ربما يكون الإنسان في وضع مريح للغاية وهو بمبعدة عن أي تصنيف اجتماعي أو وسط مهني، إذا لم يكن محسوبًا على نخبة من النخب التي تُضفي متطلباتها عليها قداسة معينة.
مصدر ذلك الارتياح أنه لن يخرج عن كونه إنسانًا طبيعيًا مجبولًا على إساءة التقدير والزلل، ولأنه سيكون غير مطالب بالمثالية وسلامة الأفعال، ولن يحتاج لأي مبررات حال اتخاذ قرارات غير دقيقة.
الشخص المُلتزم، أو من ننعته بـ «المُطوع» على سبيل المثال، لا تُبرر أخطاؤه وإن كانت في أضيق الحدود، لا يُعذر حال الوقوع اللا إرادي تحت تأثير العاطفة أو الميل، رغم يقيننا أنه مجرد إنسان وليس نبيًا مُرسلًا أو رسولًا يتنزل عليه وحي السماء، لا نرتضي أن يرتكب أبناؤه الهَنّات، أو أن يتأخر عن الصلاة لأي عارض، أو أن يلبس سوى اللون الأبيض، أو أن يمزح.
ولعل من بين الأوساط التي تُلقي طبيعتها بثقل على الشخص، وسط «التعليم» ومن ينتمون إلى هذا العالم المُتطلِب لأقصى درجات المثالية؛ فللمعلم صورة ذهنية غاية في النقاء استُمدت من دوره الأزلي في إيصال المعرفة وبث الوعي وترسيخ المبادئ والقيم السامية ومكارم الأخلاق.
ولأن تصورنا المُسبق لهذه المهمة لا يمكن المساس به، أضفينا على المعلم «الإنسان» الذي يقوم بها قداسة مبالغًا فيها حدَّ رصد حركاته وسكناته ومراقبة طريقة حديثه وتصرفاته، كما رسخ في أذهاننا تصور ثابت لا يقبل المساس لما يُفترض أن يكون عليه تعاطيه مع الحياة، أليس هو الشخص الذي «كاد أن يكون رسولًا»؟!
أما المرأة التي ارتضت أن تمتهن التعليم، فيُفرض عليها نتيجة لذلك اشتراطات صارمة تبدأ بطريقة لباسها وتنتهي بأسلوب إدارتها لحياتها الخاصة، فمن غير المقبول اجتماعيًا -حسب تصورنا- أن تتزوج المعلمة من شخص أقل منها مستوى اجتماعيًا أو تعليميًا أو ماديًا، وإن كان متفوقًا خُلقًا، ليس مقبولًا أن يخفق أحد أبنائها دراسيًا أو أن يأتي بتصرف غير معتاد، وإن كان مراهقًا أو متأثرًا بما يدور حوله.
إن القداسة التي يفرضها المجتمع على الأشخاص بسبب طبيعة مهامهم وأدوارهم هي بمثابة حكم بالإعدام أو السجن المؤبد، يلزم الآخرين التخفيف منه كونهم مجرد بشر خُلقوا من ضعف، وتتنازعهم العواطف والأهواء، ولأنهم معرضون للإتيان بتصرفات قد لا تتوافق مع التصور الملائكي الذي نرسمه لهم في مخيلتنا، علينا أن نلتمس لهؤلاء الأعذار فلا نخرجهم من آدميتهم ولا نكلفهم إلا وِسعهم.
النقطة الأخيرة..
«الحياة الإنسانية لا تحدث إلا مرة واحدة، ولن يكون في وسعنا أبدًا أن نتحقق أي قرار هو السيئ، لأننا في كل الحالات لا يمكننا إلا أن نقرر مرة واحدة، لأنه لم تُعطَ لنا حياة ثانية أو ثالثة أو رابعة حتى نستطيع أن نقارن بين قرارات مختلفة».
ميلان كونديرا
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
المبطبط
هناك لهجات عربية جميلة منها اللهجة اللبنانية، وهى لهجة تكسر جميع الفتحات ويحول القاف إلى همزة مفخمة، لذلك يقولون على الشخص السمين كثير اللحم والشحم لفظ «المبطبط» تعنى أن جسم الشخص بارز من كل مكان غير رشيق.. وبسبب بطء حركته اتهمته أيضاً السينما المصرية بالشخص بطيء الفهم. من منا لا يتذكر الفنان الجميل «سيد بدير» فى العديد من الأفلام القديمة كان «الكاركتر» الغالب فى معظم أدواره بسبب حجمه و«غبى» فى مواقف كثيرة. كما كان للسينما الأجنبية فى ذات الوقت شخصية «هاردى» فى سلسلة أفلام «لوريل وهاردى» النحيف والسمين والغباء الذى فيه. حتى ترسخ داخل الوجدان الشعبى أن هؤلاء «المبطبطين» أغبياء، وعندما يعتقد أنه فاهم كل شيء تجده غير قادر على القيام بالعمل المطلوب منه. وللأسف أعرف أحدهم «مبطبط» جاثمًا بوزنه هذا على أحد الاتحادات للعبة لم يمارسها فى حياته، كلما أخطأ وينتقده النقاد تراه يزداد عناد دون أن نعرف سبباً لهذا العناد، الأمر الذى دعا البعض أن يقول القول المشهور «هو ابن مين فى البلد» إن العمل المسند إليه فوق طاقته، وأعتقد أن سبب استمراره فى مكانه رغم كل هذا الفشل أنه يُنفذ ما يُطلب منه دون مناقشة، ويظن أنه محمى وأنه فوق الحساب.
لم نقصد أحداً!!