لا تفتَرِض أن خطوط الإمداد الإيرانية إلى حزب الله قد قُطِعت
تاريخ النشر: 14th, December 2024 GMT
لقد مرت الجهود السابقة لطهران لإعادة تشكيل "حزب الله" ببيئات أكثر صعوبة من سوريا ما بعد الأسد، لكن جهوداً اقتصادية بقيادة الولايات المتحدة يمكن أن تعقّد جهود التهريب المستقبلية وتساهم في تحقيق أهداف أخرى لمكافحة الإرهاب في الوقت ذاته.
على الرغم من أن انهيار نظام بشار الأسد يمثل تطوراً مشجعاً بالتأكيد، إلا أن هذا لا يعني أن راعيته السابقة، إيران، ستتخلى ببساطة عن استخدام سوريا كمعبر لإعادة تشكيل "حزب الله" في الجوار اللبناني.
لنأخذ اليمن كمثال. منذ أن فرضت الأمم المتحدة حظراً على الأسلحة الموجهة ضد الحوثيين في عام 2015 بموجب "قرار مجلس الأمن رقم 2216"، قامت إيران ببناء ترسانة الحوثيين من الصواريخ الباليستية متوسطة المدى، والصواريخ المضادة للسفن، وصواريخ كروز، والطائرات المسيرة الهجومية بعيدة المدى، والقوارب المسيّرة المفخخة، والصواريخ أرض-جو، وغيرها من القدرات المتقدمة، بالإضافة إلى تهريب منتجات الوقود المدعومة بشكل كبير. وتمكنت هذه الإمدادات من تجاوز شبكة مراقبة متعددة الجنسيات، بما في ذلك آلية تفتيش التجارة البحرية التابعة للأمم المتحدة وجهود اعتراض بحرية من قبل حلف شمال الأطلسي وقوات البحرية الخليجية. كما قامت إيران بتهريب أنظمة أسلحة رئيسية (بما في ذلك مؤكسدات الوقود السائل، والصواريخ، والطائرات المسيرة، وأجهزة الاستشعار) عبر عُمان، ومن ثم نقلتها مئات الأميال عبر مناطق من اليمن التي تسيطر عليها الفصائل المناهضة للحوثيين.
خطوط الإمداد المحتملة بعد الأسد
من بين الخيارات المستقبلية لإيران لإرسال المواد إلى "حزب الله"، تبرز 4 احتمالات:
النقل البري المستمر عبر الشاحنات من خلال العراق، عبر وسط سوريا، وصولاً إلى لبنان.
مسارات برية أخرى: عبر العراق، والأردن، وجنوب سوريا، أو عبر العراق، وتركيا، وشمال سوريا.
النقل البحري إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط في سوريا، (ومن ثم) النقل البري بالشاحنات إلى لبنان.
النقل الجوي إلى سوريا، (ومن ثم) النقل البري بالشاحنات إلى لبنان.
مع إعادة فتح سوريا بعد الأسد كما هو مُفترض، ستشهد البلاد تدفقاً للأشخاص والمركبات والأموال والمساعدات الإنسانية ومواد إعادة الإعمار والسلع الاستهلاكية، ومعظمها عن طريق الشاحنات من الدول المجاورة. ويمكن لإيران بسهولة استغلال هذا التدفق لإعادة تشكيل "حزب الله" وفصائلها الوكيلة في سوريا. فالعراق تحكمه حفنة من الميليشيات الموالية لإيران التي تتحكم بالكامل في المنافذ الحدودية والطرق السريعة والمطارات. وفي الأردن، تسعى إيران منذ فترة طويلة إلى إضعاف سيطرة الحكومة وتحويل المملكة إلى قاعدة أكثر تقبلاً للأنشطة المعادية لإسرائيل والمعادية للغرب عبر التلاعب بعناصر أردنية/فلسطينية متعاطفة وعناصر أجنبية. وفي سوريا، قد لا يكون الوضع ما بعد الأسد مقاوماً بشكل خاص لشبكات التهريب الإيرانية، التي تتمتع بتمويل جيد وتتداخل مع العصابات الحالية للمخدرات. كما يمكن أن تعمل المناطق الساحلية ذات الأغلبية العلوية، التي كانت تشكل نواة النظام السابق، كخط إمداد أقصر إلى "حزب الله"، حيث يتم إخفاء البضائع المهربة ضمن شحنات المساعدات ومواد إعادة الإعمار المرسلة إلى لبنان بعد وقف إطلاق النار.
