د. محمد بن عوض المشيخي **

يُعد الثامن من ديسمبر من الأيام الخالدة في تاريخ الأمة الإسلامية بشكل عام والشعب السوري بجميع أطيافه بشكل خاص، فقد حمل ذلك اليوم رسالة وبرهاناً جديداً مفاده أنَّ دولة الظلم والاضطهاد زائلة لا محالة وأن الأنظمة القمعية والدكتاتورية التي تحكم مواطنيها بالحديد بالنار ذاهبة إلى هامش التاريخ يومًا ما، مهما استقوت واعتمدت على القوى الاستعمارية والأنظمة المُشابهة لها في سلب حرية شعوبها ونهب ثروات الأوطان لتعزيز قوتها في اضطهاد رعاياها ومصادرة الحقوق الأساسية للإنسان.

الفصل قبل الأخير من النسخة الأولى للربيع العربي، قد اكتمل وتحقق بهذا النصر المُبين للشعب السوري الذي ناضل طوال 14 سنة واستشهد أكثر من مليون سوري بقصفٍ بالبراميل المتفجرة من طائرات النظام المخلوع، وكذلك قصف المقاتلات الروسية للمدن السورية، ومشاركة المليشيات الأجنبية في قتل الأبرياء، المُعبِّرين عن رفضهم حكم الديكتاتور الفاسد، بينما تم تهجير حوالي 12 مليون مواطن سوري قسريًا حول العالم منهم أكثر من 3 ملايين في تركيا.

من هنا تذكرت قصيدة شاعر الأحرار والمظلومين في كل زمان ومكان التونسي أبو القاسم الشابي والذي يقول في مطلعها:

إِذا الشَّعْبُ يومًا أرادَ الحياةَ // فلا بُدَّ أنْ يَسْتَجيبَ القدرْ

ولا بُدَّ للَّيْلِ أنْ ينجلي // ولا بُدَّ للقيدِ أن يَنْكَسِرْ

وبالفعل تعكس هذه القصيدة العصماء التي قيلت في ثلاثينات القرن العشرين مأساة وطن وشعب تشرد عبر أصقاع العالم؛ وطبيعة ما حصل هذه الأيام يُعبر بحق عن واقع الثورة السورية المجيدة التي قطفت ثمار انتصارها المبارك على النظام الدكتاتوري لأسرة الأسد التي ورثت الحكم في سوريا من الأب الذي وصل إلى الحكم على ظهر دبابة بانقلاب عسكري قبل 53 سنة من سنوات الظلم والاضطهاد والقتل المُمنهَج للسوريين ومصادرة الحريات والحقوق، مقابل الشعارات البعثية الجوفاء التي يُراد منها تخدير أفراد المجتمع وتحويلهم إلى عبيد للنظام الفاسد، ثم تولى الابن بشار الحكم كوريثٍ للأب، في سابقة لم تكن موجود في الأنظمة الجمهورية العربية. إنَّ جرائم هذا النظام البائد لم تكن فقط فيما نشاهده عبر شاشات وقنوات الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، من فظائع تقشعر لها الأبدان، وذلك في زنازين سجن صيدنايا سيئ السمعة؛ حيث كان يتم اقتياد مئات الآلاف من الأبرياء إلى السجن وتعذيبهم، ثم قتلهم على أيدي الأجهزة الأمنية الموالية للنظام، وبإشراف شخصي من بشار الأسد الذي هرب ليلًا من قصره، مثل غيره من الطُغاة عبر التاريخ. جرائم القتل تمت كذلك عبر استخدام الأسلحة الكيميائية ضد المواطنين السوريين، والتي كان يزعم النظام أنها صُنِعَت لتحرير الجولان المحتل، بينما في واقع الأمر لم تُطلق رصاصة واحدة على الكيان الصهوني المحتل منذ عام 1974. إسرائيل كانت تعتبر أسرة الأسد الجهة الضامنة لأمنها طوال العقود الماضية؛ بل هناك جرائم كثيرة اقترفها حافظ الأسد نفسه؛ فالعالم أجمع يتذكر مجزرة حماة في مطلع الثمانينيات من القرن العشرين؛ حيث تم قتل أكثر من 40 ألف شخص من الأبرياء، إضافة إلى 17 ألف مفقودٍ حتى هذه اللحظة!

