صحيفة الاتحاد:
2025-02-19@07:27:08 GMT

فرشاة «جيروم بوش».. تجاوز حدود الخيال

تاريخ النشر: 15th, December 2024 GMT

بقلم: ميشال لويلييه
ترجمة: أحمد حميدة
في مثل تلك البيئة المنغلقة، التي باتت منتهبة للغلو والإفراط، نشأ جيروم بوش سنة 1450 في «بوا لي دوك»، في الطرف الجنوبي من هولندا، في أسرة كان جميع أفرادها يحترفون الرسم، وكان الرسم يحظى يومئذ، وعلى غرار فن الموسيقى، برعاية الكنيسة. غير أن الرسامين باتوا يومها ملزمين فحسب بإنجاز رسومات دينية لتوشية الكنائس، حتى أنه بات من النادر أن نجد مبنى كنسياً لا تزدان جدرانه وأحياناً أسقفه، بحشد من اللوحات المستلهمة من الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد.

والحال أن الكتاب المقدس، كان قد أثمر قبل ذلك، ومع انبثاق عصر النهضة، سلسلة لا حصر لها من الرسومات الدينية، المختلفة الأحجام والمقاسات، وما انفكت تلك الأعمال تتراكم بالكنائس، حتى أنه لم يتبق تقريباً أي مشهد أو قصة أو حادثة وردت في الكتاب المقدس، ولم يقم الرسامون باستلهامها لإنجاز أعمالهم الفنية. 
لهذه الاعتبارات بات الفن التشكيلي وخاصة فن الرسم، بشقيه الأيقوني البيزنطي.. والطبيعي الغربي، موسوماً بطابع ديني صرف، وغدا أسلوب التشكيل المستوحى من نصوص الإنجيل في هذا المضمار، هو الذي يمنح اللوحة الفنية صفاتها المشهدية، فجعلها وسيلة لتجسيم مشاهد كاملة من صور وأحداث مقتبسة من العهدين القديم والجديد.. غير مقتصرة فحسب على تمثيل شخصيات مقدسة، كما منحها مثل ذلك التوجه.. ووفقاً لقواعد المنظور وتوازن الكتل والمبنى التكويني، عمقها وبعدها الثالث. 

من ناحيته، أقدم جيروم بوش على خرق قواعد الرسم المألوفة تلك، ولم تعد أعماله لترتبط بالكتاب المقدس إلا من حيث الأسماء التي كانت تطلق على لوحاته، ولوجود تلك اللوحات في أروقة الكنائس. بل إن هذا الفنان ذهب إلى حد خرق حدود الوعي السائد وحدود المخيلة، وهي الملكات التي بدت في أعمال غيره من فناني العصر، مصفدة بقيود المرجعية النصية، فاستطاع بمخيلته الخصبة والخلاقة، وببصيرته الحادة، أن يكتسح حد التخوم.. خيال الإنسان، وأن يتوغل حد الأغوار في دهاليز النفس البشرية وفي عوالم التخييل والتمثل، وقد أتاح له كل ذلك، الانغمار عميقاً في عوالم الباطن، والنفاذ إلى خافية السر في طبائع البشر، في علاقتهم بالكائنات الأخرى، الحقيقية كالحيوانات، أو المتخيلة كالشياطين والمسوخ، أو أشباه الشياطين التي تلبست البشر، أو تلبسها البشر. وبالنتيجة لن يكون المظهر البشري لتلك الكائنات في لوحاته غير قناع خارجي يحجب فظاعة القبح المتخفي في النفس البشرية. وغدا الكائن المسخ أو الحيوان المشوه هكذا، تجسيداً مادياً لقبح سري صارخ متأصل في طبيعة الإنسان ومنذر بسوء المآل.
ويبدو من الواضح أن شخصياته المثيرة للسخرية كانت مستلهمة من كتب الحيوانات القروسطية، ومن خرافات وكوابيس ذلك العصر. تبدو لوحاته دوماً عامرة ببشر متهتكين.. غارقين في المعاصي، وبكائنات منفرة. وجاءت المشاهد في لوحاته مروعة حقاً، قد نلمس أبعادها المفزعة في لوحات شهيرة مثل «موت البخيل»، وغيرها من الأعمال الفنية الأخرى، التي بقدر ما كانت أعمالاً باذخة ومشرقة على المستوى الشكلي (التكوين والتلوين)، بقدر ما ظلت ولا تزال غريبة ومنغمرة في سديم من الأسرار. 
كما نجده في كل تلك الأعمال لا يني يشهر بغوايات النفس التي تنخر الجوانب الخيرة في الإنسان، ومن تلك الغوايات الصفات المذمومة كالجشع والكبر والقسوة والتوحش.. وخاصة الإمعان في التبذل.. والإقبال دون رادع على الملذات، وهي الغوايات التي متى استسلم لها الإنسان، غدا في نظر بوش منذوراً لا محالة للجحيم، وموعوداً بعذاب مقيم.