بالإضافة إلى ذلك، أظهرت إيران أنها لا تتردد في إجراء ترتيبات تكتيكية مع الجماعات الجهادية السنية في الماضي (على سبيل المثال، تنظيم "القاعدة" وحركة طالبان)، لذلك قد تختار تبني هذه التكتيكات في سوريا ما بعد الأسد، حيث أصبحت معدات النظام عرضة بشكل متزايد لخطر الاستيلاء عليها من قبل تنظيم "الدولة الإسلامية" ("داعش"). لقد تفكك الجيش التابع للأسد ولا يعرف أحد حجم ترسانته التي يجمعها تنظيم "الدولة الإسلامية". وحتى لو استولت فصائل أخرى على الجزء الأكبر منها، فقد تحاول عناصر تنظيم "داعش" شراءها منها في الأشهر المقبلة. وتشمل القوات المتمردة الشمالية والجنوبية التي تجمعت باتجاه دمشق خلال الأسبوعين الماضيين - وأبرزها "هيئة تحرير الشام" - عدداً غير معروف ولكنه مهم من العناصر المصنفة من قبل الولايات المتحدة كإرهابية، والتي سبق أن تنقلت بين قتال تنظيم "الدولة الإسلامية" وتقاسم الموارد معه.
توسيع الوجود الأمريكي
نظراً لتعدد هذه المخاطر، ينبغي على الولايات المتحدة أن تسعى بنشاط لاتخاذ مجموعة من التدابير الوقائية بمساعدة أطراف أخرى معنية - وهي الدول التي ترغب في تقليل تأثير الإرهاب في سوريا وبالتالي توسيع أنشطتها هناك. وقبل كل شيء، يجب على المسؤولين في إدارة بايدن أو الإدارة الأمريكية المقبلة بقيادة ترامب إعادة تقييم الحكمة من الانسحاب المبكر للعناصر الأساسية من الوجود العسكري الأمريكي المحلي.
وفي العراق، تُعد "قاعدة عين الأسد الجوية" موقعاً مثالياً لمراقبة عناصر تنظيم "الدولة الإسلامية" وتقديم دعم أساسي للجهود الأوسع نطاقاً لمكافحة الإرهاب والتهريب. لدى بغداد أسباب كافية لتمديد بقاء القوات الأمريكية في "قاعدة عين الأسد"، حيث تواجه مخاوف تتعلق بعودة ظهور تنظيم "داعش" وارتفاع نشاط الفصائل الجهادية السنية الأخرى في سوريا ما بعد الأسد. وعلى الرغم من أن "اللجنة العسكرية العليا الأمريكية العراقية" كانت قد خططت سابقاً لإغلاق هذه القاعدة في أواخر عام 2025، إلّا أن الوضع الجديد في البلد المجاور يستدعي إعادة النظر في هذا القرار.
كما أثبتت قاعدة "التنف" في سوريا، التي يتم إعادة إمدادها عبر الأردن، أنها نقطة وصول منخفضة التكلفة وفعالة للغاية لمراقبة جنوب ووسط سوريا. وبالمثل، فإن المواقع الحالية لـ "قوات العمليات الخاصة الأمريكية" على طول نهر الفرات تتمتع بموقع مثالي ليس فقط لدعم مختلف عمليات مكافحة الإرهاب في سوريا، بل أيضاً لمراقبة أنشطة الميليشيات الإيرانية والميليشيات الوكيلة في ذلك الممر. وفي النهاية، قد يكون من الضروري منع الفصائل السنية العربية المتطرفة العنيفة من اجتياح العناصر الكردية التي كانت أساسية لمهمة مكافحة الإرهاب الأمريكية على الأرض.
الصلاحيات، الوصول، والشراكات
بطبيعة الحال، لا تقتصر مراقبة ومنع واستهداف عمليات التهريب التي تقودها إيران لـ "حزب الله" على الوجود العسكري فقط، بل تتطلب أيضاً بنية قانونية وسياسية مدروسة لدعم هذه الجهود. وفي سوريا، تحظى مهمة مكافحة تنظيم "داعش" بدعم قوي من خلال تدابير الأمم المتحدة مثل "قرار مجلس الأمن رقم 2249" (2015)، الذي خوّل الدول "اتخاذ جميع التدابير الضرورية" لتقليل تهديد تنظيم «داعش». ومع ذلك، فإن الآلية الرئيسية التي تعتمد عليها الولايات المتحدة - وهي "تفويض استخدام القوة العسكرية لعام 2001" (AUMF) - تشكل مصدراً محدوداً ومتدهوراً بسرعة للسلطة في استهداف تنظيم «القاعدة» و"القوات المرتبطة به". وقد تظل "هيئة تحرير الشام" مؤهلة لهذا التصنيف على الرغم من تخليها عن جذورها المرتبطة بتنظيم "القاعدة" - وخاصة إذا حاولت بعض عناصرها نقل أسلحة إلى كيانات إرهابية عالمية مثل تنظيم "الدولة الإسلامية" و/أو "حزب الله". (إن تصنيف وزارة الخارجية الأمريكية لـ "هيئة تحرير الشام" كمنظمة إرهابية أجنبية هو موضوع منفصل عن قضية تفويض العمل العسكري في سوريا وسوف تتم مناقشته بالكامل في "مرصد سياسي" قادم).
