تفتقد (ومضة) بيت أسرتها في جزيرة توتي، وقد أرغمتها ميليشيا الدعم السريع على هجره منذ الأيام الأولى للحرب، وأصبحت بعد ذلك تبحث في خارطة (قوقل إيرث) عن تلك الذكريات الحبيسة، لكنها لم تعثُر على شيء، ولم تعُد تعرف أين نزح العديد من الجيران والأصدقاء، مع انقطاع أخبارهم، ما جعلها تعاني من الخوف والقلق.

بعد نحو (20) شهراً من الحرب تحولت جزيرة توتي – وسط الخرطوم – إلى ثُكنة عسكرية للجنجويد، وأصبحت شبه خالية من السكان، تفوح من شوارعها القديمة رائحة الموت، وينعق البوم من فوق أشجارها العتيقة، التي تساقطت أوراقها ولم تجد من يعتني بها، بينما توقفت الحركة تماماً فوق جسر توتي، عدا الدراجات النارية التي يتحرك بها أفراد عصابات التمرد، أما الشاطئ على الضفة الشرقية للنيل الأزرق، والذي كان يعرف بـ(البيتش)، وتخيم فيه الأسر، فقد غرق في الصمت وأخرست البنادق صخبه الجميل، كذلك بوابير المياه التي كانت تروي الجنائن وأحواض الزرع.

لم يكن ضمن خيارات سكان توتي مغادرة الجزيرة التي عمّرها أجدادهم – على ضفة نهرٍ صافٍ – منذ مئات السنين، لتكون بمثابة الدُرّة التي يحفها النيل، وازدهرت بعد ذلك الحياة والسياحة فيها، كما اشتهر أهلها أيضاً بالزراعة وصيد الأسماك، وأنجبت عديد المشاهير في السياسة والفن والرياضة.

في الشهور الأخيرة بدأت ميليشيا الدعم السريع تضيق الخناق على الأسر التي فضلت البقاء، وقامت باعتقال العديد من الرجال ومضايقة النساء، وحولت البيوت إلى معتقلات وسجون، وزجت فيها عشرات الشباب والشيوخ، حيث مات الكثير منهم تحت التعذيب، أو بسبب الجوع والمرض، ولا يزال بعضهم رهن الاعتقال.

غادر محجوب جزيرة توتي ضمن الفوج الأخير إلى دور إيواء في أم درمان، بعد فقدان الأمل في عودة الحياة إلى طبيعتها.

وقال لـ(المحقق): “خرجت ضمن العديد من الأسر، وقد استغرقت رحلة الوصول إلى أم درمان أكثر من ثلاثة أيام، كانت رحلة محفوفة بالمخاطر، وكتب لنا عمر جديدة، لا أصدق أنني نجوت من هؤلاء القتلة”.

وقد رشحت تقارير عن قيام أفراد الميليشيا بإجبار الأسر على دفع مبالغ مالية طائلة حتى يُسمح لهم بالمغادرة، تراوحت ما بين ثلاثة إلى خمسة مليون جنيه، فيما تعرضت معظم المنازل إلى النهب من قبل عصابات التمرد، وبدا منظر البيوت والشقق وهى محطمة الأبواب، وأثاثها مبعثر في الطرقات يبعث على الحزن، لدى سكان الجزيرة، في نفس الوقت قامت الميليشيا بنصب المدافع فوق أسطح البنايات العالية وتدوين مدينة أم درمان منها.

مؤخراً، وبعد انعدام الاحتياجات الضروية، وتوقف جميع التكايا التي كانت تعمل بدعم أبناء توتي بالخارج، حيث ظلت توفر الطعام للأسر الموجودة، أصبحت الصورة قاتمة، مع انقطاع الكهرباء والمياه، وكذلك شبكة الاتصالات، وتم أيضاً نهب الصيدلية الوحيدة التي ظلت تعمل، ما جعل تلك الأسر تقرر مغادرة الجزيرة – بصورة مؤقتة – واستحالت الحياة هنالك إلى جحيم، حد أن أهلها لم يدروا أبداً في أسوأ كوابيسهم، أن يغادروا تلك الجزيرة بصورة جماعية.