أخبار ذات صلة «محظوظ».. فلكلور مصري على أنغام المزمار موسيقى في «الظفرة للكتاب»

أب السريالية 
لا شك في أن أعمال بوش ساهمت في تغذية المد السريالي الذي عرفته أوروبا في بداية القرن العشرين، وهي الأعمال التي أنتجها الرسام قبل ما يزيد على أربعمائة سنة على ظهور الحركة السيريالية، وتنخرط تلك الأعمال في ما أكسب السريالية أبعادها الفكرية والفنية والفلسفية. وإن لم تنطو أعمال بوش بشكل صريح على مفاهيم السريالية وعلى فضاءاتها الدلالية التي لم تكن معروفة في عصر النهضة، فإن السمة السريالية تتجلى بوضوح في سعي هذا الرسام إلى استكشاف دواخل الإنسان المظلمة، وفي استغراقه العميق في الحلم، واستلهامه صور الموجودات والكائنات من أعماق اللاوعي، في هيئاتها المتخيلة، وكيفية حضورها في أحلام الناس وكوابيسهم.. ولا من خلال وجودها الواقعي. ويكفي تأمل أعمال سلفادور دالي وغيره من الرسامين السيرياليين، حتى ندرك أن لتلك الأعمال جذوراً ثابتة في التحف الفنية التي تركها لنا جيروم بوش. 
أمام الأعمال المهيبة لبوش يتساءل البعض: ولكن.. أين يكمن الجانب الإيجابي في أعمال بوش؟ أين تراه يكون موطن الجمال والخير في تلك الأعمال؟ مرة أخرى وكما الفنان الإسباني غويا في القرن التاسع عشر، في أعماله المعروفة بـ «أهواء»، يكون بوش قد عمل على إرباك مركز حواسنا بصور، غايتها الوحيدة إبراز نموذج من الجمال الأسمى، لا على قماش اللوحة وإنما في أرواحنا، أي ذلك الجمال الذي لا تطاله غير الروح، والذي سوف يظل مخفياً بصورة أبدية.

المصدر: صحيفة الاتحاد

كلمات دلالية: الرسم الثقافة الموسيقى الفن التشكيلي الفن الفلسفة تلک الأعمال

إقرأ أيضاً:

العوالم المتوازية بين الخيال العلمي ونظريات الفيزياء الحديثة

يأتي مصطلح «العوالم المتوازية» مشكلا أحد أكثر التصوّرات إثارةً للجدل العلمي؛ فمحاولتنا في فهم وجود واقعٍ آخر موازٍ لواقعنا يحتمل أن تحكمه نفس القوانين الفيزيائية أو تختلف عنها اختلافًا جذريًا، سيثير فضولَ الإنسان ويقدح شرارته الفلسفيّة والمعرفيّة، وهذا ما يتمثّل في جدلية ما يُعرف بـ«العوالم المتوازية» التي تجاوزت سردية الخيال العلمي لتكون من ضمن السردية العلمية؛ فمع تزايد التطوّرات العلمية والنظريات الحديثة، بدأت هذه الفكرة تخرج من حيّزها الأسطوري وسرديتها الأدبية العلميّة التخيّلية لتدخل حيّز النقاش الأكاديمي وجدله المستند إلى الرياضيات والفيزياء المتقدّمة. في هذا المقال، سنحاول الاقتراب من مفهوم العوالم المتوازية من جوانب عدّة: أولًا، سنمر على جذور هذه الفكرة في الخيال العلمي والفلسفي، وثانيًا، سنستعرض أهم النظريات التي طُرحت في الفيزياء الحديثة لتفسير إمكانية وجود عوالم موازية؛ وأخيرًا سنناقش آلية التوفيق بين ما يُثار في الأوساط العلمية وبين الأسئلة الوجودية والفلسفية التي تنبع من هذا التصوّر، وتحديات البحث العلمي المستقبلية.

السردية التاريخية والفلسفية لمفهوم العوالم المتوازية

شغلت فكرةُ الوجود المتعدد الذهنَ الإنساني منذ القدم؛ فتداولت الحضارات الشرقية القديمة أفكارا بشأن مستوياتٍ متعددة للوجود، بعضُها مرئيٌّ وبعضُها خفيٌّ -ميتافيزيقي. كذلك تصوّر الفلاسفة الإغريق، مثل أفلاطون وأرسطو فرضيات مختلفة بشأن «عوالم المُثُل» أو انفصال العالَم المحسوس عن عالم الماهيات والمُثل، وإنْ لم يكن أمثال هؤلاء يتحدثون حرفيًّا عن عوالمٍ موازية بالمفهوم الفيزيائي الحديث، إلا أنّ تأملاتهم المتعلقة بتعدديّة المستويات الوجودية وماهية الحقيقة شكّلت البِنية الأولى لمناقشاتٍ لاحقة في الفلسفة والعلوم.

مع بزوغ العصور الوسطى، انبثقت أفكارٌ ميتافيزيقية تُشير إلى تعددية الأبعاد والوجود، وفي بعض المفاهيم الصوفية والمعتقدات الروحية وتأويلاتها ثمّة عوالم أخرى موازية لعالمنا، ولكنّها عوالم غيبية، وأدخلت مثلُ هذه الأفكار -مع فقدانها للطابع العلمي- إلى الإنسان مفاهيم أوّليّة عن إمكانية وجود ماهيات أخرى للوجود وأبعاده سواءٌ كانت مادية أم روحانية. لكن بدأ التحول الجذري مع عصر النهضة العلميّة وتطوّر المنهج التجريبي.

فمع بروز نظريات الفلك والفيزياء، بدأ العلماء بتجاوز حدود التصوّرات التقليدية للعالم مثل مركزية الأرض؛ فأضحى الإنسان ينظر إلى الكون باعتباره فضاءً شاسعًا يحوي مليارات المجرّات، ورغم ذلك، ظلت فكرة العوالم المتعددة بعيدةً عن الزاوية العلميّة الصارمة لفترةٍ طويلة؛ واقتصرت سرديتها على الأدب الخيالي أو الفلسفة المثالية.