وفي ضوء هذه التعقيدات والبيئة المتغيرة في سوريا، ينبغي على المسؤولين الأمريكيين والكونغرس البدء بمشاورات لتوسيع نطاق "التفويض الحالي لاستخدام القوة العسكرية" أو إصدار تفويض جديد في عام 2025. يجب أن يكون الهدف هو تفويض محدود لاستخدام القوة ضد أي جماعة إرهابية مصنفة من قبل الولايات المتحدة في الشرق الأوسط إذا قرر الرئيس الأمريكي أن هناك حاجة للتحرك، بما في ذلك خارج الحدود الضيقة للدفاع الذاتي الوشيك. ومن شأن هذه الآلية أن تسهل حرية الولايات المتحدة في التصرف ليس فقط ضد جماعات مثل تنظيمي "داعش" و"القاعدة"، وحركتي "حماس" و"الجهاد الإسلامي الفلسطيني"، والحوثيين، بل أيضاً ضد الجهات الفاعلة التي قد تدعم جهود إيران لإعادة تسليح "حزب الله" (على سبيل المثال، الميليشيات العراقية المصنفة كإرهابية). وقد يكون "تفويض استخدام القوة العسكرية 2.0" مفيداً بشكل خاص إذا ألغت الحكومة السورية المقبلة موافقتها على السماح لدول أخرى باستخدام القوة داخل أراضيها - وهو الخيار الذي حرمه الغرب من نظام الأسد بسبب سلوكه القاتل طوال الحرب الأهلية.
ينبغي على واشنطن أيضاً النظر في اتخاذ الخطوات التالية، مع تحمّل حلف شمال الأطلسي والشركاء الإقليميين جزءاً كبيراً من العبء:
• توسيع نطاق "قوة المهام المشتركة للعمليات الخاصة في بلاد الشام (المشرق)" وتوسيع مهمتها، لتشمل عناصر تركز على التهديدات غير المتعلقة بتنظيم "الدولة الإسلامية"، ودعم قيادة الولايات المتحدة لجهود مراقبة (اتفاق) وقف إطلاق النار الجديد في لبنان، والذي يشمل جزءاً منه منع إعادة تشكيل "حزب الله" عسكرياً. كما تحتاج الولايات المتحدة إلى تعزيز أصولها الاستخباراتية والمراقبة والاستطلاع المخصصة لهذه المهام في سوريا.
• تعزيز "قوة المهام المشتركة للعمليات الخاصة في بلاد الشام" في نقاط وجودها داخل سوريا. وقد يشمل ذلك قواعد دوريات مؤقتة جديدة بين قاعدة "التنف" والقواعد التي أنشأتها "قوات سوريا الديمقراطية" التي يقودها الأكراد في البوكمال ومدينة دير الزور. وقد تكون قواعد الدوريات هذه أمريكية أو متعددة الجنسيات - على سبيل المثال، قد تكون بريطانيا وفرنسا والأردن والإمارات العربية المتحدة على استعداد لتقديم وحدات عمليات خاصة لهذه المهمة بشكل سري. وللحفاظ على شريكهما الرئيسي على الأرض، بإمكان الولايات المتحدة وفرنسا أيضاً مساعدة "قوات سوريا الديمقراطية" عن طريق وضع دوريات برية وجوية بين هذه القوات والقوات المدعومة من تركيا، وبالتالي الحفاظ على سلام غير مستقر في المنطقة. (سوف تتم مناقشة الخيارات الأمريكية بشأن "قوات سوريا الديمقراطية" بشكل أوسع في "مرصد سياسي" قادم).
• تعزيز التعاون الأردني في مكافحة المخدرات. سوف يؤتي هذا ثماره بسبب التداخل الكبير بين تهريب المخدرات الذي تدعمه إيران وتهريب الأسلحة عبر سوريا، وكلاهما يمثل تهديدات كبيرة للأردن ودول الخليج.
