دمشق تهتف بالحرية
الأردن وطن العشق والنخوة والثورة الأولى، وطن الرجال الذين لم تنحني أعناقهم إلا لله، ولم تحمل جباههم إلا شموس المجد وتبر الأرض سيماء الحق. عبر التاريخ، كان الأردن حاضرًا في ميادين البطولة، ممتدًا بجسور العروبة نحو كل شبر عربي. من هذا الإرث القومي، انطلق اللواء المدرع الأربعين عام 1973 أثناء حرب رمضان، ليحط رحاله على محور درعا – دمشق، حيث واجه الجندي الأردني بشجاعة القوات الإسرائيلية، مسطرًا مواقف خالدة من الشرف والبطولة.
كنا أطفالًا في المرحلة الابتدائية آنذاك، تستوقفنا النشرات الإخبارية في طريق عودتنا من المدرسة، نقف أمام الدكاكين التي ترفع صوت المذياع ليسمع المارة أخبار المعارك في الجبهة، التي تنتهي بالأناشيد الوطنية. اليوم نتذكر ذلك بحزن لا يخلو من خيبة وألم، فما حدث في سوريا بعد ذلك مريع.
أحايين كثيرة قصدنا الشام، سارت بنا القوافل مع أنواء الخير وحطت بنا حيث حط التاريخ، وطبعت أقدامنا على ثرى دمشق وحلب واللاذقية آثارًا وذكريات لا تمحى. قرأنا شعر نزار الدمشقي الجميل وتعلمنا الحب من دفتر يومياته، وصنعنا لحبيباتنا قلائد الياسمين الدمشقي، وعانقت قلوبنا مآذن الجامع الأموي. نادمنا الموج وفيروز الشطآن في اللاذقية، وظللنا التاريخ في قلعة حلب وأرواد، جمعتنا هموم العرب وآلامهم.
مقالات ذات صلة كان طاغيا 2024/12/14لكن كما عانقت قلوبنا سوريا الحب والجمال، عرفت أجسادنا وجهًا آخر منها، حيث لم تبخل سجونها ومراكز التحقيق باحتضان الكثير من زوارها طلبة كانوا أو ذوي حاجة. اسألوا صيدنايا عن ذلك، تلك الجدران التي شهدت على تضحيات لا تُنسى، وذكريات نقشها الألم والمقاومة.
خمسون من السنين الطوال تقلب على جمرها ثلاثة أجيال في سوريا. نضحت منها ملايين كثيرة في أمواج من الهجرة القسرية، فُقد في الداخل والخارج مئات الآلاف من المدنيين، ربما دفنوا في مقابر مجهولة لا شواهد لها، بلا طقوس ولا صلوات. منهم من قذفته أمواج البحر على شواطئ غريبة بعد أن أكلت منهم كائنات البحر الوحشية.
بين الأدب والواقع
أسماء كثيرة عرفناها من العلماء والأدباء والمشايخ، غابوا كما تغيب شمس النهار ولم يعودوا، منهم من أخرسهم وجع الفقد ومر القهر وجبروت الصنم الأكبر الذي دعا كما دعا فرعون إذ قال: “أنا ربكم الأعلى”. ومنهم من غُيّبوا في أقبية تحت الأرض بين الموت والحياة، في ظلمة كظلمة القبر.
أدباء كثر كتبوا روايات وصفوا فيها ما حدث في سجون سوريا قبل وبعد مجزرة حماة. كان عبدالرحمن منيف أول من صرخ في روايته شرق المتوسط (1975) وتحدث عن الاعتقالات والسجون – لم يخص سوريا بالذكر. أما أيمن العتوم في روايته يسمعون حسيسها (2012) فقد روى قصة طبيب سوري أمضى 17 عامًا في سجن تدمر، وصف فيها حملات العقاب الجماعي، والأمراض المتفشية بين السجناء ورائحة الموت وانتظاره.
وإذا قرأت ما كتب أحمد خيري العمري في روايته بيت خالتي (2020)، فلا أظنك تبقى سويًا. لا بد أنه كتبها بعد أن عاد من جهنم! تحدث عن فتيات مشبوحات، يُقتلن مرات عدة، وعن أطفال ولدوا في السجن، ترى في وصفه مشاهد وحشية من الظلم، مشاهد مقززة عندما يفقد البعض عقله، تحدث عن غرف الملح وعن القهر الذي تتجرعه القلوب كالسم.
