فى ستينيات القرن الماضى، وتحديدًا فى العدد رقم ١٤٤ من مجلة «آخر ساعة»، نشرت أم كلثوم مقالًا بعنوان «الحب فى الحقيقة والفن»، حيث خرجت كوكب الشرق عن إطار الأغانى والكلمات الموزونة لتخاطب قراءها مباشرة عبر قلمها، متناولة مفهوم الحب بين الواقع والفن.

المقال كان بمثابة نافذة جديدة لجمهورها، إذ أتاح لهم رؤية جديدة للفنانة التى ما دام عبرت عن مشاعرهم بأغانيها.

جاء المقال فى وقت كانت فيه مصر تمر بمرحلة سياسية واقتصادية استثنائية، إذ كانت البلاد تعيش أجواء ما بعد ثورة ٢٣ يوليو، حيث سادت الروح القومية وشهدت حركة التصنيع القومية وبناء السد العالى، رغم التحديات الاقتصادية التى فرضها التوتر السياسى فى المنطقة وحرب اليمن، وكانت هذه الحقبة مليئة بالأحداث الكبرى التى شكلت وعى المصريين ومواقفهم تجاه القيم الإنسانية الأساسية مثل الحب والتضحية والانتماء.

فى هذا السياق، قررت أم كلثوم أن تكتب عن الحب، ليس فقط بوصفه شعورًا إنسانيًا، بل كقيمة مركزية فى حياتنا اليومية وعلاقاتنا، وهذا القرار لم يكن غريبًا على فنانة عُرفت بدورها الوطنى والاجتماعى، حيث سخرت فنها ليكون صوتًا للوطن والمواطن وجعلت أغانيها يعبر عن مكنونات ما يشعر به المواطن فى وقت حزنه وفرحه وحتى انتصاراته.

وتناولت أم كلثوم فى مقالها الحب كقيمة إنسانية شاملة، مؤكدة أن الحب ليس مجرد كلمات معسولة أو مشاعر مؤقتة، بل هو كما كتبت «فعل مستمر يتطلب الصبر والإخلاص»، وطرحت تساؤلًا مهمًا «هل الحب الذى نراه فى الأفلام والأغانى يشبه الحب الذى نعيشه فى حياتنا؟».

وبواقعية شديدة، أجابت بأن الفن غالبًا ما يقدم صورة مثالية للحب، قائلة «الحب فى الفن قد يكون حلمًا ورديًا، لكنه لا يعكس كل جوانب الحقيقة، بل يلبى رغبة الإنسان فى الهروب من قسوة الواقع»، وهذا التصور الواقعى يتماشى مع فلسفتها الفنية، حيث كانت دائمًا تسعى لتقديم فن يمس القلوب ولكنه يعكس الحياة بمصداقية.

على الجانب الآخر، رأت أم كلثوم أن الحب الحقيقى فى الحياة اليومية «ليس مجرد مشاعر عابرة، بل تجربة مليئة بالتحديات تتطلب التفاهم والتضحية»، ورأت أن الحب الواقعى يتمثل فى قبول الآخر بعيوبه قبل مميزاته، وهو علاقة تقوى مع الزمن رغم الصعوبات.

ولربما يعكس التحليل العميق لكوكب الشرق فى مقالها نضجًا كبيرًا فى فهم العلاقات الإنسانية، وربما جاء نتيجة لتجاربها الشخصية والفنية الكثيرة التى خاضتها خلال رحلتها الفنية والإنسانية، حيث عاشت حياة مليئة بالتحديات والنجاحات التى جعلتها أكثر قدرة على فهم جوهر المشاعر الإنسانية.

ولم تنس أم كلثوم فى مقالها أن تربط مفهوم الحب بالوطن، معتبرة أن حب الوطن هو النموذج الأسمى للحب الحقيقى وكتبت وقالت «حب الوطن هو أصدق أنواع الحب وأكثرها تضحية، إنه حب يتطلب الإيمان بالقضية والعمل من أجلها مهما كانت التحديات»، وشددت على أن الوطن يستحق التضحية والصبر، فهو الحب الذى يربط الإنسان بجذوره وهويته.