وإذا كان الشعب السوري وكذلك العالم من أقصاه إلى أقصاه، قد ابتهج بوصول هيئة تحرير الشام إلى قصر بشار الأسد في قلب دمشق، فإنَّ خطر الانزلاق ببوصلة الثورة إلى الانتقام من بقايا النظام المخلوع وتصفية الحسابات القديمة، وقبل ذلك كله محاولة ما يُعرف بـ"الفصائل المُنتصرة" تولّي السُلطة واستبدال ديكتاتور قديم بآخر جديد؛ فهذه مصيبة وفخ كبير للمناضلين.

وإذا حصل ذلك، فهذه نكسة جديدة ستُلقي بظلالها على هذا الشعب الجريح، والذي ينتظر الفرج من خلال التعجيل بإجراء انتخابات حرة بإشراف الأمم المتحدة، على أن تشمل كل الأقليات والأعراق والمدارس الدينية، دون إقصاء أي طرف كان، وعلى وجه الخصوص تمكين الأكراد والمسيحيين والطائفة العلوية، وكذلك الذين ينتمون إلى المذهب الشيعي في البلاد، من المشاركة في اختيار من يقود البلد في المرحلة المقبلة. يجب أن تكون هناك قناعة لدى قادة الثورة السورية بأن فجرًا جديدًا قد أطل على سوريا الجديدة؛ فهذا البلد يجب أن يكون وطنًا لجميع السوريين دون تمييز، ولا يُمكن أن تتحقق آمال الشعب الذي عانى طوال عدة عقود؛ إلّا إذا تعلمنا من الدروس والعِبَر في ما يدور حولنا في الإقليم، وخاصة الحروب الأهلية والقتل على الهوية التي دارت رُحَاها في كل من العراق وليبيا واليمن وأفغانستان، وهي الدول التي دفعت أثمانًا باهظة بعد تلك الانتصارات. وكما عبر جورج دانتون (الزعيم الثوري الفرنسي) عندما قال وهو أمام مقصلة الإعدام "إنَّ الثورة تأكل أبناءها"، وذلك إبان الثورة الفرنسية في القرن الثامن عشر.

بالطبع هناك تحديات وجودية تواجه الثوار، فكما هو معروف في الحركات الجهادية والنضالية عبر التاريخ، فعند الانتصار على الخصوم وتحقيق الأهداف، تبدأ معركة جديدة تكون هذه المرة على الغنائم بين الثوار أنفسهم، إذ إن الكل هنا سيبحث عن تحقيق مكاسب مالية ومناصب عُليا، ثم نرجع إلى نقطة البداية والدخول في صراعات وحروب تأكل الأخضر واليابس وتتحول تلك الشعوب إلى بلدان فاشلة بكل المقاييس بسبب الخلافات بين رفاق الأمس.

في الختام.. إنَّ نجاح الثورة السورية مرتبطٌ برجالها الذين قادوا حرب التحرير وخاصة أحمد الشرع (المعروف باسم أبو محمد الجولاني) الذي أثبت بالفعل بأنه رجل دولة وزعيم يُعتمد عليه، ولكن الآن يخضع لاختبار عسير، فهل يطمح لأن يكون الرئيس القادم لسوريا؟ وإذا كانت الإجابة بالنفي، فذلك سبيل النجاة لسوريا، كما إن موقف الجولاني من الكيان الصهيوني الجاثم على الأراضي السورية، وكذلك موقفه من الإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني في غزة غير واضح، ولم يُعلن عن ذلك حتى الآن!

في كل الأحوال، هناك تجارب رائعة في العالم مثل المُشير عبدالرحمن سوار الذهب في السودان الذي سلَّم السُلطة بعد الانتخابات الحُرة في البلد لحزب الأمة الذي فاز في الانتخابات، ونيلسون مانديلا في جنوب أفريقيا الذي رفض التجديد لنفسه لفترة رئاسية ثانية بعد خروجه من السجن. لا شك أن الأيام المُقبلة ستكشف النوايا وطموحات قادة هيئة تحرير الشام التي لا تزال في قائمة المنظمات الإرهابية من منظور الغرب الاستعماري وخاصة أمريكا، كما إن الجولاني الذي أسس جبهة النصرة وقبل ذلك انخرط في تنظيم "داعش" قد انشق وتمرد على تلك المنظمات، وأصبح أقرب للمنظومة الدولية وخاصة الدول الأوروبية والولايات المتحدة الأمريكية في السنوات الأخيرة؛ بل يُقال إنَّ روسيا كانت منخرطة في حوار مع المعارضة قبل سقوط النظام انطلاقًا من لغة المصالح والسياسة التي لا تُعير القيم والمبادئ وحتى العهود والمواثيق، أي احترم.

