كيف تعيد التقنيات صياغة المشهد السياسي؟
تاريخ النشر: 14th, December 2024 GMT
مع دخول العالم مرحلة غير مسبوقة من التطوّر الرقمي، بات من الصعب تجاهل التأثيرات العميقة التي تتركها التقنيات الرقمية وأدواتها الذكية المتطورة على الحياة السياسية، وعلى هندسة السلطة وصياغة معادلات النفوذ والتأثير؛ فيعتبر ما كان بالأمس خاضعاً لأنماط تقليدية من التحكّم السياسي وتواصله، ينتقل اليوم بوتيرة متسارعة إلى فضاء رقمي جديد تتحكم فيه البيانات، والخوارزميات، والمنصّات الرقمية.
قبل الثورة الرقمية وأنظمتها الذكية، كانت السلطة السياسية تتمظهر ببنية هرميّة صارمة؛ حيث يتركّز النفوذ في قمّة الهرم بتباينه من سلطة إلى أخرى؛ لينتقل النفوذ تدريجياً إلى أسفل الهرم عن طريق قنوات اتصال محدودة ورسمية. في حاضرنا الرقمي، نجد أن التقنيات الرقمية تمكّنت من كسر هذه الهرميّة؛ لتحدث تغيرا للسلطة يتسم بالبنية الشبكية؛ حيث تتداخل فيها مراكز النفوذ وتتعدد مصادر المعلومات وآلية انتشارها، وباتت مساحات رقمية افتراضية مثل وسائل التواصل الاجتماعي، والمنصّات الإعلامية الرقمية، والشبكات الافتراضية فضاءات بديلة تسمح للأفراد والمجموعات بالتعبير عن آرائهم، وتنظيم صفوفهم، والتأثير في القضايا العامة؛ ولهذا تتضح معادلة سياسية أخرى غير معهودة مفادها أن السلطة السياسية لم تعد صاحبة الكلمة النافذة في قرارات المجتمعات الرقمية، بل أضحى من السهل أن يتفوّق صوت الناشط الرقمي أو الصحفي على صوت المؤسسة السياسية، وهذا ما يمكن أن نراه من زاويتين متضادتين من حيثُ إن بعضًا من التأثير -الذي يفرضه الواقع الرقمي- غير المنضبط بالأسس القانونية والأخلاقية يمكن أن يحدّ من تأثير السلطة السياسية في ضبط النظام العام، ولكن في الوقت نفسه يمكن أن نراه بشيء من الإيجابية حال أنه لا يمس القيم الأخلاقية والقانونية في كونه فضاء تتلاقح فيه الأفكار وتتشارك في تطوير المجتمع؛ فيكون الأفراد جزءا من المنظومة السياسية وشركاء في مشروعات البناء.
في واقعنا الرقمي المعاصر، لا يمكن أن نعتقد أن صياغة الرأي العام سيكون حصرا عبر الصحف والتلفاز والإذاعة؛ إذ اقتحمت المنصات الرقمية هذا الميدان لتشكّل فضاءً مفتوحًا للجميع في صناعة الرأي العام؛ فيستطيع الجميع بما فيهم الساسة وصنّاع القرار وأيّ فرد في المجتمع بواسطة منصات التواصل الاجتماعي مثل فيسبوك «ميتا»، تويتر، يوتيوب، إنستغرام وغيرها من مشاركة الرأي ونشره بسرعة كبيرة، وجذب متابعين ومناصرين من أقطاب مختلفة من العالم، وهذا ما يمكن أن ينقل المشهد من منطقة الصياغة إلى منطقة التأثير «سلبا أم إيجابا»، واستنادا إلي آلية عمل هذه المنصّات التي تتصل بخوارزميات ذكية، فإنّ هذه الخوارزميات تملك خاصية صناعة القرارات في عملية النشر والاستهداف سواء تلك المحتويات التي ستنتشر أو تلك التي ستهمّش وفق توجهات شركات التقنية وسياساتها المتحيّزة؛ فتتفاعل تساؤلات تتعلق بمدى شفافية هذه الخوارزميات وعدالتها، ومن يتحكّم بها، وكيف يمكن أن تشكّل هذه الأدوات التي تصممها شركات خاصة رؤية الأفراد إلى العالم، ولعّل أقرب مشهد حديث يمكن أن نستشهد به ليقّرب لنا هذه الظاهرة ما حدث في سوريا وما زال يحدث من أحداث تتمازج فيها النوايا السياسية بين الإرادة الشعبية والتدخلات الخارجية المشبوهة.
