لم أجد عنوانًا معبِرًا عن مشهدية الأيام الأخيرة من سنوات البعث في سوريا سوى العنوان «الاستفزازي» الصارخ الذي تقدم به عُمر أميرلاي إلى لجنة التحكيم في مهرجان قرطاج السينمائي قبل عشرين عامًا في تونس. ففي تلك السنة التي اجتثَّ خلالها طوفانُ قوات التحالف بقيادة الولايات المتحدة نسخةَ البعث الصَّدامية في العراق، كان المخرج السوري الراحل قد أنجز خاتمة أعماله الوثائقية «طوفان في بلاد البعث» الفِلم الذي يُنذر في سخرية داكنة رمزية بعلامات انهيار النظام البعثي الوشيك في سوريا.
لعل وصفنا لذلك الفِلم المتهكم بـ «النبوءة» المبكرة قد يبدو اليوم من «كليشيهات» القول، أو هرولةً مع من تسابقوا منذ فجر الثامن من ديسمبر على إثبات ملكياتهم الفكرية الخاصة بنبوءاتهم السياسية «الاستشرافية» و»السبَّاقة» حول اقتراب موعد سقوط النظام الأسدي في الشام. بيد أن إطلاق التوقعات عن احتمال سقوط النظام في سوريا، إثر أحداث «الربيع العربي» وما تلاها، لم يكن بالأمر المتطلّب حدسًا ثاقبًا أو نباهة سياسية من نوع نادر، وخاصة بعد مسلسل التساقط المتلاحق في تونس ومصر وليبيا واليمن، وصولًا إلى السودان في عام 2019. ربما كان من الصعب التكهن بشكل النهاية وتوقيتها، إلا أنها ظلَّت حدثًا مرتقبًا طيلة الأعوام الثلاثة عشر الماضية. ولكن ما يرفع فِلم أميرلاي حقًا إلى مرتبة النبوءة هو توقيته الذي تزامن آن ذاك مع حالة من الانفراج النسبي والتفاؤل السياسي الحذر بقدوم الشاب «المثقف» و «المنفتح» إلى سدة الحكم في دمشق؛ فأن تعلن عن طوفان وشيك في بلاد البعث السورية، في ذلك التوقيت السياسي الحذر والمتفائل من عمر البلاد، وبعد ثلاث سنوات فقط من وصول بشار الأسد إلى السلطة، فتلك جُرأة غير معهودة لخيالٍ متقدم التوقيت على ساعة الراهن ومزاجه العام.
وصل الأسد الابن إلى السلطة بينما كان سدُّ الفرات يتشقق ببطء منذرًا بالطوفان. وهناك، كانت «الكاميرا المتشيطنة» لعمر أميرلاي، كما يصفها فجر يعقوب، ترصد بتأنٍ وصبر هدوء «بحيرة الأسد».. هدوء ما قبل الكارثة الوشيكة. عبقرية أميرلاي السينمائية ستُحول هذا السد إلى رمز، رمز لقصة سوريا البعثية، ورمز أشمل لبداية القصة ونهايتها، شخصي وعام في آن بالنسبة إلى عُمر. فمشروع السد الذي وقفت عليه الدولة مطلع السبعينيات بمساعدة السوفييت، وتغنى به البعثيون بوصفه الإنجاز التنموي الأعظم، كان النافذة الأولى للمخرج الشاب العائد من دراسة السينما في فرنسا متحمسًا لخطاب البعث الجديد ووعود الحركة التصحيحية. فكان فِلمُه الأول القصير «محاولة عن السد الفرات» محاولة متحمسة سرعان ما انقلب عليها في أعماله اللاحقة التي توَّجها بفلمه الأخير، عائدًا إلى السد- الرمز ذاته.
في مشاهد من الفِلم نرى التلاميذ وهم يقرأون من المنهاج المدرسي قصة حياة نهر الفرات الذي ينبع من تركيا ويقطع الأراضي السورية صوب العراق: «في الخامس من تموز دخل نهر الفرات إلى المدرسة الجديدة ليتعلم كيف يقرأ وكيف يكتب، وكيف يمارس الحب مع الحقول والأشجار بطريقة عصرية. وعلى باب المدرسة نزع الرئيس حافظ الأسد من الفرات عباءته الطينية، وقص له شعره الأشعث وأظافره الطويلة، وأعطاه قلمًا ودفترًا وحبرًا أخضر، ليكتب يومياته كنهر متحضر، وأعلن وهو يحول مجرى النهر أن سد الفرات ليس عملًا هندسيًا خاصًا بسوريا، ولكنه عمل قوميّ من أعمال التحرير، وهذا الكلام يعني بوضوح أن لفلسطين حصتها من السد السوري». هكذا، بزخرفة إنشائية طريفة، تكتب الدولة قصة مشروعها الذي غمر قرى بكامل ذكريات سكانها تحت بحيرة الأسد. إنها لغة التدجين المدرسي وهي التؤنسن النهر بالمجاز والاستعارات وتحوله إلى كائن «متحضر» بأمر من «الزعيم الخالد»، فيما تحشو اللغة ذاكرة الطفل السوري بكلمات لا يفقه أبعادها مثل «القومية» و»التحرير». أما كلمة «فلسطين» فلا تبدو إلا كلمةً زائدةً في قصة النهر، مدفوعة عنوةً في متن النص المدرسي لأسباب تتعلق غالبًا بالتلقين السياسي الأعمى منذ الصغر وبدعاية الدولة الشمولية لنفسها.