** أكاديمي وباحث مختص في الرأي العام والاتصال الجماهيري

رابط مختصر

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

القلق يسيطر على العلويين في حمص بعد حملة اعتقالات

عندما أطاحت الفصائل الإسلامية نظام بشار الأسد، ابتهج الكثيرون من سكان قرية خربة المعزة الريفية بنهاية نصف قرن من القمع، على رغم أنهم ينتمون إلى الطائفة العلوية التي ينتمي إليها الرئيس المخلوع.

الفشل في حماية مجتمعات مثل العلويين قد يؤدي إلى تفاقم الإحباط

وكتب عمر عبد الباقي في صحيفة وول ستريت جورنال الأمريكية، أن حماسة سكان هذه القرية، قد حل محلها الخوف.

وعمد رجال ملثمون إلى ترويع القرية، وضربوا الناس، ونهبوا المنازل، واستخدموا شتائم معادية للعلويين، وظل بعض أفراد المجتمع في عداد المفقودين لأيام بعد الهجمات، ويخشى أن يكونوا قد لقوا حتفهم في أعمال انتقامية.

التطمينات لا تكفي..العلويون في حمص يخشون الاعتقالات والانتقام - موقع 24يسيطر القلق في مدينة حمص ثالث أكبر مدن سوريا، على الطائفة العلوية التي ينتمي إليها الرئيس المخلوع بشار الأسد بعد أيام من حملة أمنية للسلطات الجديدة بحثاً عن "فلول النظام"، اعتقل على إثرها المئات.

وقال خضر إبراهيم، أحد سكان القرية البالغ من العمر 22 عاماً، إنه كان يمارس ألعاب الفيديو في أحد المتاجر عندما أخرجه رجال مسلحون هو وشقيقه البالغ من العمر 24 عاماً من المكان.

وقالت الأسرة وسكان آخرون من البلدة إنهم صوبوا بنادقهم نحو عائلة إبراهيم، وشتموا خلفياتهم العلوية، ونفذوا عمليات إعدام وهمية وضربوا الأخ الأكبر، وقال إبراهيم: "ظننت يقيناً أنهم سيقتلوننا". 

Syria's Alawites, Sect of the Assads, Fear for Their Future

|#US | #EU | #Iraq | #Japan | #India | #Ukraine | #Russia | #UK |

https://t.co/VS9jNJdJkp pic.twitter.com/55isa1FDJT

— نافذةُ على الأخبارِِ (@NEWSDailyArabic) January 12, 2025 مخاوف من التمييز 

وفي نحو 20 مقابلة أجرتها الصحيفة، قال علويون سوريون، إنهم قلقون من التمييز في ظل الحكومة الجديدة وخطر الهجمات التي تشنها الميليشيات والعصابات العديدة في البلاد، والتي يمكن أن تسعى للانتقام من الانتهاكات التي ارتكبتها أسرة الأسد خلال فترة حكمها الطويلة.

اجتماع الرياض يدعم عملية انتقالية سياسية شاملة في سوريا - موقع 24 شدد وزراء خارجية وممثلو 17 دولة، إلى جانب الأمين العام لجامعة الدول العربية، وممثلة الاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية، والأمين العام لمجلس التعاون الخليجي، ومبعوث الأمم المتحدة الخاص لسوريا، في العاصمة السعودية الرياض، الأحد، على دعمهم لعملية انتقالية سياسية سورية، تتمثل فيها القوى السياسية ...

ويشيرون إلى مجموعة من الحوادث المتباينة في الشهرين الماضيين، بما في ذلك عمليات القتل المزعومة خارج نطاق القضاء، وادعاءات التمييز عند نقاط التفتيش وتدمير ضريح ديني، والتي يقولون إنها بدأت تشبه نمطاً من الأعمال المناهضة للعلويين.

وقالت فريال غنام، والدة إبراهيم: " لقد تحررنا من الأسد مثل بقية سوريا نحن ندعم الثورة...الآن، يقع على عاتق هيئة تحرير الشام مهمة حمايتنا، ومعاملة جميع السوريين على قدم المساواة، ونحن مستعدون للمساعدة في إعادة بناء هذه الأمة". 

Syria’s Alawites, Sect of the Assads, Fear for Their Future
Government raids and a string of mysterious killings have put the community on edge
Free WSJ Gift Link:https://t.co/oM7y9YHl22

— Nicole Apostola (@niccommawoo) January 12, 2025 حماة الطائفة

يشكل العلويون نحو 10% من سكان سوريا البالغ عددهم 24 مليون نسمة، ويعيش معظمهم على طول ساحل البلاد على البحر الأبيض المتوسط والريف الجبلي القريب. 