• إنشاء خط إمداد أمريكي جديد إلى سوريا. قد يصبح خط الإمداد الرئيسي الحالي - من إقليم "كردستان العراق" - أكثر عرضة للخطر، لذا ينبغي إنشاء خط ثانوي واختباره بين الأردن و"التنف" و"الإدارة الذاتية الديمقراطية التابعة لـ «قوات سوريا الديمقراطية» في شمال وشرق سوريا". وسيوفر هذا الخط الثانوي مرونة إضافية مع الاحتفاظ بـ "إقليم كردستان العراق" كخط إمداد رئيسي.
• تضمين حركة المرور الجوية والساحلية في نظام مراقبة جديد. في ظل نظام الأسد، كان هناك "عنوان" واضح عندما كانت السلطات الدولية بحاجة لاستخدام الموانئ والمطارات السورية لتوصيل المساعدات أو لأغراض غير عسكرية أخرى، لكن هذا أقل وضوحاً الآن. وبناءً على ذلك، يجب على الولايات المتحدة وإسرائيل إعادة النظر بعناية في كيفية مراقبة وتقييد الجسور الجوية والبحرية التي تستخدمها إيران إلى سوريا ولبنان. وكجزء من هذه العملية، يمكنهما تشجيع الدول العربية على ممارسة ضغط قوي على الحكومة الانتقالية في سوريا لحظر الوصول إلى المجال الجوي للرحلات الجوية الإيرانية المتجهة إلى سوريا أو لبنان.
المصدر: الموقع بوست
كلمات دلالية: ايران سوريا العراق الاسد المعارضة السورية الدولة الإسلامیة الولایات المتحدة مکافحة الإرهاب ما بعد الأسد إلى لبنان إلى سوریا فی سوریا حزب الله فی ذلک من قبل
إقرأ أيضاً:
العلويون.. القصة الغامضة لحكم سوريا
على مدار أكثر من ستين عاما تمكن العلويون الذين اتخذوا من حزب البعث تُكأة للصعود السياسي والاجتماعي والسيطرة على السلطة في سوريا، وتُعد هذه المرحلة "الأسدية" هي الحقبة الذهبية في تاريخهم السياسي الحديث في سوريا والشرق الأوسط منذ ظهورهم كطائفية دينية قبل أكثر من ألف عام، فلأول مرة لا يتمكنوا من حكم أنفسهم في مناطقهم الحصينة في أعالي الجبال الممتدة من الساحل التركي شمالا إلى سواحل اللاذقية وطرطوس جنوبًا فقط؛ إذ أنهم بسطوا هيمنتهم على كامل الأراضي السورية.
يعود نشأة طائفة العلويين أو النّصيرية إلى مؤسسها محمد بن نصير النُميري البصري، الذي وُلد في العراق في إبان القرن الثالث الهجري/ التاسع الميلادي، وقد أصبح ابن نصير جزءًا من حركة عُرفت بالغلو في القرن الثامن الميلادي في مدينة الكوفة.
ووفق عدد من المصادر التاريخية، فقد كان محمد بن نصير شخصية دينية ذات طابع غامض وجاذبية واسعة بين أتباعه خلال القرن التاسع الميلادي، ينتمي إلى قبيلة بني نمير الشيعية التي استوطنت قرب نهر الفرات في جنوب العراق، والتي كانت متحالفة مع قبيلة بني تغلب، العمود الفقري للدولة الحَمدانية الشيعية التي تأسست في حلب خلال القرن العاشر الميلادي، وقد بزغ نجم ابن نصير عندما أعلن عام 850م أنه "الباب" الذي يُولج منه للإمام الشيعي المعصوم.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2لماذا أراد صدام حسين قتل حافظ الأسد؟list 2 of 2لماذا أراد رفعت الأسد القضاء على أخيه حافظ؟end of list إعلان الفرنسيون يعتمدون على العلوييناليومـ يمثل العلويون ما يقارب 8% من السكان في سوريا، والأمر اللافت الذي يذكره كمال ديب في كتابه "تاريخ سوريا المعاصر" أن بزوغ نجم العلويين بدأ مع الاهتمام الفرنسي بهم من قبل احتلالهم الفعلي لسوريا بعامين كاملين، ففي 6 نوفمبر/تشرين الثاني 1918 وبعد خروج العثمانيين وهزيمتهم بشهر كامل، وصلت قوة فرنسية صغيرة إلى مرفأ اللاذقية، "وكان هذا الحضور الفرنسي المبكر لافتًا للنظر؛ إذ إن دخول القوات الفرنسية إلى سورية سينتظر عامين إضافيين، فكان خيار البدء باللاذقية دليلا على اهتمام الفرنسيين بالعلويين".
