرات والجنوب، كان ممكناً إقامة كيانات تتأسس على مزيج من الأمر الواقع والتقسيم غبر المعلَن؛ ولقد فات هذا الصهيوني، “الستراتيجي” حسب توصيفه لذاته، أن يقتبس مقولة الأسد الفارّ حول “سوريا المفيدة”، لأنها كانت ستضيف إلى رأيه مطمحاً تنفيذياً على الأرض، وعيّنة على مكوّن ديمغرافي وجغرافي ألحق به الاستعمارُ الغبن والإجحاف.

“حسافات”، إذن، بعد الحسابات على اختلاف أصنافها، الجيو ـ سياسية أو التاريخية أو الديمغرافية أو الثقافية أو الأخلاقية؛ لا تغيب عنها، مع ذلك، جرعة تفلسف ركيكة سطحية، تستهدف تبرئة الكيان الصهيوني من مسارات هذه المعادلة؛ غير المنفصلة عن إرث سايكس ــ بيكو، في أوّل المطاف كما في نهايته. فارق دولة الاحتلال، حسب تفلسف بئير، هي التالية (صدّقوا أيضاً، للمرّة الثالثة!): أنها “ولدت حين كانت الجالية اليهودية القاطنة في أرض الأسلاف قد حاربت الجيوش الغازية التي أرادت فرض رؤيتها عن الحدود الاستعمارية”؛ وحيث “شاءت جماعة بشرية الحفاظ على استقلالها داخل كيان سياسي يعكس تاريخها، وثقافتها، وتقاليدها”؛ بالنظر إلى أنها “التعبير الوحيد في المنطقة عن شعب قديم ولد من جديد بعد الغزو”.

الخبر السيء لأمثال بئيري هو أنّ السوريين، مثل العراقيين، متجذرون في أرضهم منذ قرون، لا عاقل يضعها في مقارنة مع عقود استيطان الصهاينة في فلسطين، وبالتالي فإنّ سقوط نظام آل الأسد يتوجّب أن يستدعي الكثير من الحسابات الإسرائيلية؛ حتى حين لا يجبّ التباكي والحسرات، مع ذلك.

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه سوريا الأسد الصهاينة سوريا الأسد الصهاينة مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة صحافة اقتصاد سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة

إقرأ أيضاً:

العلويون.. القصة الغامضة لحكم سوريا

على مدار أكثر من ستين عاما تمكن العلويون الذين اتخذوا من حزب البعث تُكأة للصعود السياسي والاجتماعي والسيطرة على السلطة في سوريا، وتُعد هذه المرحلة "الأسدية" هي الحقبة الذهبية في تاريخهم السياسي الحديث في سوريا والشرق الأوسط منذ ظهورهم كطائفية دينية قبل أكثر من ألف عام، فلأول مرة لا يتمكنوا من حكم أنفسهم في مناطقهم الحصينة في أعالي الجبال الممتدة من الساحل التركي شمالا إلى سواحل اللاذقية وطرطوس جنوبًا فقط؛ إذ أنهم بسطوا هيمنتهم على كامل الأراضي السورية.

خريطة سوريا محدد عليها محافظتي اللاذقية وطرطوس، والعاصمة دمشق (الجزيرة) التاريخ والاعتقاد

يعود نشأة طائفة العلويين أو النّصيرية إلى مؤسسها محمد بن نصير النُميري البصري، الذي وُلد في العراق في إبان القرن الثالث الهجري/ التاسع الميلادي، وقد أصبح ابن نصير جزءًا من حركة عُرفت بالغلو في القرن الثامن الميلادي في مدينة الكوفة.

ووفق عدد من المصادر التاريخية، فقد كان محمد بن نصير شخصية دينية ذات طابع غامض وجاذبية واسعة بين أتباعه خلال القرن التاسع الميلادي، ينتمي إلى قبيلة بني نمير الشيعية التي استوطنت قرب نهر الفرات في جنوب العراق، والتي كانت متحالفة مع قبيلة بني تغلب، العمود الفقري للدولة الحَمدانية الشيعية التي تأسست في حلب خلال القرن العاشر الميلادي، وقد بزغ نجم ابن نصير عندما أعلن عام 850م أنه "الباب" الذي يُولج منه للإمام الشيعي المعصوم.

اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2لماذا أراد صدام حسين قتل حافظ الأسد؟list 2 of 2لماذا أراد رفعت الأسد القضاء على أخيه حافظ؟end of list إعلان الفرنسيون يعتمدون على العلويين

اليومـ يمثل العلويون ما يقارب 8% من السكان في سوريا، والأمر اللافت الذي يذكره كمال ديب في كتابه "تاريخ سوريا المعاصر" أن بزوغ نجم العلويين بدأ مع الاهتمام الفرنسي بهم من قبل احتلالهم الفعلي لسوريا بعامين كاملين، ففي 6 نوفمبر/تشرين الثاني 1918 وبعد خروج العثمانيين وهزيمتهم بشهر كامل، وصلت قوة فرنسية صغيرة إلى مرفأ اللاذقية، "وكان هذا الحضور الفرنسي المبكر لافتًا للنظر؛ إذ إن دخول القوات الفرنسية إلى سورية سينتظر عامين إضافيين، فكان خيار البدء باللاذقية دليلا على اهتمام الفرنسيين بالعلويين".

وعقب الاحتلال الفرنسي الفعلي للبلاد عام 1920 سعت فرنسا إلى تشكيل ما يُسمى بـ"جيش المشرق السوري" التابع لها من عامة السوريين، ولكنها واجهت حينئذ رفضا واسعا من الأغلبية السنية التي تصل ل80% من جملة السكان لأسباب متعددة، كان على رأسها الرفض الوطني للاحتلال، فضلا عن النفور من العسكرية؛ إذ كان لدى السنة ذكريات مريرة من الخدمة العسكرية حيث فقدوا أعدادا كبيرة من أبنائهم في الحرب العالمية الأولى التي دخلوها ضمن الفرق والجيوش العثمانية.

وكان للوضع الاقتصادي الجيد للسنة دوره في ابتعادهم عن الالتحاق بالجيش؛ إذ كانوا يسيطرون على التجارة والصناعة ويمتلكون الإقطاعيات، مما قلل من حاجتهم للانخراط في الجيش. وأمام هذا الرفض للأغلبية السُّنية وجد الفرنسيون أن الطائفة العلوية هي الأنسب لدعم مصالحهم الاستعمارية وترسيخ نفوذهم، لعدة أسباب مهمة؛ إذ كان العلويون يتركزون في منطقة واحدة هي شمال غرب سوريا، على عكس المسيحيين المنتشرين في مختلف أنحاء البلاد. هذا التمركز الجغرافي جعل من السهل التخطيط لتقسيم سوريا وتكوين دولة خاصة بالعلويين.

والأمر الآخر الذي شجع الفرنسيين على ذلك كان بسبب الظروف الاقتصادية الصعبة التي عانى منها العلويون، وحاجتهم للأموال حيث انضم عدد كبير منهم إلى الجيش الفرنسي، ووجدوا فيه فرصة للعمل والحصول على امتيازات مادية واجتماعية.

إعلان

والأهم من ذلك أن الفرنسيين وثقوا في العلويين واعتبروهم حلفاءهم بهدف تهميش السنة وهو الأمر الذي أكده العديد من الساسة السوريين، منهم الرئيس الأسبق أمين الحافظ في برنامج "شاهد على العصر" على قناة الجزيرة، وهو الرئيس السوري والضابط الذي شارك في انقلاب البعث مع حافظ الأسد ومحمد عمران وصلاح جديد وغيرهم في مارس/أذار 1963.

وقد قام الفرنسيون بعد احتلالهم بتقسيم سوريا إلى أربعة دول؛ واحدة في دمشق والأخرى في حلب والثالثة للدروز في الجنوب والأخيرة دولة العلويين في الساحل السوري، حيث ضمت محافظتي اللاذقية وطرطوس، ورغم هذا التقسيم، فقد فشلت الدولة العلوية الصغيرة بسبب افتقارها إلى العمق الجغرافي والاقتصادي؛ إضافة إلى الضغوط المتزايدة من القوى السنية، وعلى رأسها الكتلة الوطنية، التي طالبت بإعادة توحيد الأراضي السورية.