ولا يخف على أحد ما قدمته أم كلثوم لمصر وللقوات المسلحة، من دعم معنوى ومادى فى أحلك الظروف التى مرت بها مصر أثناء نكسة ١٩٦‪٧ والكم الهائل من الحفلات التى وهبت أرباحها للمجهود الحربى، والتى انعكست بصورة واضحة فى كلماتها الصادقة فى مقالها.

وفى سياق الحديث عن حبها لمصر، ذكرت أم كلثوم قائلة «لم يكن صوتى يغنى لمصر فقط، بل كان ينبض بحبها، هى ملهمتى ووطنى الذى أعطيته كل ما أملك»، وتأتى هذه الكلمات كتعبير عن ارتباطها العميق بوطنها، الذى انعكس فى كل أغنية قدمتها، سواء كانت «إنت عمري» أو «مصر التى فى خاطرى».

وكتبت أم كلثوم مقالها بأسلوب بسيط، لكنه مشحون بالمعانى العميقة، ولم تستخدم لغة معقدة أو فلسفية، بل لجأت إلى أسلوبها المعتاد الذى يمزج بين الحكمة والدفء، لتصل إلى جمهورها بطريقة تشبه حديثها معهم على المسرح.

ومن خلال هذا المقال، وجهت أم كلثوم عدة رسائل مهمة حول مفهوم الحب، أولها أن الحب ليس مثاليًا، مؤكدة أن الحب الواقعى ليس قصة خيالية أو حلمًا ورديًا، بل هو علاقة تتطلب بذل الجهد والإخلاص.

كما أشارت إلى أن الحب فى الأغانى والأفلام قد يكون مبالغًا فيه، لكنه يظل وسيلة للتعبير عن أحلام الناس ورغباتهم، ودعت إلى ضرورة التمييز بين الحب كما يُقدم فى الأعمال الفنية والحب كما يُعاش فى الحياة.

ولو قرأنا مقال أم كلثوم اليوم، لوجدناه لا يزال يحمل رسائل صالحة لكل زمان، ففى العصر الحالى، يواجه الحب تحديات مختلفة، من ضغوط الحياة إلى تأثير التكنولوجيا على العلاقات وأصبحت وسائل التواصل الاجتماعى تؤثر بشكل كبير على كيفية فهم الناس للحب وتوقعاتهم منه، وأصبحت العلاقات أكثر سطحية فى كثير من الأحيان، مما يجعل كلمات أم كلثوم تذكيرًا بأهمية التركيز على جوهر الحب الحقيقى الذى ينبع من القلب ويُثبت نفسه بالأفعال.

اختتمت أم كلثوم مقالها برسالة تدعو القراء إلى التفريق بين الحب المثالى الذى قد يظهر فى الفن والحب الواقعى الذى يعيشونه وقالت، «الحب ليس قصة مثالية، بل هو علاقة حقيقية تثبت نفسها بالأفعال»، مشيرة إلى أن التحديات اليومية هى ما يجعل الحب واقعيًا ومستمرًا.

المصدر: بوابة الفجر

كلمات دلالية: ام كلثوم كريم وزيري الحب الحقيقي القومية العربية ثورة 23 يوليو السد العالي حب الوطن الأغاني الوطنية مصر التى فى خاطرى نكسة 1967 المجهود الحربى العلاقات الإنسانية تحديات الحب وسائل التواصل الاجتماعي الحب والعطاء كوكب الشرق القيم الإنسانية أغاني أم كلثوم رسالة الحب فهم المشاعر تحديات الحياة أم کلثوم أن الحب

إقرأ أيضاً:

محمد مسعود يكتب: عمار يا مصر

الجيش المصرى كان وسيظل رمزًا للشموخ والصلابة والإخلاصأول مجلس نيابى فى العالم العربى ظهر فى مصر  قوة ثقافية مؤثرة منحت مصر قيادة القوى الناعمة فى محيطها والعالم بصمات أبنائها واضحة فى بناء حضارة الدول العربية من المحيط إلى الخليج

كتب القلم فى لوح الله المحفوظ، لكل إنسان قدره.. قسم الله رزقه ونصيبه وحياته وموته، وهب ومنع.. وأعطى وقدر وهو العزيز الحكيم. كتب لنا فى أى أرض نعيش.. وأى أرض نموت.. وكان نصيبنا مصر. مصر التى ذكرت فى القرآن خمس مرات صراحة، و٣٤ مرة بالتلميح والتصريح.. مصر التى ذكرت فى التوراة والإنجيل ٦٩٨ مرة.