وعقب الاحتلال الفرنسي الفعلي للبلاد عام 1920 سعت فرنسا إلى تشكيل ما يُسمى بـ"جيش المشرق السوري" التابع لها من عامة السوريين، ولكنها واجهت حينئذ رفضا واسعا من الأغلبية السنية التي تصل ل80% من جملة السكان لأسباب متعددة، كان على رأسها الرفض الوطني للاحتلال، فضلا عن النفور من العسكرية؛ إذ كان لدى السنة ذكريات مريرة من الخدمة العسكرية حيث فقدوا أعدادا كبيرة من أبنائهم في الحرب العالمية الأولى التي دخلوها ضمن الفرق والجيوش العثمانية.
وكان للوضع الاقتصادي الجيد للسنة دوره في ابتعادهم عن الالتحاق بالجيش؛ إذ كانوا يسيطرون على التجارة والصناعة ويمتلكون الإقطاعيات، مما قلل من حاجتهم للانخراط في الجيش. وأمام هذا الرفض للأغلبية السُّنية وجد الفرنسيون أن الطائفة العلوية هي الأنسب لدعم مصالحهم الاستعمارية وترسيخ نفوذهم، لعدة أسباب مهمة؛ إذ كان العلويون يتركزون في منطقة واحدة هي شمال غرب سوريا، على عكس المسيحيين المنتشرين في مختلف أنحاء البلاد. هذا التمركز الجغرافي جعل من السهل التخطيط لتقسيم سوريا وتكوين دولة خاصة بالعلويين.
والأمر الآخر الذي شجع الفرنسيين على ذلك كان بسبب الظروف الاقتصادية الصعبة التي عانى منها العلويون، وحاجتهم للأموال حيث انضم عدد كبير منهم إلى الجيش الفرنسي، ووجدوا فيه فرصة للعمل والحصول على امتيازات مادية واجتماعية.
إعلانوالأهم من ذلك أن الفرنسيين وثقوا في العلويين واعتبروهم حلفاءهم بهدف تهميش السنة وهو الأمر الذي أكده العديد من الساسة السوريين، منهم الرئيس الأسبق أمين الحافظ في برنامج "شاهد على العصر" على قناة الجزيرة، وهو الرئيس السوري والضابط الذي شارك في انقلاب البعث مع حافظ الأسد ومحمد عمران وصلاح جديد وغيرهم في مارس/أذار 1963.
وقد قام الفرنسيون بعد احتلالهم بتقسيم سوريا إلى أربعة دول؛ واحدة في دمشق والأخرى في حلب والثالثة للدروز في الجنوب والأخيرة دولة العلويين في الساحل السوري، حيث ضمت محافظتي اللاذقية وطرطوس، ورغم هذا التقسيم، فقد فشلت الدولة العلوية الصغيرة بسبب افتقارها إلى العمق الجغرافي والاقتصادي؛ إضافة إلى الضغوط المتزايدة من القوى السنية، وعلى رأسها الكتلة الوطنية، التي طالبت بإعادة توحيد الأراضي السورية.
وعلى الرغم من هذا الفشل، قدم بعض وجهاء العلويين طلبا للفرنسيين يدعون فيه لاستمرار الفصل بين دولة العلويين وسوريا، وكان من بين الموقعين على هذا الطلب سليمان الأسد، جد الرئيس السابق حافظ الأسد، وقد كشفت فرنسا عن هذه الوثيقة في عام 2012 إبان الثورة السورية، ولا تزال الوثيقة التي تحمل هذا الطلب محفوظة في الخارجية الفرنسية تحت الرقم 3547 لسنة 1936.
والحق أن جيش المشرق الفرنسي في سوريا كان يعتمد بشكل كبير على رافد لا ينقطع من الجنود العلويين، وقد تشكلت غالبية قواته من 10 كتائب مشاة من العلويين، وعندما تم تأسيس الجيش السوري بعد جلاء الفرنسيين عام 1946، تم دمج جيش المشرق الفرنسي في الجيش الوطني الجديد، مما أدى إلى انتقال هذه النسبة الكبيرة من الضباط والجنود العلويين إلى الجيش السوري. وهكذا، تشكلت كتلة علوية قوية داخل الجيش، حيث بدت وكأنها "جيش داخل جيش".