الخيال العلمي وصياغة المفاهيم المبكّرة للعوالم المتوازية

مع بدايات القرن العشرين، بدأت لدى كتّاب الخيال العلمي ملامح توظيف مفهوم «العوالم المتوازية» باعتباره عنصرًا مهما في أدب الخيال العلمي؛ فتصوّر كتّابٌ مثل «إتش. جي. ويلز» (H.G. Wells) و«إسحاق أسيموف» (Isaac Asimov)عوالمَ موازية يوصل إليها عبر ثقبٍ دوديّ (Wormhole) أو تغيّرٍ في النسيج الزمكاني. في تلك الفترة الزمنية. كانت تعتبر مثل هذه الأفكار محض تخمينات أدبيّة مشوّقةٍ لجذب القارئ، دون أن تستند إلى أيّ أساسٍ علمي فيزيائيّ أو تجريبيّ. مع تطوّر الخيال العلمي ونسيجه الكتابي تحديدا مع منتصف القرن العشرين الذي يعدّ حقبة زاوجت بين المعرفة العلميّة المتاحة والاستشرافات المستقبلية؛ فطفت على الساحة تأملاتٌ كثيرة في مفهوم الأكوان المتعددة أو العوالم المتوازية؛ فنلمح ترسيخا لأعمالٍ أدبية شهيرة أسست لأفكار علمية عميقة تفترض حدوث أحداثٍ وجودية يمكن أن تحدث بالتوازي في «خطوطٍ زمنيّةٍ» متعددة، وبقدر ما ساعد هذا الخيال العلمي على عبور مثل هذه الأفكار بين القرّاء؛ فإنّه أيضا مهّد الأرضية لنقل النقاش إلى أروقة البحث العلمي ومختبراته، خصوصًا مع تطوّر نظريات الفيزياء الحديثة مثل ميكانيكا الكوانتم والنظرية النسبية العامة.

النشأة العلمية للعوالم المتوازية

مع منتصف القرن العشرين، برزت تطوّراتٌ كبيرة في الفيزياء غيّرت نظرتنا إلى مفاهيم الزمن والمكان والجسيمات تحت الذرية، ويمكن أن نتأمل أهم ثلاث نظريات أو انبثاقات علمية في الفيزياء الحديثة تقترح إمكانيّة وجود عوالم موازية:

1.ميكانيكا الكوانتم وعلاقتها بفكرة العوالم المتوازية:

يتبنّى الفيزيائي «هيو إيفريت الثالث» (Hugh Everett III) عام 1957 تفسيرًا لميكانيكا الكوانتم يُشير إلى أن كل احتمالٍ كوانتمي يمكن أن يتحقّق في «عالمٍ» أو «فرع» مختلف من الكون. يأتي مثل هذا التفسير ليتجاوز إحدى أهم المشكلات الفيزيائية في عالم الكوانتم «انهيار دالة الموجة» (Wave Function Collapse)؛ فوفقَ منطلق «إيفريت» لا يحدث انهيار للدالة الموجية، ولكن يتشعّب الكون في كل مرةٍ لتجسيد كل احتمالٍ كوانتمي، ويفترض هذا التفسير وجود عددٍ لا نهائي من الأكوان يتفرع باستمرار؛ حيثُ توجد في كل منها نسخةٌ منا تقوم بخياراتٍ مختلفة. رغم ما يمكن لهذا التفسير أن يثيره من جدل، لكنه بمنزلة الشرارة العلمية الأولى للعوالم المتوازية؛ ليعاد طرحها بموضوعية علمية بواسطة كبار الفيزيائيين أمثال «جون ويلر» (John Wheeler) و«برايس ديويت» (Bryce DeWitt).

2. نظرية الأكوان التضخمية المتعدّدة:

قدّم الفيزيائيّ «آلان غوث» (Alan Guth) في أوائل الثمانينيات نظرية «التضخم الكوني» (Inflation Theory)؛ لتحدث ثورة جديدة في علم الكون الحديث، وتتلخص النظرية في مفهوم يُشير إلى حدوث توسع هائل للكون في لحظةٍ مبكّرة من زمن تشكّله، وافترضت المستجدات العلمية التي تعلقت بالنظرية -في وقت لاحق- بأنّ هذا التضخم ليس حالةً مؤقتة، ولكن توسّعه مستمر؛ فينشأ عن كلّ «فقّاعة تضخّم» كونٌ منفصلٌ بقوانينه ومتغيراته الفيزيائية الخاصة. وفقَ هذا الافتراض، يكون «المتعدد الكوني» (Multiverse) أشبه برغوة كونيّة تتولّد فيها أكوانٌ بشكل مستمر، وأن بعضها يحتمل أن يشبه كوننا الذي نعيش عليه، وبعضها يختلف جذريًّا، ورغم أنّ هذا الطرح لا يزال في حيّز الجدل العلمي، لكنه يحظى بدعم بعض النماذج الرياضية، مثل نموذج «التضخّم الأبدي» (Eternal Inflation).