من الممكن أن نعتبر «هندسة السلطة» أكثر وضوحاً حين ندرك أنّ المحتوى السياسي على المنصات الرقمية يخضع لأشكال متنوّعة من التداخلات مثل: التلاعب بالأخبار عبر «الفبركة» والبرمجيات الخبيثة، واستهداف مجموعات بعينها عبر الإعلانات الموجّهة، و«تجييش» الغرف المغلقة في تطبيقات التواصل الاجتماعي، وتنظيم حملات الضغط السياسي الرقمي، وتعتبر مثل هذه التداخلات أدوات ذات أهداف سياسية تسعى إلى إعادة توزيع القوة والتأثير، ونجد أن ما كان مقتصراً على النخب السياسية والمؤسسات الإعلامية صار في متناول مجموعات مصالح متفرقة، وربما حتى أطراف خارجية تتدخّل في الشؤون الداخلية لدول أخرى دون قيود جغرافية واضحة. من ناحية أخرى، نجد أن للسلطة السياسية إمكانية في استغلال هذه القفزة الرقمية؛ فمع تضاعف حجم البيانات الرقمية المتاحة، سواء تلك الناتجة عن استعمالاتنا المستمرة لشبكة الإنترنت أو التي تجمعها أجهزة إنترنت الأشياء؛ أضحى من السهل تحليل هذه البيانات واستخراج الأنماط والمعلومات بأنواعها؛ فتسمح التحليلات المتقدمة بالتنبؤ بسلوك الناخبين واتجاهات الرأي العام -وهذا ما رأيناه في الانتخابات الأمريكية-، وكذلك التأثير في مسارات القضايا الحسّاسة التي يمكن استثمارها لخدمة أجندات معيّنة؛ إذ لم تعد الحملات الانتخابية تضع ثقل اعتمادها على الخطب الجماهيرية والمناظرات التلفزيونية، ولكن تأثيرها بات منوطا بشكل متزايد على قدرتها على الهندسة الرقمية للمحتوى السياسي التي تستند إلى قوة البيانات الضخمة وحجمها ونماذج التحليل التنبئي؛ للتأثير على كل ناخب وفق اهتماماته وقيمه ومخاوفه المرصودة والمحللة.
يمكن لمثل هذا التداخل الرقمي أن يصنع معضلات أخلاقية وقانونية حادّة في المجتمعات؛ فتتداعى كثير من الأسئلة بهذا الشأن منها: إلى أي مدى يحق للسلطة السياسية استغلال بيانات المواطنين لأغراض التأثير الانتخابي أو القضايا الأخرى؟ وكيف يمكن تقنين استعمالات الذكاء الاصطناعي والخوارزميات في المجال السياسي؟ وهل يمكن ضمان عدم توظيف هذه الأدوات في حملات تضليلية أو تمييزية؟ ما زالت هذه الأسئلة محتدمة وغير محسومة؛ فهذه الأسئلة ليست من منطلق نظري فحسب، ولكن أصبح حضورها قويا في النقاشات السياسية والقضائية والعلمية، على مستوى العالم.