ترقب الفرصكان حلم العلويين بعد الاستقلال وجلاء المحتل إعادة تأسيس دولة العلويين، ولكن برؤية أكثر توسعا وإحكاما، حيث خطط بعض الضباط العلويون لضم مدينة حمص ومساحات واسعة من محافظتها، لتوفير العمق الجغرافي لدولتهم، ولتحقيق ذلك كان الهدف يتمثل في تهجير السكان السنة من هذه المناطق، ليصبح العلويون هم الأغلبية السكانية، ما يمهد الطريق لتأسيس دولتهم المزعومة بقوة أكبر وهذا ما قاموا به بالفعل كما سنرى.
في ذلك الوقت كانت كتلة ضخمة من الجيش السوري في منتصف القرن العشرين متأثرة بنفوذ حزب البعث الاشتراكي والحزب السوري القومي الاجتماعي، وهو ما دفع الضباط العلويين للانتماء إلى كلا الحزبين لضمان البقاء في صف المنتصر، واتخاذه ستارة لتحقيق أهدافهم الإستراتيجية.
إعلانولكن كما يوضح باتريك سيل في كتابه "الأسد .. الصراع على الشرق الأوسط" تغيّرت المعادلة بعد مقتل العقيد عدنان المالكي عام 1955 وكان رجلا بعثيا على يد جندي علوي ينتمي للحزب السوري القومي، الأمر الذي أدى إلى اضطهاد كل من ينتمي لهذا الحزب، وهو الأمر الذي كان له أكبر الأثر في انتقال معظم الضباط العلويين إلى حزب البعث، وفي هذه المرحلة انتقلت قيادة الضباط العلويين من غسان جديد الذي قُتل عام 1957، إلى شقيقه صلاح جديد، الذي أصبح الشخصية المحورية في قيادة وتحريك هؤلاء الضباط.
خلال الفترة بين 1949 و1958، عانت سوريا من عدم الاستقرار السياسي نتيجة سلسلة من الانقلابات العسكرية المتكررة التي كان يقودها الضباط السنة ضد بعضهم البعض، وكل ضابط كان يصل إلى السلطة كان يقوم بفصل الضباط السنة المنافسين له واضطهادهم وسجنهم ونفيهم، ما فتح المجال أمام الضباط العلويين لتعزيز وجودهم، ووفق هذه التطورات تمكن هؤلاء من تقديم أنفسهم كعامل توازن يمكِّن أحد الأطراف من التغلب على الآخر، في حين أن الضباط السنة لم يعتبروا هؤلاء الضباط المنتمين إلى أقلية خطرا على منصب الرئاسة أو قيادة الجيش، مما ساعد العلويين على تعزيز نفوذهم بشكل تدريجي.
في عام 1958، ومع قيام الوحدة بين مصر وسوريا تحت مظلة الجمهورية العربية المتحدة، تم حل جميع الأحزاب السياسية وفقا لما اشترطت القاهرة، لكن الضباط العلويين تمكنوا من الحفاظ على هيكلية سرية خاصة بهم، استطاعوا من خلالها ملء الفراغ الذي تركه حزب البعث بعد حله مؤقتا، وكانت هذه الهيكلية بقيادة اللجنة العسكرية التي ترأسها صلاح جديد، وضمت شخصيات بارزة مثل حافظ الأسد، ومحمد عمران، وعبد الكريم الجندي (وهو إسماعيلي).
وبعد انفصال سوريا عن مصر عام 1961، استغلت اللجنة العسكرية الرغبة الشعبية العارمة في إعادة الوحدة إلى جانب الدعم الكبير من ضباط الجيش، لتعزيز نفوذها وإعادة تنظيم صفوفها، مما مهد الطريق لزيادة تأثيرها في الحياة السياسية والعسكرية في البلاد.
إعلان انقلاب علويوفي شهر مارس/أذار عام 1963، تمكنت اللجنة العسكرية التابعة لحزب البعث من استغلال شعار الوحدة العربية لإقناع الضباط الناصريين ومؤيدي الوحدة، وعلى رأسهم لؤي الأتاسي ومحمد الصوفي وزياد الحريري، بالتعاون لتنفيذ انقلاب عسكري بهدف إعادة الوحدة بين سوريا ومصر، وبالفعل نجح الانقلاب في إيصال هؤلاء الضباط إلى السلطة، ولكن بينما انشغل الضباط السُّنة بالمناصب الشكلية، ركز الضباط العلويون على السيطرة على مفاصل الجيش والدولة.