وعلى الرغم من هذا الفشل، قدم بعض وجهاء العلويين طلبا للفرنسيين يدعون فيه لاستمرار الفصل بين دولة العلويين وسوريا، وكان من بين الموقعين على هذا الطلب سليمان الأسد، جد الرئيس السابق حافظ الأسد، وقد كشفت فرنسا عن هذه الوثيقة في عام 2012 إبان الثورة السورية، ولا تزال الوثيقة التي تحمل هذا الطلب محفوظة في الخارجية الفرنسية تحت الرقم 3547 لسنة 1936.

والحق أن جيش المشرق الفرنسي في سوريا كان يعتمد بشكل كبير على رافد لا ينقطع من الجنود العلويين، وقد تشكلت غالبية قواته من 10 كتائب مشاة من العلويين، وعندما تم تأسيس الجيش السوري بعد جلاء الفرنسيين عام 1946، تم دمج جيش المشرق الفرنسي في الجيش الوطني الجديد، مما أدى إلى انتقال هذه النسبة الكبيرة من الضباط والجنود العلويين إلى الجيش السوري. وهكذا، تشكلت كتلة علوية قوية داخل الجيش، حيث بدت وكأنها "جيش داخل جيش".

ترقب الفرص

كان حلم العلويين بعد الاستقلال وجلاء المحتل إعادة تأسيس دولة العلويين، ولكن برؤية أكثر توسعا وإحكاما، حيث خطط بعض الضباط العلويون لضم مدينة حمص ومساحات واسعة من محافظتها، لتوفير العمق الجغرافي لدولتهم، ولتحقيق ذلك كان الهدف يتمثل في تهجير السكان السنة من هذه المناطق، ليصبح العلويون هم الأغلبية السكانية، ما يمهد الطريق لتأسيس دولتهم المزعومة بقوة أكبر وهذا ما قاموا به بالفعل كما سنرى.

خارطة سوريا ويظهر فيها مدينة حمص (الجزيرة)

في ذلك الوقت كانت كتلة ضخمة من الجيش السوري في منتصف القرن العشرين متأثرة بنفوذ حزب البعث الاشتراكي والحزب السوري القومي الاجتماعي، وهو ما دفع الضباط العلويين للانتماء إلى كلا الحزبين لضمان البقاء في صف المنتصر، واتخاذه ستارة لتحقيق أهدافهم الإستراتيجية.

إعلان

ولكن كما يوضح باتريك سيل في كتابه "الأسد .. الصراع على الشرق الأوسط" تغيّرت المعادلة بعد مقتل العقيد عدنان المالكي عام 1955 وكان رجلا بعثيا على يد جندي علوي ينتمي للحزب السوري القومي، الأمر الذي أدى إلى اضطهاد كل من ينتمي لهذا الحزب، وهو الأمر الذي كان له أكبر الأثر في انتقال معظم الضباط العلويين إلى حزب البعث، وفي هذه المرحلة انتقلت قيادة الضباط العلويين من غسان جديد الذي قُتل عام 1957، إلى شقيقه صلاح جديد، الذي أصبح الشخصية المحورية في قيادة وتحريك هؤلاء الضباط.

خلال الفترة بين 1949 و1958، عانت سوريا من عدم الاستقرار السياسي نتيجة سلسلة من الانقلابات العسكرية المتكررة التي كان يقودها الضباط السنة ضد بعضهم البعض، وكل ضابط كان يصل إلى السلطة كان يقوم بفصل الضباط السنة المنافسين له واضطهادهم وسجنهم ونفيهم، ما فتح المجال أمام الضباط العلويين لتعزيز وجودهم، ووفق هذه التطورات تمكن هؤلاء من تقديم أنفسهم كعامل توازن يمكِّن أحد الأطراف من التغلب على الآخر، في حين أن الضباط السنة لم يعتبروا هؤلاء الضباط المنتمين إلى أقلية خطرا على منصب الرئاسة أو قيادة الجيش، مما ساعد العلويين على تعزيز نفوذهم بشكل تدريجي.

