سوريا.. الرهان على الهوية الوطنية للخروج من الأزمة
تاريخ النشر: 14th, December 2024 GMT
«الأوطان الخالية من العصبيَّات يسهل تمهيد الدَّولة فيها، ويكون سلطانها وازعا لِقلّة الهرج والانتقاض، ولا تحتاج الدّولة فيها إلى كثير من العصبيَّة كما هو الشّأن في مصر والشّام لهذا العهد إذ هي خلو من القبائل والعصبيّات..».
ــ ابن خلدون، المقدمة (الفصل التاسع،ص 207)
إن ما من تحد سياسي إلا وهو تعبير عن حالٍ أكثر تعقيدا في المجتمع، وكون السياسة في أصلها عمليات متقنة تشتغل أكثر على ترويض الإنسان ، فإنها لا تقوم بأكثر من التحقق من سلامة سداد العلاقات بين البنى الاجتماعية بحيث لا تتعدى إحداها على الأخرى إلا بالقدر الذي توفره أشغال التفاعل الموفر لكل إمكان فيها بالاتصال بعناصر أخرى تتشابه وتتشابك فيه، وكل هذا لتحقيق الهدف الأسمى من فكرة السلطة، وهو حفظ التوازن الاجتماعي والإبقاء على العناصر المتوترة فيه قيد النظر ومحل المراقبة والتشديد لصالح الاستقطاب والتضمين.
إن الطريقة التي تدار بها المجتمعات تظل محاولة لتلخيص الجدل حول بناء مجازات عليا للساكنة والجغرافيا، وبذا فإن محاولة فهم ما يكتنف ظاهرة الدولة لا ينبغي فيها التوقف عند السطح بل هو خوض أمين في دقائق التشكل المستمر والتكون المتخلق. ومقالتنا هذه لا تطمح إلا إلى لفت الانتباه إلى سؤال جوهري ينبغي أن تجيب عنه القوى السياسية التي تتصدر المشهد السوري الآن، وهو: كيف يمكن الحفاظ على التنوع الثقافي والديني مع استثماره لصالح دولة وطنية ناجحة؟!..
إن سوريا معرض ثقافي (أكراد ودروز ومسيحيون وأيزديون وعرب...إلخ) وهذه هي عناصر قوة المجتمع السوري، فالمجتمعات ذات الإثنية الواحدة هي الأكثر عرضة للتنازع على عكس ما يشاع ويفهم في سياق الاجتماع السياسي، فبلد مثل الصومال يتكون من إثنية واحدة شهد صراعات طاحنة رغم وحدة الهوية، وكثيرا ما يشير علماء الاجتماع السياسي إلى أن الدولة الحديثة والتي تكون اجتماع إثنيات وقوميات ومذاهب متعددة فإن فرصها في تحقيق الهوية الوطنية وترسيخ فكرة الدولة/القانون أكبر بكثير من تلك التي يعكس مظهرها الخارجي وحدة في العرق والدين ما يصنع الظن بسهولة تركيب مؤسسات الدولة عليها، ولذا فإن القيام بإصلاح المؤسسة (=الدولة) في الحالة السورية يحتاج في المقام الأول إلى تحسين فهم التنوع الثقافي بأشكاله كافة، ومن ثم الارتفاع بالقانون إلى تسميد فضاء الدولة ناحية عمليات من استيعاب إيجابي لمجمل هذا التنوع، ولا نقصد فقط عمليات التمثيل التي تلجأ إليها بعض الأنظمة بمنح بعض الإثنيات تمثيلاً في جهاز الدولة التنفيذي، فهذا الأمر ينبغي أن يكون نتيجة لا مقدمة لصناعة الهوية العامة، فالبداية أن يتأسس في وعي المناط بهم عمليات الإصلاح الاعتراف بالتنوع الثقافي ومن ثم الكشف عن علائق هذا التنوع والصلة التي تنشأ بين مجمل الأشكال الثقافية، فليس من خادش للوعي أكثر من الاعتقاد بقيام التمييز على أسس من اختلاف، بل الأجدى أن يفهم أن الاختلاف العرقي والثقافي لا يستطيع العيش منفردا بل هو نتيجة منطقية لعُرى من اتصال كشف عنها بقاء هذه التكوينات حاضرة وفاعلة مع مثيلاتها في جغرافية سياسية واحدة، وهنا فالتنوع لا تتصف عناصره بالبقاء وحيدة بل تحصل كل بنية ثقافية في المجتمع على خصوصيتها من تلقاء تماثلها مع المجموع لا التحليق في سربها الخاص.