3. نظرية الأوتار الفائقة والأبعاد الإضافيّة:

تهدف نظريّة الأوتار الفائقة إلى توحيد قوى الكون الطبيعية الرئيسة: (الجاذبية، والكهرومغناطيسية، والقوى النووية) في إطارٍ رياضي واحد، ولهذا يراها بعضُ العلماء بأنها من النظريات العلمية المؤهلة في توحيد النظريات الكونية في نظرية واحدة تعرف بـ«نظرية كل شيء». تقترح النظرية أنّ الجسيمات الأساسيّة ليست نقاطًا بل أوتارًا متناهية الصغر تهتزّ بترددات مختلفة، وتستدعي هذه النظرية ضرورة وجود أبعادٍ إضافيّة تتجاوز الأبعاد الأربعة (ثلاثة للمكان وواحد للزمن) الشائعة في الفيزياء الكلاسيكيّة، ولهذا من الممكن أن يصل عدد الأبعاد في بعض نماذج نظرية الأوتار إلى عشرة أو أحد عشر بُعدًا، وفي بعض صيغ هذه النظرية، تُطرَح احتماليّة تفرّع عوالم أو أكوان موازية موجودة في هذه الأبعاد الإضافية، ولا يمكن رصدها مباشرةً بسبب محدوديّة حواسّنا وأدواتنا الحالية، ورغم بقاء نظريّة الأوتار في حيّز الدراسات النظريّة دون تأكيدٍ تجريبيّ حاسم، لكنها تطرح تساؤلات مشروعة عن وجود واقعٍ أعمّ وأشمل من النمط التقليديّ.

الأدلة الرصدية والاختبارات التجريبيّة

بجانب ما تحويه فرضية العوالم المتوازية من دهشة جاذبة، يتوّلد سؤال صعب مفاده: ما مدى قدرة العلم على برهنة وجود العوالم المتوازية بصورةٍ تجريبية تقطع الشك باليقين؟ ولنجيب على هذا السؤال علينا أن نفطن إلى حقيقة مفادها أنّ كثيرًا من نماذج الأكوان المتعددة -حال افترضنا وجودها- يصعب اختبارها مباشرةً؛ لانفصالنا عنها بشكلٍ يجعل رصدها مستحيلًا بالتقنيات الحالية رغم ما تشير إليه بعض الدلائل غير المباشرة إلى أنّ الكون الذي نعرفه يحتمل ألا يكون وحيدًا، ومن هذه الاستدلالات:

• قياسات إشعاع الخلفيّة الكونيّة الميكرويّة: رصد العلماء عبر استعمال القمر الصناعي بلانك (Planck Satellite) وWMAP تبايناتٍ دقيقةً في إشعاع الخلفيّة الكونيّة؛ فثمّة نماذج نظريّة تفسّر بعض خصائص هذه التباينات على أنّها آثار تصادمات أو تداخلات محتملة بين كوننا وفقاعاتٍ أخرى في المتعدد الكوني.

• البحث عن تسريبات الجسيمات أو الطاقة: في حال وجود أبعادٍ أخرى؛ فمن الممكن ظهور مؤشرات في مصادم الهادرونات الكبير (LHC “Large Hadron Collider”) عبر رصد اختفاء طاقةٍ أو جسيماتٍ بطريقةٍ لا يمكن تفسيرها بالفيزياء وأدواتها الحالية، وهذا ما يشي بتسرّبها إلى عوالم متوازية، ولكن حتى زمننا الحاضر لم تُرصد إشاراتٌ تؤكد مثل هذا التسريب.