في عام 1958، ومع قيام الوحدة بين مصر وسوريا تحت مظلة الجمهورية العربية المتحدة، تم حل جميع الأحزاب السياسية وفقا لما اشترطت القاهرة، لكن الضباط العلويين تمكنوا من الحفاظ على هيكلية سرية خاصة بهم، استطاعوا من خلالها ملء الفراغ الذي تركه حزب البعث بعد حله مؤقتا، وكانت هذه الهيكلية بقيادة اللجنة العسكرية التي ترأسها صلاح جديد، وضمت شخصيات بارزة مثل حافظ الأسد، ومحمد عمران، وعبد الكريم الجندي (وهو إسماعيلي).

وبعد انفصال سوريا عن مصر عام 1961، استغلت اللجنة العسكرية الرغبة الشعبية العارمة في إعادة الوحدة إلى جانب الدعم الكبير من ضباط الجيش، لتعزيز نفوذها وإعادة تنظيم صفوفها، مما مهد الطريق لزيادة تأثيرها في الحياة السياسية والعسكرية في البلاد.

إعلان انقلاب علوي

وفي شهر مارس/أذار عام 1963، تمكنت اللجنة العسكرية التابعة لحزب البعث من استغلال شعار الوحدة العربية لإقناع الضباط الناصريين ومؤيدي الوحدة، وعلى رأسهم لؤي الأتاسي ومحمد الصوفي وزياد الحريري، بالتعاون لتنفيذ انقلاب عسكري بهدف إعادة الوحدة بين سوريا ومصر، وبالفعل نجح الانقلاب في إيصال هؤلاء الضباط إلى السلطة، ولكن بينما انشغل الضباط السُّنة بالمناصب الشكلية، ركز الضباط العلويون على السيطرة على مفاصل الجيش والدولة.

تم تعيين لؤي الأتاسي رئيسا للجمهورية، ومحمد الصوفي وزيرا للدفاع، وزياد الحريري رئيساً للأركان، في حين كانت اللجنة العسكرية العَلوية تعمل بذكاء لتثبيت قبضتها على المواقع الاستراتيجية؛ حيث سيطر صلاح جديد على مكتب شؤون الضباط، ما مكنه من نقل وفصل واستقطاب الضباط بما يخدم أهدافه، كما تولى حافظ الأسد قيادة القوات الجوية والمطارات، بينما تسلم محمد عمران قيادة القوات البرية، حيث عُين قائدا للواء الخامس في حمص واللواء المدرع السبعين.

وخلال فترة قصيرة لا تتجاوز أربعة أشهر، نجح الضباط العلويون في بسط نفوذهم على الجيش والدولة، وفي يوليو/تموز 1963، وبينما كان الرئيس لؤي الأتاسي يجتمع مع جمال عبد الناصر لمناقشة إعادة الوحدة، شن الضباط العلويون حملة لإقصاء الضباط الناصريين ومؤيدي الوحدة، ومن اللافت أنه قد شارك في هذه الحملة أمين الحافظ وزير الداخلية آنذاك، وهو ضابط سني، والذي تولى لاحقا منصب رئيس الجمهورية، ومع ذلك، لم يستمر أمين الحافظ طويلا في منصبه، فقد اتخذه الضباط العلويون مجرد ستار لتحقيق أهدافهم، حيث تم الإطاحة به في انقلاب عام 1966 بقيادة صلاح جديد وحافظ الأسد، حيث وضعوا نور الدين الأتاسي كواجهة لرئاسة سوريا.

الأمر الذي يلحظه الباحث ريموند هينبوش في دراسته "علوّيو سورية وحزب البعث" أن السلطة العلوية الجديدة فتحت الباب أمام عامة العلويين من النزول من جبال وقرى النصيرية في الساحل إلى المناطق السهلية، وشجّعوا على هذه الهجرة خاصة إلى وادي الغاب وسهل عكار ومناطق في حمص يقول: "تضمن الإصلاح الزراعي في ستينيات القرن العشرين الاستيلاء على أراض زراعية شاسعة من أيدي النُّخب المدينية السُّنية والمسيحية غالبًا، وإعادة توزيعها على السكّان العلويّين… واستكملت تلك الإجراءات الإستراتيجية التي وضعها حافظ الأسد لتقويض المجتمعات السُّنية العربية والكردية التي سكنت تلك المناطق وعارضت نظامه".