رحل عمر أميرلاي عن عالمنا قبل أيام قليلة من انتفاضة المدن السورية التي صدَّعت سد البعث. أقفل المخرج عدسته عن المشهد وغادر، فلم يشهد خراب الإنسان والعمران الذي جرَّه الطوفان على البلاد والعباد حتى آخر لحظة من اليوم الأخير. لكن حكاية السد والطوفان التي صنعها بنباهته الحادة ستظل نبوءة خالدة في ذاكرة السوريين الحالمين بحرية النهر وعودته إلى مجراه الطبيعي.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الف لم
إقرأ أيضاً:
بين شدة النشاط الزلزالي وضعف الكهرباء.. خبير يكشف تحديات تواجه سد النهضة
انتهى التخزين الخامس والأخير لـ سد النهضة الإثيوبي يوم 5 سبتمبر الماضى عند منسوب 638 متر فوق سطح البحر بإجمال 60 مليار متر مكعب.
قال الدكتور عباس شراقي، أستاذ الجيولوجيا والموارد المائية بجامعة القاهرة إنه منذ ذلك التاريخ والمخزون ثابت، بحيث الإيراد يعادل المنصرف من السد، بعد انتهاء التخزين كان الإيراد اليومى كبيرًا يصل إلى 400 مليون م3، مما تطلب فتح 3 – 4 بوابات من المفيض العلوى، تقلصت إلى بوابة واحدة مع انخفاض الإيراد فى ديسمبر الماضي (40 مليون م3/يوم).
وأضاف قال الدكتور عباس شراقي: طوال تلك الفترة ظلت التوربينات بدون عمل تقريبا، ومنذ 24 ديسمبر الماضى تظهر دوامات مائية أمام التوربينات، وكأنها تعمل بمقدار الـ 40 مليار م3، والطبيعى أن تحتاج هذه التوربينات إلى أكثر من 100 مليون م3/يوم فى حالة التشغيل المتوسط، وبالتالى يقل المخزون تدريجيا، ولكن أظهرت الصور الفضائية عدم نقص المخزون مما يدل على عدم تشغيل التوربينات رغم إمرار الإيراد اليومى الحالي وهو 20 مليون م3 من خلال أنفاق التوربينات، أو على أحسن تقدير التشغيل لساعات قليلة، وهذا يظهر أمام الشعب الإثيوبي أن التوربينات تعمل.
وأكمل الدكتور أستاذ الجيولوجيا والموارد المائية بجامعة القاهرة أن المحافظة على التخزين كاملا هو الأمل الإثيوبى فى عمل التوربينات وإمرار المياه من خلالها، وكان مقررًا تركيب 3 توربينات أخرى فى ديسمبر الماضى ولم يحدث.
وتابع الدكتور عباس شراقي مازال النشاط الزلزالى مستمرًا فى منطقة الأخدود الإثيوبى حيث وصل عدد الزلازل خلال الثلاثة أسابيع الأخيرة منذ 21 ديسمبر إلى 143 زلزال، تتراوح قوتها من 4.3 – 5.8 درجة، منها 86 زلزال فى أقل من أسبوعين فى 2025.
الزلازل القريبة من سد النهضةوأشار الدكتور عباس شراقي إلى أن الزلازل بالقوة والمسافة الحالية 500 – 600 كم من سد النهضة لا تؤثر على السد، ولكن الخوف من زيادة القوة والاقتراب من السد، وإثيوبيا سجلت من قبل عشرات الزلازل قوتها من 6 – 6.5 درجة، وآخر الزلازل القريبة من سد النهضة زلزال 8 مايو 2023 بقوة 4.4 درجة وكان التخزين وقتها 15 مليار م3.
وقال الدكتور عباس شراقي إن البعض يدعي أننا نحاول الحصول على حقنا من خلال الدعاء بإنهيار السد، ولانستخدم العلم فى حل مشاكلنا بما فيها مشكلة سد النهضة، اذا كانت الدولة هى التى كبرتهم وعلمتهم، وهناك عشرات الدراسات المصرية الحديثة عن نهر النيل وسد النهضة، ونفتخر بمدرسة الرى المصرية العريقة، ومشروعاتنا العلمية الكبرى العالمية وعلى رأسها السد العالى، ومنظومة الرى المكونة من أكثر من 50 ألف كم قنوات رى وصرف، 8 قناطر كبرى، ومئات محطات رفع المياه، وانفاق وسحارات وجسور وغيرها.
نتمنى الخير لشعوب حوض النيل، ولا نتمنى إنهيار سد النهضة حفاظا على أرواح إهلنا فى السودان وحماية للاحتياطى المائى المصرى. رغم بعض المشاكل الاقتصادية، إلا أن مصر بخير وسوف تظل بخير إن شاء الله رغم جحود بعض أبنائها.