تجربة الحركات الإسلامية في تركيا تجربة غنية ومُعقدة كونها نشأت في بيئة مُعقدة - ذات نظام علماني مُنتحل من النظام والفكر العلماني الفرنسي الشهير بالفصل الجذري بين الدين والدولة - بالمقارنة بدول أخرى مثل مصر أو ماليزيا. الحركات الإسلامية في تركيا وبسبب تجربتها في الحُكم تبنت إيجاد خيارات وبدائل براغماتية تتناسب مع البيئة الداخلية التي وجدت فيها والبيئة الدولية والتي هي جزء منها.



لعل من أهم الأسماء المؤثرة جدا في التجربة السياسية ذات التوجه الإسلامي في تركيا هو نجم الدين أربكان (1926 ـ 2011). فالرجل كان يقود حزب الرفاه التركي الإسلامي كما أنه تولى رئاسة الوزراء في عام 1996 ولمدة تقارب من العشر سنوات. لقد كان توجه أربكان والمُلقب بـ "المعلم" ذو توجه إسلامي يمزج بين الدين والسياسية بشكل صريح. وهذا ما كلفه في النهاية منصبه السياسي عندما أُجبر على التنحي من رئاسة الوزراء، بل ومُنع من مُزاولة السياسة وذلك وفقا لقرار من المحكمة الدستورية التركية، بذريعة انتهاك الفصل بين الدين والدولة كما ينص الدُستور التركي.

لم يكن الحظر فقط ضد مؤسسة الحزب، بل أن حزب الرفاه أيضا تم حظره في تركيا في عام 1998 وذلك بتهمة انتهاك المبادئ العلمانية والدستور التركي. بطبيعة الحال هناك أحزاب إسلامية أخرى تم حظرها مثل حزب الفضيلة وهو حزب سياسي إسلامي تم حظره عام 2001 بذريعة انتهاك مبادئ العلمانية أيضا. 

هل فشلت التجربة الإسلامية في تركيا؟

السؤال هنا، هل فشلت التجربة الإسلامية في السياق التركي؟ كونها لم تنجح في تحقيق أهدافها؟ لعل البعض يقول نعم فشلت. وذلك بسبب عدم قدرتها على القيام بما تشترك به الحركات الإسلامية، كأسلمة المُجتمع وتطبيق الشريعة كما ذكرناها في المقال السابق. لكن لعل البعض يقول، أن حزب العدالة والتنمية في تركيا خرج من رحم حزب الرفاه، وتعلم الحزب الجديد من تعقيدات السلطة والبيئة الدولية. لذا، فقد خرج حزب العدالة والتنمية من عباءة الإسلامية كحزب جديد.

حزب العدالة والتنمية التركي كحزب ما بعد الإسلاموية، طور استراتيجياته السياسية واستخدم الديمقراطية واللغة الليبرالية ضمن لغته الخطابية لكي يتمكن من بناء تحالفات سياسية داخلية وخارجية.بطبيعة الحال يمكن أن يُصنف حزب العدالة والتنمية كحزب من أحزاب ما بعد الإسلاموية. والدليل أن هذا الحزب الحاكم لمدة تزيد على العقدين  لا يسعى لتطبيق أسس الحركات الإسلامية كتطبيق الشريعة الإسلامية، ولا يسعى إلى أسلمة المجتمع ولا يحاول دمج الدين بالسياسة.

حزب العدالة والتنمية التركي كحزب ما بعد الإسلاموية، طور استراتيجياته السياسية واستخدم الديمقراطية واللغة الليبرالية ضمن لغته الخطابية لكي يتمكن من بناء تحالفات سياسية داخلية وخارجية. فعلى سبيل المثال لا الحصر، الإسلاميين كحزب الرفاه أو الفضيلة كانوا يعتبرون أن الغرب وأوروبا هي العدو الأبدي، أما حزب العدالة والتنمية لا يعتبر الغرب أو أوروبا عدو، بل ينظر لهم كحليف تجاري وسياسي وحتى عسكري، وهذا واضح من خلال السعي الحثيث للحزب بأن تكون تركيا عضوا في الإتحاد الأوروبي.

إعادة النظر في العلاقة مع الغرب والتقرب من أوروبا والسعي أن تكون تركيا جزء من الإتحاد الأوروبي مَكّن من قوة ونفوذ حزب العدالة والتنمية في مواجهة الكماليين والعلمانيين على حد السواء.

وبالتالي، برز الغرب والاتحاد الأوروبي كحليف في الفكر والممارسة السياسية لحزب العدالة والتنمية وذلك لأجل تقليص نفوذ المؤسسة العسكرية وإقامة حكم ديمقراطي يعتبر الحزب نفسه لاعباً أساسياً ومحورياً وشرعياً به.