إعلان

على المستوى السياسي وفي هذه المرحلة الجديدة، نجح صلاح جديد وحافظ الأسد في إقصاء زميلهم محمد عمران، أحد أعضاء اللجنة العسكرية العلوية بسبب اعتراضه على بعض الإجراءات التي اتخذوها، مما عزز من نفوذهما، وفي تلك المرحلة تولّى حافظ الأسد منصب وزير الدفاع، بينما ارتكب صلاح جديد خطأ استراتيجيا بتركه قيادة الجيش لحافظ الأسد وانشغاله بإدارة الدولة والحزب.

صلاح جديد (الموسوعة) الأسد والعصر الذهبي للعلويين

في خلال ثلاث سنوات من تولي حافظ الأسد منصب وزير الدفاع، تمكن مِن إحكام سيطرته الكاملة على الجيش السوري، وقد نفذ انقلابه الشخصي في عام 1970 الذي أطاح فيه بـصلاح جديد والرئيس نور الدين الأتاسي، وألقاهما في السجون، وفي عام 1971، أعلن حافظ الأسد نفسه رئيسا للجمهورية، مستهلاً مرحلة جديدة في تاريخ سوريا.

في كتابه "الصراع على السلطة في سوريا"، يوضح المؤرخ والدبلوماسي الهولندي نيقولاس فان دام أن حافظ الأسد، بعد استيلائه على السلطة في 13 نوفمبر/تشرين الثاني 1970، اعتمد بشكل كبير على مجموعة من الضباط الموالين له، الذين شغلوا مواقع إستراتيجية بارزة في القوات المسلحة، ويشير فان دام إلى أن معظم هؤلاء الضباط كانوا من الطائفة العلوية، أما الضباط المنتمون إلى طوائف دينية أخرى، ورغم توليهم مناصب عسكرية رفيعة، فقد كانت أدوارهم شكلية فقط، حيث لم يكونوا في موقع يسمح لهم بتهديد سلطة الأسد.

ويضرب فان دام أمثلة للتأكيد على هذه الفكرة؛ فاللواء ناجي جميل، وهو ضابط سني من محافظة دير الزور، ترأس سلاح الجو السوري من نوفمبر/تشرين الثاني 1970 وحتى مارس/آذار 1978. ومع ذلك، لم يكن بإمكانه استخدام سلاح الجو بفعالية في مواجهة أي تهديد عسكري ضد حافظ الأسد؛ لأن الضباط العلويين كانوا وحدهم من يسيطرون على القواعد الجوية الرئيسية في البلاد.

وهذا الأمر ينطبق على ضباط سُنة آخرين، مثل اللواء مصطفى طلاس، الذي عُين وزيراً للدفاع في مارس/آذار 1972، وكذلك اللواء يوسف شكور، وهو مسيحي من طائفة الروم الأرثوذكس، الذي تولى منصب رئيس الأركان لاحقا، فقد كانوا في مناصب مرموقة من حيث الشكل، ولكن مفاصل القوات المسلحة ووظائفها الإستراتيجية كلها بيد الضباط العلويين.

إعلان

وإذا كان الأمر سار بهذه الطريقة على مستوى الضباط والقيادات العسكرية في الجيش، فإن ريموند هينبوش في دراسته السابقة يرى أن الإستراتيجية ذاتها طُبقت على مستوى الجنود وضباط الصف في الجيش أيضًا؛ صحيح أن المجتمع السني أدّى دورًا بارزًا في القوات المسلحة السورية منذ تأسيسها غير أن المجندين السنة القادمين من المناطق الريفية مثل قرى حوران والمناطق المحيطة بحمص ونهر الفُرات كانت فرصتهم أقل في الترقي المهني في الوحدات المدرّعة والقوى الجوّية ووحدات النُّخبة في الجيش السوري مثل الفرقة الرابعة سيئة السُّمعة، التي بقيت تحت سيطرة قادة علويين فضّلوا تقليديا تجنيد أفراد علويّين.