تم تعيين لؤي الأتاسي رئيسا للجمهورية، ومحمد الصوفي وزيرا للدفاع، وزياد الحريري رئيساً للأركان، في حين كانت اللجنة العسكرية العَلوية تعمل بذكاء لتثبيت قبضتها على المواقع الاستراتيجية؛ حيث سيطر صلاح جديد على مكتب شؤون الضباط، ما مكنه من نقل وفصل واستقطاب الضباط بما يخدم أهدافه، كما تولى حافظ الأسد قيادة القوات الجوية والمطارات، بينما تسلم محمد عمران قيادة القوات البرية، حيث عُين قائدا للواء الخامس في حمص واللواء المدرع السبعين.
وخلال فترة قصيرة لا تتجاوز أربعة أشهر، نجح الضباط العلويون في بسط نفوذهم على الجيش والدولة، وفي يوليو/تموز 1963، وبينما كان الرئيس لؤي الأتاسي يجتمع مع جمال عبد الناصر لمناقشة إعادة الوحدة، شن الضباط العلويون حملة لإقصاء الضباط الناصريين ومؤيدي الوحدة، ومن اللافت أنه قد شارك في هذه الحملة أمين الحافظ وزير الداخلية آنذاك، وهو ضابط سني، والذي تولى لاحقا منصب رئيس الجمهورية، ومع ذلك، لم يستمر أمين الحافظ طويلا في منصبه، فقد اتخذه الضباط العلويون مجرد ستار لتحقيق أهدافهم، حيث تم الإطاحة به في انقلاب عام 1966 بقيادة صلاح جديد وحافظ الأسد، حيث وضعوا نور الدين الأتاسي كواجهة لرئاسة سوريا.
الأمر الذي يلحظه الباحث ريموند هينبوش في دراسته "علوّيو سورية وحزب البعث" أن السلطة العلوية الجديدة فتحت الباب أمام عامة العلويين من النزول من جبال وقرى النصيرية في الساحل إلى المناطق السهلية، وشجّعوا على هذه الهجرة خاصة إلى وادي الغاب وسهل عكار ومناطق في حمص يقول: "تضمن الإصلاح الزراعي في ستينيات القرن العشرين الاستيلاء على أراض زراعية شاسعة من أيدي النُّخب المدينية السُّنية والمسيحية غالبًا، وإعادة توزيعها على السكّان العلويّين… واستكملت تلك الإجراءات الإستراتيجية التي وضعها حافظ الأسد لتقويض المجتمعات السُّنية العربية والكردية التي سكنت تلك المناطق وعارضت نظامه".
إعلانعلى المستوى السياسي وفي هذه المرحلة الجديدة، نجح صلاح جديد وحافظ الأسد في إقصاء زميلهم محمد عمران، أحد أعضاء اللجنة العسكرية العلوية بسبب اعتراضه على بعض الإجراءات التي اتخذوها، مما عزز من نفوذهما، وفي تلك المرحلة تولّى حافظ الأسد منصب وزير الدفاع، بينما ارتكب صلاح جديد خطأ استراتيجيا بتركه قيادة الجيش لحافظ الأسد وانشغاله بإدارة الدولة والحزب.
في خلال ثلاث سنوات من تولي حافظ الأسد منصب وزير الدفاع، تمكن مِن إحكام سيطرته الكاملة على الجيش السوري، وقد نفذ انقلابه الشخصي في عام 1970 الذي أطاح فيه بـصلاح جديد والرئيس نور الدين الأتاسي، وألقاهما في السجون، وفي عام 1971، أعلن حافظ الأسد نفسه رئيسا للجمهورية، مستهلاً مرحلة جديدة في تاريخ سوريا.
في كتابه "الصراع على السلطة في سوريا"، يوضح المؤرخ والدبلوماسي الهولندي نيقولاس فان دام أن حافظ الأسد، بعد استيلائه على السلطة في 13 نوفمبر/تشرين الثاني 1970، اعتمد بشكل كبير على مجموعة من الضباط الموالين له، الذين شغلوا مواقع إستراتيجية بارزة في القوات المسلحة، ويشير فان دام إلى أن معظم هؤلاء الضباط كانوا من الطائفة العلوية، أما الضباط المنتمون إلى طوائف دينية أخرى، ورغم توليهم مناصب عسكرية رفيعة، فقد كانت أدوارهم شكلية فقط، حيث لم يكونوا في موقع يسمح لهم بتهديد سلطة الأسد.