وكان بشار الأسد ووالده حافظ، الذي أسس النظام العائلي بانقلاب عسكري، من العلويين وقدموا أنفسهم على أنهم حماة الطائفة.

وفي الواقع، عانى الكثير من العلويين مع سوريين آخرين، في ظل حكومة معروفة بأساليبها المثيرة للانقسام واستخدام التعذيب والقتل خارج نطاق القضاء. وعارض العديد من العلويين النظام.

من أجل استقرار سوريا..إسبانيا: لابد من التعاون مع تركيا - موقع 24أكد وزير الخارجية الإسباني خوسيه مانويل ألباريس، أن على بلاده والاتحاد الأوروبي توحيد جهودهما مع تركيا للوصول إلى سوريا مستقرة.

وقال فخر زيدان، وهو كاتب علوي وسجين سياسي منذ نحو 10 سنوات، إن الأسد استخدم تكتيكات لإبقاء العلويين فقراء، بما في ذلك تحويل التمويل العام عن مجتمعاتهم، لذلك لم يكن أمامهم خيار سوى اللجوء إلى الجيش للحصول على راتب.

وأوضح زيدان، الذي قال إنه تعرض للتعذيب خلال سجنه بعد محاولته تنظيم ثورة شعبية في الثمانينيات: "تم سحق أي معارضة، بصرف النظر عن طائفتها".

ومع ذلك، فإن الكثيرين من كبار القادة العسكريين وأفراد الدائرة السياسية المقربة من الأسد كانوا من العلويين، وقد تركت الانتهاكات واسعة النطاق في ظل حكمهم مجالاً واسعاً للانتقام.

هجمات انتقامية 

ولا يزال حجم عمليات القتل خارج نطاق القضاء بحق العلويين غير واضح. وتستمر مقاطع الفيديو التي يُزعم أنها تصور هجمات انتقامية في الانتشار عبر الإنترنت وتثير المخاوف.

السوريون في المناطق الحدودية يخشون احتلالاً إسرائيلياً طويلاً - موقع 24اقتحم جنود إسرائيليون قرى حدودية سورية، واستولوا على أعلى قمة في البلاد، وأقاموا حواجز على الطرق بين المدن السورية، ويطلون الآن على قرى من المواقع العسكرية السورية السابقة.

وأوضح دبلوماسي أمريكي كبير للصحيفة، إن الولايات المتحدة لا تعتقد أن هيئة تحرير الشام، تقف وراء سلسلة عمليات القتل الانتقامية، لكنها تريد من الهيئة أن تتعامل علناً مع أعمال العنف، أو المجازفة بانهيار الوضع الأمني الهش.

ويشكل العنف مصدر قلق كبير للولايات المتحدة، إذ يخشى البيت الأبيض انزلاق سوريا إلى صراع طائفي مرير.

مراكز مصالحة

وخربة المعزة، حيث تعيش عائلة إبراهيم، محاطة بنقاط تفتيش مملوءة برجال مدججين بالسلاح ومزينة برايات إسلامية. وتم نشر القوات التابعة لائتلاف الحكومة الجديدة على نطاق واسع هناك، عقب هجوم الشهر الماضي شنته ما وصفته الحكومة بالعناصر الموالية للأسد، والذي قُتل فيه أكثر من عشرة من أفراد قوات الأمن.

وقالت هيئة تحرير الشام، إنها ستحمي جميع الطوائف العرقية والدينية في سوريا، وأنشأت مراكز مصالحة، حيث يمكن أعضاء النظام القديم التسجيل للمشاركة في الحكومة الجديدة.

مقالات مشابهة

  • المنتجات الأجنبية تغزو الأسواق السورية
  • كيف غزت المنتجات الأجنبية الأسواق السورية بعد سقوط الأسد؟
  • ما حجم الودائع السورية التي أثارها الشرع؟
  • اعتقلوهم ثم أحرقوهم.. حكايات عن عدوان نظام الأسد على بلدة الهامة بريف دمشق
  • إدارة الهجرة في سوريا تعلن استئناف إصدار جوازات السفر بعد سقوط النظام
  • الشرع: لا يمكننا بناء سوريا بالفصائل المسلحة
  • درعا مهد الثورة السورية تحتفل بخلاصها من الظلم
  • القلق يسيطر على العلويين في حمص بعد حملة اعتقالات
  • الشرع يعلن انتهاء الثورة السورية ويتحدث عن موقفه من التكويع (شاهد)
  • علم الثورة يدخل المناهج السورية.. ماذا يعني حذف مادة التربية الوطنية