وبعد حرب 1973 وبفضل هذه الخطوات أدرك حافظ الأسد أنه بات يمكنه تحقيق سيطرة العلويين على كامل سوريا، ولكن بشرط اتباع سياسة صارمة تعتمد على القمع والقبضة الحديدية وسحق السنة وهو ما حدث في العديد من المجازر في جسر الشغور وحماة وغيرها، ورغم هذا الانتصار العلوي الضخم والإستراتيجي، اتخذ بعض العلويين الآخرين مبدأ الرفض لهذا النهج؛ مُفضلين فكرة إقامة دولة علوية مستقلة خاصة بهم، وكان من بين هؤلاء كان الوزير والأديب العلوي المعروف بدوي الجبل.

عقب وفاة حافظ الأسد عام 2000، استمرت هيمنة العلويين على السلطة بارتقاء الابن بشار الأسد في عملية توريث حكم الجمهورية، ويلحظ ريموند هينبوش إلى أن الثورة السورية التي انطلقت في عام 2011 وانشقاق العديد من الضباط السُّنة رفيعي المستوى وانضمامهم للجيش السوري الحر مثل عبد الرزاق طلاس، ومناف طلاس الذي فر هاربًا بعد عجزه عن إخماد المعارضة في مدينة الرستن بحمص، جعل نظام بشار الأسد يُبقي الكتائب ذات الأغلبية السُّنية داخل ثكناتها لشكّه في ولائها، رغم إدراكه استنزاف احتياطي الجنود العلويين، لهذا السبب كان بطيئًا في مكافحة الثورة، وعانى صعوبة كبيرة في استعادة السيطرة على المناطق التي استولت عليها المعارضة.

ومنذ عام 2012 سرّع النظام من تجنيد علويي الساحل، واستدعى تقريبا كل الذكور الذين تترواح أعمارهم بين 20 و 40 سنة للخدمة العسكرية والقتال في محاولاته تدارك عدم التوازن المجتمعي داخل قوات الأمن، وتعويض الخسائر التي تكبدها الجيش، وقد تقبّل العلويون هذا الانضمام للقتال بكثافة وسرعة أكبر مقارنة بالسنة والدروز والمسيحيين كما يقول هينبوش.

إعلان

وفي 8 ديسمبر/كانون الثاني 2024 انهار حكم عائلة الأسد، وقد حمل في ثناياه انهيارا واضحًا للسيطرة العلوية على السلطة في سوريا التي استمرت قرابة الستين عاما، وهي قصة لافتة رأينا فصولها وأحوالها التي بدأت بدعم من المحتل الفرنسي، واستغلال من الضباط العلويين لكثرة الانقلابات العسكرية التي قادها الضباط السنة وصراعهم على السلطة في البلاد، ليستأثروا وينفردوا بالمشهد.

مقالات مشابهة

  • الصحف العربية.. صندوق إعمار عربي لغزة.. ووزير لبناني يكشف تدخلات نظام الأسد في لبنان
  • معتقلون سابقون بسجون نظام الأسد يطالبون بتحقيق العدالة
  • العلويون.. القصة الغامضة لحكم سوريا
  • لماذا لم يستفد العراق من نظام المؤسسات وأبدله بالمحاصصة؟!
  • كل شيء أفضل من ذي قبل.. كيف تستعد سوريا لفتح أبوابها أمام السيّاح
  • هل أرسلت روسيا «60 تريليون ليرة» إلى سوريا؟
  • وزير الخارجية الفرنسي: مستعدون لتأمين المساعدات الإنسانية اللازمة لسوريا
  • تعديل لنظام العقوبات.. بريطانيا تخفف بعض القيود على سوريا لمساعدة شعبها
  • بريطانيا تعتزم تعديل نظام العقوبات المفروضة على سوريا بعد سقوط الأسد
  • بوتين يهاتف الشرع ويؤكد استعداد موسكو لمراجعة الاتفاقيات الموقعة مع نظام الأسد