• الدراسات الرياضية الخاصة بالثوابت الكونية: تلمح بعضُ الحسابات الرياضية إلى حال حدوث اختلافات بسيطة في ثوابتنا الفيزيائية مثل: كتلة الإلكترون وشحنة البروتون لما أمكن تشكّل الحياة أو المجرّات؛ ليطرق باب نظرية «الضبط الدقيق» (Fine Tuning)، والتي يمكن أن تُدعم بفرضية الأكوان المتعدّدة؛ حيث تتغيّر القيم في كلّ كون، ونحن حينها في أحد الأكوان القابلة لدعم الحياة.

تظل مثل هذه الاستدلالات في محل ظنٍ لا يمكن أن يُبنى عليها دليلٌ علميٌ قاطع.

الإشكاليات الفلسفية والمعرفية

حال ثبوت وجود العوالم المتوازية؛ فإنها لن تعتبر امتدادا جغرافيا أو مكانا إضافيًّا، ولكنها تحمل تبعاتٍ وجودية ومعرفية عميقة؛ فتطرح إشكاليةً تتعلق بمفهوم الحقيقة: أنأخذ الحقيقة بصفتها النسبية أم المطلقة؟ وهل الحقيقة سلسلةٌ من حقائق متزامنة نتلقّى منها حزمات منتقاة محدودة؟ كذلك يمتد التساؤل عن الهُويّة الشخصيّة والذات الإنسانيّة؛ فإذا كانت هناك نسخٌ أخرى من كلٍّ منّا في أكوانٍ مختلفة؛ فكيف نحدد مفهوم الأنا ووحدتها والأنا الآخر؟ وهل يكون للقرارات إرادة حرة سواء بنسبية أو بشكل مطلق حال افتراض كلّ احتمالٍ يتحقّق في فرعٍ منفصل من هذه الأكوان؟

وفقَ المنظور المعرفيّ (الأبستمولوجيا)، تنطلق تساؤلات كثيرة تتعلق بوجود عوالم متوازية خصوصا فيما يتعلق بقدرة العلم على الإحاطة بالواقع كلّه، وإمكانية التحقّق التجريبيّ؛ فتُحصر بعض الفرضيات العلمية في دائرة «اللامفند» (Non-Falsifiable)، لتظلّ خارج نطاق الدليل أو الدحض؛ فتتحوّل إلى قضايا أقرب للطرح الميتافيزيقي منها إلى العلم التجريبي. لكن لا يمكن أن نغفل عبر تاريخ العلم أن أفكارا ولدت بصورة غير قابلة للتحقق والوجود؛ لتصبح بعد فترة زمنية واقعا علميا نتيجة تطور أدوات العلم القادرة على تجاوز الحاجز التجريبي للفكرة، ولنا -مثلا وليس حصرا- في نظرية النسبية والكوانتم مثالا على ذلك.