وسوريا التي عاشت في خصام مع إدارة التنوع، كلفت إنسانها فواتير باهظة دفعها من حاضره وقد يظل عيش سُعارها في مستقبله، وهو أن الاستسلام لفرضية تسييد بنية اجتماعية واحدة بالقهر طمعا في عائدات من استقرار سياسي، وهذه فرضية أثبتت فشلها في غالب التجارب العربية، فالرهان على الاستقرار يُشترط فيه أن يقوم على بناء توافقات بين البنى ، وهي توافقات لا تقوم على تنسيب تضميني، ولا تخضع لترميز تضليلي إذ يُعتقد أنه يكفي منح أبناء المناطق مناصب في الدولة، وكراسي في البرلمان وبذلك يتحقق التوازن وتنتفي أشكال التهميش، وهذا عين الخطأ الذي يقع فيه الكثير من المشتغلين بالتنظير في السياسة، ذلك أن صناعة الدولة الحديثة تقوم في جوهرها بالحفاظ على هذه البنى وحقوقها الثقافية قبل حقوقها السياسية، حقوقها في استخدام لغتها في حدود ما تملك هذه اللغة من قدرة على تحقيق وجودها العام، ولا يقولن قائل بأن الدعوة إلى تمكين الجماعات الثقافية من لغاتها هو الطريق إلى تفتيت البنية الأم، فالحقيقة أن استخدام اللغات المحلية عند الجماعات الثقافية يوفر لها حقا معنويا لا يُمْكِنُها إلا من تمتين ذاكرتها الوجدانية فقط، ومن ثم تجهيزها الدخول في فضاء اللغة الوطنية، وهو تجهيز مُعَزِزْ لها لتحفظ نفسها من الاستنتساخ القهري، ما يمكنها التأهل للاحتفال الثقافي العام في دولتها الوطنية.
إن التحدي أمام سوريا تحد ثقافي قبل أن يكون سياسيا، وهو أن تعي السلطة الجديدة أن قوتها في تنوعها، وأنها تؤذي نفسها إن تنكرت لهذا التنوع، والذي يجب أن تفهمه أيضا أنها إن أرادت أن تنتقل بهذا البلد العظيم من ذاكرة التوحش والعنف إلى الاستقرار السياسي فإن أية عملية إقصاء أو تضليل في الاعتراف بالحقوق الثقافية لأبنائها يعني أنها تكرر مأساتها، فما آذى دولنا العربية إلا انخراطها المحموم نحو الأيديولوجيا أيًّا كان صنفها الذي تقتات عليه في أمسياتها الحرجة، فليست سوريا بحاجة إلى أيديولوجيا تقوم على أي شكل من أشكال الانغلاق المذهبي أو الثقافي، إنها بحاجة إلى شيء واحد، هو الإيمان بشعبها إيمانا ينطلق من الاعتراف بالحق الثقافي في البقاء سوريًّا قبل كل شيء آخر..
إن دعواتنا لسوريا بالشفاء من جرحها الغائر، والذي لن تتعافى منه إن لم تبصر ذاتها الوطنية قبل القومية، تبصرها في مرآة متعددة الانعكاس حتى تتعرف على وجوهها وأن تحرك شفاهها بصوت واحد.. سوريا للجميع.
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
صالون فلاح الثقافي بأم درمان.. العاصمة الوطنية تهزم الموت بالفرح
يحاول أعضاء صالون فلاح الثقافي بأم درمان بث الأمل في قلوب سكان العاصمة الوطنيه بتنظيم جلسات غنائية متنقلة على الهواء الطلق رغم ظروف الحرب.
ام درمان ـــ التغيير
وطاف الصالون المتنقل احياء من درمان القديمه مثل أبو روف وحي العرب وحي العمدة والركابيه وود نوباوي وغيرها من الأحياء وسط مطالبات للمنظمين بنقل الفعاليات إلى مناطق مثل الثورات وأم بدة وبقية أحياء المدينة.
و يستضيف صالون الفلاح الثقافي المتنقل الفنانين المهتمين بالغناء الشعبي والأغاني الكلاسيكية من الزمن الجميل.
وشاركت مع كورس الصالون فنانة الغناء الشعبي المخضرمة هدى مرجان والفنانون محمد أحمد الريح، وعبد الماجد كسلاوي وغيرهما، وشرف الفعاليات الشاعر الغنائي المعروف مختار دفع الله.