وهى المرة الأولى التي تصبح فيها جزيرة توتي خالية من السكان، حتى عندما كان النيل يفيض في الخريف ويهجم عليها بقوة، كانوا يواجهونه بجسارة، ويلجمون عنفوانه أحياناً بأجسادهم، لكنهم اليوم أكرهوا على النزوح، وأضحت توتي حبيسة لعصابات الصحراء، مقهورة، نهارها كليلها، مُعتم وحزين، فمتى يطل صباحها من جديد؟

المحقق – عزمي عبد الرازق

إنضم لقناة النيلين على واتساب

المصدر: موقع النيلين

كلمات دلالية: جزیرة توتی

إقرأ أيضاً:

عصام شيحة: لا توجد دولة خالية من انتهاكات حقوق الإنسان ومصر تعالج أخطاءها

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق

أكد عصام شيحة، رئيس المنظمة المصرية لحقوق الإنسان، أن هناك تحسنًا ملحوظًا في مراكز التأهيل والإصلاح، حيث تم تطويرها بشكل كبير من حيث تقديم الخدمات الصحية على أعلى مستوى، إلى جانب توفير فرص عمل في المصانع التابعة لتلك المراكز.

وأضاف شيحة خلال لقائه مع الإعلامية فاتن عبد المعبود ببرنامج "صالة التحرير" على قناة صدى البلد، أن لجنة العفو الرئاسي قد ساهمت في الإفراج عن العديد من المعتقلين في الفترة الأخيرة.

وأوضح أن الطريق طويل في ملف حقوق الإنسان، مشيرًا إلى أن لا دولة في العالم قد وصلت إلى مرحلة الكمال في هذا المجال، وأن مصر تمتلك استراتيجية وطنية وإرادة قوية لحل كافة المشكلات المتعلقة بحقوق الإنسان.

وتابع شيحة قائلاً: "لا يوجد أي دولة في العالم خالية من انتهاكات حقوق الإنسان، ولكن مصر تعمل على رصد تلك الانتهاكات ومعالجتها بناءً على رغبتنا الداخلية ولصالحنا كدولة."

كما أشار إلى الدور الكبير الذي تلعبه الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان في الحد من الانتهاكات، مطالبًا بضرورة التوصل إلى قرار بشأن الحبس الاحتياطي قبل 29 يناير المقبل. https://www.youtube.com/watch?v=rwcuMLASboo

مقالات مشابهة

  • غزة أكثر مناطق العالم التي يعيش فيها مبتورو الأطراف .. والسبب العدوان الإسرائيلي
  • عصام شيحة: لا توجد دولة خالية من انتهاكات حقوق الإنسان ومصر تعالج أخطاءها
  • بلينكن: واشنطن كانت على اتصال مباشر مع المجموعة التي أطاحت بالأسد
  • أنتظر مواقفة الحكومة السودانية على الوساطة التركية ومن ثم ردود أفعال الجنجويد والقحاتة
  • #هذه_أبوظبي.. جزيرة نوراي بعدسة مايكل هندرسون
  • شاهد بالفيديو.. بروفيسور ومؤرخ سوداني يفجر المفاجأت: البئر التي رمي فيها سيدنا يوسف موجودة بالسودان ووالده سيدنا يعقوب كان يقيم في جبل مرة بدارفور ورحل إلى مصر بعد الواقعة
  • لعناية اللواء بتاع قواة مناوي !!نسيت انك سنة عامل فيها محايد خوفا من الجنجويد
  • جرائم دارفور: محاكمة قائد ميليشيا الجنجويد علي كوشيب أمام الجنائية الدولية تدخل مرحلتها النهائية
  • دار الإفتاء: الدعاء عند نزول المطر من الأوقات التي يستجاب فيها