إنّ «هندسة السلطة» في عصر الثورة الرقمية ليس حدثاً طارئاً أو عملية مؤقتة، بل هي معادلة ديناميكية مفتوحة على احتمالات عديدة، وتتفاعل فيها القوة الرقمية الصاعدة مع القوة السياسية، وتتصارع فيها إرادة التحكّم مع دعوات الحرية، وتظهر فيها فرص لتحسين المشاركة السياسية والشفافية جنباً إلى جنب مع مخاطر التلاعب والتضليل، وسيسهم فهم هذا التحوّل والتعامل معه بوعي وحكمة في تحديد مسار متوازن وواعٍ للمستقبل؛ فتتمكّن المجتمعات من تسخير قوة التقنيات الرقمية لدعم المظاهر الديمقراطية، لا لتقويضها؛ ولضمان توظيف هذه الأدوات في خدمة الإنسان، لا في استغلال نقاط ضعفه، وهذا ما لم تعه كثير من السلطات السياسية للدول -معظمها عربية- وساهم في تفاقم أزماتها الداخلية وتنامي القطيعة بين الشعب والحكومة. لنا في سلطنة عُمان تجربة ناجحة أدركت الحكومة أهمية تفعيلها وفق ضوابط تحفظ القانون العام والخاص والقيم المجتمعية والدينية والمنطلقات الأخلاقية، وتتمثّل في تفعيل الحوار الرقمي المفتوح للجميع لمشاركة الأفكار والملحوظات للشأن الداخلي والخارجي، ومن صعيد أكثر شمولية نجد مظاهر طرح الرأي العام -في حدود الضوابط المذكورة آنفا- عبر منصات التواصل الاجتماعي والقنوات الإعلامية الرسمية المكتوبة والمسموعة والمرئية دون تقييد للحريات، وهذا ما أراه ناتجا عن الثقة المتبادلة بين عناصر المجتمع العُماني حكومة وشعبا، ولم يتأتّ ذلك إلا نتيجة التجربة العُمانية العميقة والطويلة للديمقراطية ونضجها السياسي -في الحريّة والشورى- التي وثّقها التاريخ منذ مئات السنين، وهذا ما أعتقده أحد أسرار نجاح التوازن السياسي العُماني -الداخلي والخارجي- الذي حافظت عليه حكومة سلطنة عُمان مع نهضتها المتجددة بقيادة جلالة السلطان هيثم بن طارق المعظّم -حفظه الله ورعاه- الذي وجّه بأهمية التفاعل الرقمي وتطويراته لصناعة منظومة سياسية تعتمد الشفافية يشترك فيها جميع أفراد المجتمع العُماني آخرها صدور الأوامر السامية بتوجيه مجلس الوزراء والجهات المعنية لتطوير منصة إلكترونية متخصصة لتلقي الشكاوى والمقترحات من عامة أفراد المجتمع، وأُعلن عن إطلاق النسخة التجريبية قبل عدّة أيام، وستبدأ فعليا في مطلع عام 2025م بإذن الله.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: التواصل الاجتماعی الرأی العام یمکن أن وهذا ما
إقرأ أيضاً:
سقوط نظام الأسد .. تحذيراً لقادة افريقيا التي تعتمد على القوة الروسية للبقاء في السلطة
سرايا - يوسف الطورة - في ذروة طموحات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين كقوة عظمى، سعت موسكو إلى تعزيز نفوذها بعيداً عن حدودها، أنشأت قواعد في الشرق الأوسط والقطب الشمالي، ووسعت قوة مرتزقتها الغامضة إلى إفريقيا، وتنافست مع الولايات المتحدة والصين على النفوذ العالمي.
لكن مع تركيز موسكو مواردها المالية والعسكرية على الصراع في أوكرانيا، أصبحت مشاريعها العالمية في حالة تدهور بطيء.
في سوريا، لعبت القواعد الجوية والبحرية الروسية دوراً حيوياً كواجهة لموسكو مع حلفائها السوريين، إيران وحزب الله، وكجسر إقليمي لنقل القوات والمرتزقة والأسلحة عبر البحر المتوسط إلى إفريقيا.
وعزز التدخل الروسي في 2015، الذي أنقذ بشار الأسد، دور موسكو كلاعب رئيسي في المنطقة، مما أجبر واشنطن وإسرائيل ودول الخليج على التعامل مع الكرملين كقوة عالملية جديدة.
لكن روسيا لم تستخدم نفس المستوى من القوة الجوية في مواجهة الهجوم الذي أطاح بنظام الأسد، هذا الشهر ،ومع هروب الأسد إلى موسكو، أصبح مستقبل قواعدها في سوريا محل شك، وتخضع الآن لمفاوضات مع القيادة السورية الجديدة.
ترجح التقديرات بحث روسيا عن مواقع بديلة، مثل الجزائر أو السودان أو ليبيا، في حال فقدت نفوذها الاستراتيجي والرئيسي في المنطقة، رغم ان هذه الخيارات لا تقدم مزايا مماثلة لميناء طرطوس السوري، أحد أهم وابرز الموانئ القليلة التي تمتلكها روسيا.
سقوط نظام عائلة الأسد، وسيطرة فصائل المعارضة على الحكم وإدارة شؤون البلاد، يثير ساؤلات لموسكو، أبرزها استمرارية لعبة القوى العظمى "المكلفة"، أو التراجع للتركيز على مناطق نفوذها التقليدية، أبرزها أوكرانيا.