ويضرب فان دام أمثلة للتأكيد على هذه الفكرة؛ فاللواء ناجي جميل، وهو ضابط سني من محافظة دير الزور، ترأس سلاح الجو السوري من نوفمبر/تشرين الثاني 1970 وحتى مارس/آذار 1978. ومع ذلك، لم يكن بإمكانه استخدام سلاح الجو بفعالية في مواجهة أي تهديد عسكري ضد حافظ الأسد؛ لأن الضباط العلويين كانوا وحدهم من يسيطرون على القواعد الجوية الرئيسية في البلاد.
وهذا الأمر ينطبق على ضباط سُنة آخرين، مثل اللواء مصطفى طلاس، الذي عُين وزيراً للدفاع في مارس/آذار 1972، وكذلك اللواء يوسف شكور، وهو مسيحي من طائفة الروم الأرثوذكس، الذي تولى منصب رئيس الأركان لاحقا، فقد كانوا في مناصب مرموقة من حيث الشكل، ولكن مفاصل القوات المسلحة ووظائفها الإستراتيجية كلها بيد الضباط العلويين.
إعلانوإذا كان الأمر سار بهذه الطريقة على مستوى الضباط والقيادات العسكرية في الجيش، فإن ريموند هينبوش في دراسته السابقة يرى أن الإستراتيجية ذاتها طُبقت على مستوى الجنود وضباط الصف في الجيش أيضًا؛ صحيح أن المجتمع السني أدّى دورًا بارزًا في القوات المسلحة السورية منذ تأسيسها غير أن المجندين السنة القادمين من المناطق الريفية مثل قرى حوران والمناطق المحيطة بحمص ونهر الفُرات كانت فرصتهم أقل في الترقي المهني في الوحدات المدرّعة والقوى الجوّية ووحدات النُّخبة في الجيش السوري مثل الفرقة الرابعة سيئة السُّمعة، التي بقيت تحت سيطرة قادة علويين فضّلوا تقليديا تجنيد أفراد علويّين.
وبعد حرب 1973 وبفضل هذه الخطوات أدرك حافظ الأسد أنه بات يمكنه تحقيق سيطرة العلويين على كامل سوريا، ولكن بشرط اتباع سياسة صارمة تعتمد على القمع والقبضة الحديدية وسحق السنة وهو ما حدث في العديد من المجازر في جسر الشغور وحماة وغيرها، ورغم هذا الانتصار العلوي الضخم والإستراتيجي، اتخذ بعض العلويين الآخرين مبدأ الرفض لهذا النهج؛ مُفضلين فكرة إقامة دولة علوية مستقلة خاصة بهم، وكان من بين هؤلاء كان الوزير والأديب العلوي المعروف بدوي الجبل.
عقب وفاة حافظ الأسد عام 2000، استمرت هيمنة العلويين على السلطة بارتقاء الابن بشار الأسد في عملية توريث حكم الجمهورية، ويلحظ ريموند هينبوش إلى أن الثورة السورية التي انطلقت في عام 2011 وانشقاق العديد من الضباط السُّنة رفيعي المستوى وانضمامهم للجيش السوري الحر مثل عبد الرزاق طلاس، ومناف طلاس الذي فر هاربًا بعد عجزه عن إخماد المعارضة في مدينة الرستن بحمص، جعل نظام بشار الأسد يُبقي الكتائب ذات الأغلبية السُّنية داخل ثكناتها لشكّه في ولائها، رغم إدراكه استنزاف احتياطي الجنود العلويين، لهذا السبب كان بطيئًا في مكافحة الثورة، وعانى صعوبة كبيرة في استعادة السيطرة على المناطق التي استولت عليها المعارضة.
ومنذ عام 2012 سرّع النظام من تجنيد علويي الساحل، واستدعى تقريبا كل الذكور الذين تترواح أعمارهم بين 20 و 40 سنة للخدمة العسكرية والقتال في محاولاته تدارك عدم التوازن المجتمعي داخل قوات الأمن، وتعويض الخسائر التي تكبدها الجيش، وقد تقبّل العلويون هذا الانضمام للقتال بكثافة وسرعة أكبر مقارنة بالسنة والدروز والمسيحيين كما يقول هينبوش.
إعلانوفي 8 ديسمبر/كانون الثاني 2024 انهار حكم عائلة الأسد، وقد حمل في ثناياه انهيارا واضحًا للسيطرة العلوية على السلطة في سوريا التي استمرت قرابة الستين عاما، وهي قصة لافتة رأينا فصولها وأحوالها التي بدأت بدعم من المحتل الفرنسي، واستغلال من الضباط العلويين لكثرة الانقلابات العسكرية التي قادها الضباط السنة وصراعهم على السلطة في البلاد، ليستأثروا وينفردوا بالمشهد.