منظور بعض كبار علماء الفيزياء

شهدت العقود الأخيرة جهودًا بحثيّة موسّعة، يشارك فيها باحثون معروفون مثل «ماكس تيغمارك» (Max Tegmark) الذي قدّم تصنيفًا لأنواعٍ مختلفة من الأكوان المتعدّدة (من المستوى الأوّل حتى المستوى الرابع)؛ فيفترض «تيغمارك» أنّ ما نعتبره «قوانين رياضيّة» يمكن أن يكون وصفًا دقيقًا لكل نماذج الواقع؛ ليسوق الذهن إلى فكرة أن الكون ليس إلا بنيةً رياضيةً دقيقة، ويقترح الفيزيائي «شون كارول» (Sean Carroll) في دراساته إمكانية تفاعل التفسيرات المختلفة لميكانيكا الكوانتم؛ فيتصور فرضية العوالم المتعددة باعتبارها حلا معقولا لألغازٍ عدة في فيزياء الكوانتم. في المقابل، ثمّة أصواتٌ فيزيائية كبيرة تحذّر من مخاطر ما يمكن أن نسميه بـ«الهروب المفرط» نحو نماذج العوالم المتعددة، في ظل عدم امتلاكنا أدوات تجريبية رصينة؛ فيلتزم هؤلاء بالحفاظ على المنهج العلمي الصارم الذي يجعل أيّ فرضيةٍ عُرضةً للتفنيد أو التصحيح عبر التجربة والرصد، وألا تتحوّل الأفكار الفيزيائية الطموحة إلى نوعٍ من «الميتافيزيقا» المتستّرة بالمظهر العلمي «الزائف».

تحدّيات البحث العلمي مستقبلا

رغم عدم تحقق الإجماع الكافي بين علماء الفيزياء بشأن صحة وجود عوالم متوازية، لكن يظهر الإجماع النسبي في أنّ النماذج الرياضيّة والنظريّات الحديثة تدفع نحو معقولية هذه الفرضية بجدّية متصاعدة، ويكمن التحدّي الأكبر في استحداث طرق جديدة للتجربة والقياس يمكن أن تسمح برصد أدلّة مباشرة أو غير مباشرة؛ إذ يحتمل أن يأتي الدليل العلمي من معالجةٍ ذكيّة للبيانات الكونيّة أو من ظواهر الكوانتم حين تجتمع مع فيزياء الجاذبية في «الجاذبية الكوانتمية» التي أيضا لا تزال لغزًا غير واضح المعالم.

لكن في ظل التقدّم العلمي المتسارع خصوصا في عالم الثورة الرقمية الذكية؛ فإننا نرى مستقبلا واعدا يبشّر بحل هذه الألغاز نفيا أو تأكيدا؛ حيث يمكن للحواسيب فائقة السرعة والقدرة محاكاة ظواهر كوانتمية معقّدة التي تتضمّن تشعّبات العوالم بطريقةٍ رياضيّة، وكذلك توجد محاولات مختبرية حثيثة لرصد موجات الجاذبية (Gravitational Waves) الناجمة عن أحداثٍ كونيّة فائقة الطاقة (مثل اندماج الثقوب السوداء والنجوم النيوترونيّة)؛ فيحتمل أن تسهم دراسات التشوّهات الضئيلة في هذه الموجات إلى فهمٍ أفضل لبنية الزمكان وأبعاده التي يمكن أن تفتح لنا نافذة علميّة لمفهوم العوالم المتوازية.

د. معمر بن علي التوبي أكاديمي وباحث عُماني

مقالات مشابهة

  • العوالم المتوازية بين الخيال العلمي ونظريات الفيزياء الحديثة
  • أعمال تضمن لصاحبها الجنة.. خالد الجندي يكشف عنها
  • غروندبرغ: اليمن يواجه تحديات هائلة بينها حملة الاعتقالات التي تشنها جماعة الحوثي
  • أسوأ أنواع الألم التي يمكن أن يشعر بها الإنسان ليست آلام الولادة.. فما هو؟
  • الماس وباهرمز يتفقدان أعمال سفلتة خط الرحاب _ كنديان في عدن
  • المساوى يطلع على أعمال صيانة معدات الأشغال بمحافظة تعز
  • تأجيل محاكمة رجل أعمال شهير تعدي جنسياً على خادمته بالإكراه
  • رفع أعمال الجلسة العامة لمجلس الشيوخ
  • ماجد حملي يُبدع في الرسم على الخوص ضمن معرض جازان للكتاب
  • كتاب رحلة الذكاء الاصطناعي من الخيال إلى الواقع.. يحاكي عملية التفكير عند الإنسان