"القضية الأقل أهمية اليوم هي مسألة المكانة والهيبة، العودة إلى المستوى الدولي لم تعد تستحق العناء"، جاءت ضمن مقال ل"فيودور لوكيانوف"رئيس مجلس استشاري للكرملين حول الدفاع والسياسة الخارجية، في أحد المجلات السياسية المؤثرة، شكل صدمة متابعين للشأن الروسي في المنطقة.
المؤكد أن سقوط الأسد، سيدفع موسكو لإعادة تنظيم علاقاتها مع لاعبين إقليميين، بمن فيهم رئيس وزراء الاحٮلال بنيامين نتنياهو، الذي لم يتحدث معه بوتين علناً منذ عام.
المرجح في الملف الخليجي، تسعى السعودية لانتزاع حصة من سوق النفط الروسي، ما يهدد إيرادات موسكو النفطية في وقت بلغ فيه الإنفاق العسكري مستويات قياسية منذ الحقبة السوفيتية.
على الرغم من تخلي روسيا عن العراق، قبل سقوط بغداد 2003، بصفتها الحليف الابرز لنظام صدام حسين، النجاح الروسي في سوريا شكل نموذجا للتدخل في أماكن أخرى، مثل جمهورية افريقيا الوسطى والسودان وليبيا ومالي، حيث ساعد مرتزقة فاغنر الأنظمة الحاكمة.
غير أن سقوط أحد أقرب حلفاء روسيا، وجه مجدداً ضربة وصفعة لمصداقية الكرملين في افريقيا، التي يعتمد القادة على موسكو كضامن ضد التهديدات الداخلية والخارجية، المؤكد أن على قادتها التي تعتمد على الروسي للبقاء في السلطة، فإن سقوط الأسد بمثابة تحذيراً هاماً.
وتراجعت مكانة روسيا العسكرية، رغم تصنيفها كثاني أكبر مصدر للأسلحة في العالم، بعد أن واجهت صعوبات، أبرزها، إجبار مصر على الإنسحاب من صفقة أسلحة بقيمة 3.5 مليار دولار مع موسكو بضغوطات أميركية، قبل ان تقلص الهند حصة الأسلحة الروسية بسبب ضغوط غربية، وعجز موسكو عن الوفاء بالتزاماتها فرضتها حربها في أوكرانيا.
روسيا التي كانت تعيد فتح قواعد الحقبة السوفيتية على ساحلها الشمالي، بهدف تعزيز بنيتها التحتية على طول طريق البحر الشمالي كبديل لقناة السويس، غير أن الحرب في أوكرانيا استنزفت الموارد، مما أدى إلى تأخر مشروعات مثل قاعدة "ناغورسكايا"، وبناء كاسحات جليد نووية جديدة.
المؤكد، رغم التحديات، لا تزال روسيا تحتفظ بقدرتها على إسقاط قوتها عبر مقاتلاتها وغواصاتها في القطب الشمالي، لكن الصين تستغل موقف روسيا، وتكتسب هي الأخرى نفوذاً أكبر على طريق البحر الشمالي، مما يحد من قدرة موسكو على التحكم في هذا الممر الاستراتيجي.
بعد كل هذه الاخفاقات والصفعات، يرى محللون، "إذا كان سقوط سوريا وخسارتها له دلالة، فإنه يزيد من أهمية أوكرانيا بالنسبة لبوتين، فهناك يجب أن يحقق أهدافه".
تابع قناتنا على يوتيوب تابع صفحتنا على فيسبوك تابع منصة ترند سرايا
وسوم: #النفط#روسيا#العالم#الخليج#مصر#الصين#إيران#المنطقة#مجلس#السعودية#العراق#سوريا#اليوم#الجزائر#الوفاء#أمن#الله#الدفاع#غزة#حسين#التوقيت#أوكرانيا#بوتين#رئيس#الرئيس#القوات#موسكو#جنين
طباعة المشاهدات: 1435
1 - | ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه. | 14-12-2024 02:02 PM سرايا |
لا يوجد تعليقات |
الرد على تعليق
الاسم : * | |
البريد الالكتروني : | |
التعليق : * | |
رمز التحقق : | تحديث الرمز أكتب الرمز : |
اضافة |
الآراء والتعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها فقط
جميع حقوق النشر محفوظة لدى موقع وكالة سرايا الإخبارية © 2024
سياسة الخصوصية برمجة و استضافة يونكس هوست test الرجاء الانتظار ...