وجوه المأساة
جانب من فؤادي شك في كل ذلك، حتى رأيت طفل سجن صيدنايا، يلوذ بأمه فزعًا، ابن سنتين أو ثلاثة، بشعره المجعد الأسود وخصلات تغطي عينيه. وجهه الملائكي الصغير ونظرة الدهشة في عينيه. أكان يعرف ما يراه؟ هو الذي ولد في زنزانة ولم يخرجه إلا رجال الثورة، كيف لملاك أن يعيش في واد من وديان جهنم؟
اختفت جموع الجند الذين كانوا لأبناء وطنهم أعداء، لم يجد جيش العدوان الإسرائيلي أمامهم أحدًا! فتقدم محتلا وتمدد لأراض في جبل الشيخ والقنيطرة وتوقف يشحذ نصاله لا يبعد عن دمشق إلا القليل، أين اختفى جيش النظام البائد؟ هل انسحب ليحمي أسلابه وما اكتسبه من تجارة أولي أمره بالمخدرات؟
الأمل والختام
واليوم، ينظر المواطن العربي السوري بأمل وسلام وتسامح. يبدأ ترميم الأنفس التي تأذت، والمرافق التي تهدمت، وكل نواحي الحياة التي بدأت تستعيد حيويتها.
إنها ليست مجرد عملية إعادة إعمار، بل محاولة لإعادة بناء الهوية التي تهشمت بفعل الصراعات. يعيد السوريون اليوم صياغة روايتهم الخاصة عن الألم والمقاومة، واضعين الأمل نصب أعينهم رغم شبح الماضي. ولكن، لا يمكن بناء مستقبل مستدام دون مواجهة الماضي بصدق.
إقامة العدل للضحايا ومعاقبة المجرمين ليست فقط حقًا لأرواح عانت وقُتلت، لكنها أيضًا شرط أساسي لترسيخ السلام الحقيقي. العدالة ليست انتقامًا، بل هي تصحيح للمسار، وإغلاق للجروح المفتوحة التي تنزف في قلوب ملايين السوريين.
ما أجمل أغنية السيدة فيروز إذ يحق لهم الهتاف بها:
طلعنا…. حررنا
طلعنا على الضو
طلعنا على الريح
طلعنا على الشمس
طلعنا على الحرية
يا حرية يا زهرة نارية
يا طفلة وحشية يا حرية.
ومع ذلك، فإن الغموض ما زال يلف أفق سوريا والمنطقة. هل ستولد عصابة هجينة أخرى ترث ما قبلها من منظمات إرهابية؟ هل سيكون مصير سوريا مختلفًا عن دول الربيع العربي وما انتهت إليه؟
يبقى الأمل بأن لا تُمحى آلام الماضي عبثًا، وأن تكون هذه التضحيات الجسر الذي يربط بين ماضٍ مليء بالجراح ومستقبل أكثر إشراقًا. ولكن هذا الجسر لن يكتمل إلا عندما تتسع العدالة لتشمل كل من فقدوا أصواتهم في طيات الظلام.
المصدر: سواليف
إقرأ أيضاً:
عمرو أديب عن مستقبل الوضع في سوريا: المنتصر هو الذي سيحكم
تحدّث الإعلامي عمرو أديب، عن مستقبل الأوضاع في سوريا، قائلا: "المنتصر هو الذي سيحكم".
متجوش على مصر للطيران| عمرو أديب: مطار هيثرو مفيش طيارة فيه بتطلع في معادهاعمرو أديب بعد خسارة الأهلي: قلبي يقطر دما وخسرنا مواجهة أفشة ومودريتشوأضاف الإعلامي عمرو أديب، خلال تقديمه برنامج "الحكاية"، على قناة “إم بي سي مصر”: "اللي انتصر في سوريا واللي معاه هم اللي هيحكموا.. ومن المرات القليلة اللي تشوف رؤساء مخابرات بتدعم وموجودة".
وأشار: "المخابرات التركية قابلت أحمد الشرع في سوريا"، موضحًا: "رئيس جهاز المخابرات التركية كان يتجول أمام السوريين بشكل عادي مع قائد هيئة تحرير الشام في قلب دمشق".