مصر التى اختار الله أن يتجلى لأول وآخر مرة فى أرضها الطاهرة على جبل الطور فى سيناء، مصر التى سمع فيها نبى الله موسى عليه السلام صوت مالك الملك، مصر التى حمت العالم من المجاعة وكان نبى الله يوسف عليه السلام وزيرا حاميا على خزائنها وخزائن الأرض فوق ترابها.. مصر التى قال عنها رسول الله: «استوصوا بأهلها خيرا فإنه فيها خير جند الله.. وأن جند مصر من خير أجناد الأرض لأنهم وأهلهم فى رباط إلى يوم الدين»، مصر التى تزوج منها رسول الله صلى الله عليه وسلم السيدة مارية القبطية وأنجب منها ابنه إبراهيم.

مصر التى تزوج منها أبو الأنبياء سيدنا إبراهيم السيدة هاجر الأميرة المصرية وأنجبت له نبى الله سيدنا إسماعيل عليه السلام أبو العرب، هاجر التى نشأت فى القصور لتعلم كيف تربى سيدنا إسماعيل الذى تخرج من ذريته الأسباط.. هاجر التى طافت بوليدها بين الصفا والمروة سبعة أشواط لتنقذ ابنها من الموت عطشا، قبل أن تنفجر البئر أسفل قدميها.

اختار لنا الله مصر، التى عاش فيها نبيه عيسى عليه السلام وأمه السيدة مريم عليها السلام ما يزيد على أربعة أعوام أثناء هروبهما من الرومان، وعاشا فى بلبيس وفى أسيوط. اختار الله لنا أعظم دولة.. وأعظم حضارة، وكان فضله علينا عظيما.

وكان فضل مصر على العالم عظيما.. صاحبة أياد بيضاء على الجميع، وظلت قوية تهضم الحضارات أو كما شبهها المؤرخ الكبير الدكتور جمال حمدان صاحب كتاب «شخصية مصر»، إن مصر معدة كبيرة، تدخلها كل يوم، ألوان مختلفة ومتعددة من الأطعمة.. وهذه المعدة تفرز «إنزيمات» لتحويل كل ذلك إلى غذاء مصرى.. يتفق مع طبيعة وكيان الإنسان المصرى.

مصر مر عليها الكثير.. وسيمر عليها الكثير لكنها دوما قوية صامدة.. أبية شامخة.. فحقا وصدقا ويقينا يمكننا أن نقولها بأعلى أصواتنا «عمار يا مصر».

لمتابعة سلسلة مقالات «عمار يا مصر»

محمد مسعود يكتب:  عمار يا مصر

عمار يا مصر | كريم وزيري يكتب: جيشنا شعب.. وشعبنا جيش

أحمد عبد الجليل يكتب: دساتير الوطن العربى أصلها مصرى

إيمان كمال تكتب: القوى الناعمة.. أصالة وتأثير تخطى الحدود

عمار يا مصر | شيماء عبد الغنى تكتب: من المحيط إلى الخليج..بصمات المصريين فى بناء الدول العربية

مقالات مشابهة

  • تفاصيل فيلم الست.. منى زكي تعيد كوكب الشرق للشاشة
  • عمار يا مصر | كريم وزيري يكتب: جيشنا شعب.. وشعبنا جيش
  • محمد مسعود يكتب: عمار يا مصر
  • تامر أفندي يكتب: نجم البشرية يأفل.. تاريخ بلحية وعالم جديد بلا أثر ولا آثار
  • «الست».. يجسد حياة أم كلثوم بصورة عصرية
  • منى زكي تعيد روح كوكب الشرق للشاشة .. حكاية أم كلثوم ومرضها النادر
  • كريم وزيري يكتب.. سلام سلاح
  • د.حماد عبدالله يكتب: مشكلة الأمية فى مصر !!
  • مؤمن الجندي يكتب: صدى الحب في محكمة الغياب