ووجدت مقاطع الفيديو المنشورة للجلسات الغنائية على مواقع التواصل الاجتماعي احتفاءً كبيرا من السودانيين الذين اعجبوا بالفكرة و تفاعلوا مع الأغنيات ورأوا أن مثل هذه البرامج تخفف ويلات الحرب وصدماتها .
واحتفى الشاعر عبد القادر الكتيابي أمين عام صندوق المبدعين السودانيين السابق بنشاط صالون فلاح معلقاً على احدى الفعاليات التي نشرت على موقع فيسبوك بالقول: “تعود بهجه أم درمان بأمثالكم يا رائعين.
وتفتقت فكرة الصالون إلى مبادرات عفوية حيث تحولت إحداها بالصدفة إلى حفل مصغر احتفاءً بعريس قبل يوم من زفافه.
وتعود تفاصيل حفل “الحناء العفوي” إلى إقدام بعض الوافدين من ضاحية شمبات المقيمين بـ ( حي العمدة) بأم درمان على استضافة و تنظيم الصالون الأسبوعي هناك.
ولعبت الصدفة دورا كبيرا في اختيار مسرح الفعالية على (مسطبة) منزل يقيم فيه عريس يستعد لإكمال مراسم زواجه في اليوم التالي، وقالت التصاريف السعيدة كلمتها حيث تحول الصالون إلى حفل (حنة) في الشارع
و شارك منظمو الصالون وضيوف الفعالية العروسين الفرحة وانضم إليهم العابرون للطريق ليتم توزيع المأكولات والمشروبات احتفاء بالمناسبة.
ونقلت صفحة ( جمهورية ود نوباوي ) على فيسبوك جلسة غنائية بالحي بمشاركة منسوبي صالون الفلاح. وجاء في الصفحة الرسمية: صالون فلاح الثقافي المتنقل بين احياء امدرمان القديمة مدخل الفرح و السرور و البهجة في نفوس سكان أمدرمان المتمسكين بترابها. وأطلّ الصالون على حي العمدة وكانت جلستهم (على الهواء الطلق) ليجتمع الحضور على صوت الطرب في عزّ الحرب ليفرغوا بعض احزانهم و آهاتهم و يعيشوا لحظات مع اغاني الزمن الجميل، وهم يبتهجون و يفرحون و يبكون في ذات الوقت.
وختم المنشور بالقول: شكرا لكل الفريق المشارك في صالون فلاح الثقافي المتنقل ، ولا زلنا منتظرين في جمهورية ودنوباوي جمال طلتكم، خالص التحايا لكل سكان امدرمان وحي العمدة ولكل من يسكنها.
صمود ضد البارودوكتب صلاح أبوروف أحد منظمي الفلاح، بفيسبوك معلقا على الجلسة الغنائية: هذه المرة جئناكم من قلب جمهورية ( ودنوباوي) ،بعد صمودها في وجه الحرائق و البارود، أم درمان تغني على سمع الزمان من وحي ألحانها الخالدات، لتسكب في دروبها النور و ترقص ل آمالها الزواهر بعد طول إنطفاء و خبو بددتهما بسواعد بنيها الأوفياء و إعتزامهم الذي لا يأتيه الفتر و لا يغشاه الذبول! طالما فيهم عرق ينبض بالحياة و حناجر تصدح بالحق و الخير والجمال.
بث الأملووجدت مبادرة الصالون تشجيعاً كبيراص من قبل السودانيين حيث كتب أبوبكر الباقر :هذا عمل من الصعب وصف جماله، فرحه وشجنه، وقال “أنتم تعكسون الوجه الأصيل في الشعب السوداني، فن وإبداع ورسالة عظيمه من الوجدان و للساسة. وأضاف الباقر: “مجهود مقدر يلامس احساس أي سوداني، أنتم يفترض أن تكرموا لأنكم تبثون الأمل في الحياه رغم ظرف الوطن الحالي”، وتابع: “هذا وجه السودان الحقيقي القائم على الأصاله والحب والتوادد بين كل أهل السودان ، هذه الوحدة المنشودة السودان الحقيقي”.
وختم حديثه بقوله: “منتداكم يحمل معاني جميلة لا حصر لها وفقكم الله لنشر الفرحة وسط المجتمع السوداني الطيب النبيل”.