يشار أن الانخراط في اشتباك طويل وقديم مع العلمانيين وخصوصا الذين يحاولون تطبيق العلمانية الفرنسية دفع حزب العدالة والتنمية التركي إلى إعادة النظر والتفكير في العلمانية والديمقراطية والتعددية. لذا، بحث الحزب عن بدائل ليست في مبادئ الإسلام، بل من المؤسسات السياسية الحديثة وذلك لكي يبقي على القواعد المشتركة مع العلمانيين.

في لغة الحركات ما بعد الإسلاموية تضمحِل المصطلحات الدينية بشكل واضح ويحل محلها إرادة الشعب كون الشعب هو مصدر السلطة. هذا ينطبق أيضا على حزب العدالة والتنمية التركي والذي يُمارس السياسة باسم الشعب ولأجل الشعب. الحزب يعتمد على الشعب من أجل الوصول إلى السلطة ويكون المقابل هو تقديم الخدمات الاجتماعية والصحية والتعليمية وبناء الطرق والتطوير. 

لذا، يمكن القول، أن حزب العدالة والتنمية أعاد النظر في مفهوم التحالفات وحتى المفردات الإسلامية القديمة وذلك بهدف تخطي مأزق الإسلاميين الأوائل ولكي لا يقع في نفس الإشكال الذي وقع فيه الإسلاميون القدامى وخصوصا نجم الدين أربكان وحزبه.

حزب العدالة.. نموذج ناجح للانتقال لما بعد الإسلاموية

يُعد حزب العدالة والتنمية التركي من بين أهم الحركات التي تُصنّف ما بعد الإسلاموية نجاحا، وذلك لوصوله السلطة وقدرة البقاء بها لأكثر من عقدين من الزمن. هذا النجاح لم تستطع حركات أخرى تحقيقه مثل حركة النهضة التونسية أو حزب الحرية والعدالة المصري. حيث استطاع حزب العدالة والتنمية التركي العمل ضمن قواعد اللعبة الديمقراطية والوصول إلى السلطة والبقاء بها لهذه الفترة وذلك عبر صناديق الاقتراع.

لعل البعض يقول، أن مما جعل هذا الحزب فريداً ومميزاً كحركة ما بعد الإسلاموية هو تجربته في دمج الماضي الإسلامي كهوية مع برنامج سياسي ديمقراطي وليبرالي.

علينا أن نتذكر أنه العلمانية في كثير من البلاد المُسلمة حرمَت الإسلاميين من المشاركة في السلطة وحاولت إقصائهم خارج العملية السياسية وصناعة القرار. حزب العدالة والتنمية استطاع بشكل واضح التغلب على هذه العقبة والموجودة بشكل واضح بالحالة التركية.

تُبين لنا الحالة التركية أن تحول الحركات الاسلامية إلى ما بعد الإسلاموية أدى إلى تمكين وتقوية ونفوذ المُسلمين سياسيا واجتماعيا واقتصاديا. بناءً على هذه الحالة يمكن أن نقول أن هذا الانتقال لم يشير إلى فشل مشروع الإسلاميين، بل أن هذا الانتقال أتاح لأن يُظهر الإسلاميين أنهم يستطيعون الاستجابة للتحديات و للتعقيدات الداخلية - العلمانية في السياق التركي والأزمات الخارجية.

في لغة الحركات ما بعد الإسلاموية تضمحِل المصطلحات الدينية بشكل واضح ويحل محلها إرادة الشعب كون الشعب هو مصدر السلطة. هذا ينطبق أيضا على حزب العدالة والتنمية التركي والذي يُمارس السياسة باسم الشعب ولأجل الشعب. الحزب يعتمد على الشعب من أجل الوصول إلى السلطة ويكون المقابل هو تقديم الخدمات الاجتماعية والصحية والتعليمية وبناء الطرق والتطوير.من يقول إن الحركات الإسلامية تحولت إلى حركات ما بعد الإسلاموية، وذلك كمناورة سياسية وكتمويه سياسي للوصول إلى السلطة ومن ثم سوف تعود وتصبح إسلامية، فإن التجربة التركية وبشكل واضح تؤكد عدم صحة هذا الرأي.

في المقابل، حزب العدالة والتنمية تخلى عن الفكر الإسلامي بشكل كامل في قاموسه السياسي، وانفتح على العالم كحركة سياسية جماهيرية ذات نظرة يمينية وسطية محافظة. هذا التحول لم يضمن مشاركة الاسلاميين فقط بالسلطة، بل أدى لبقائهم بالسلطة.

على صعيد العولمة والموقف منها، ينظر الإسلاميين عادة إلى العولمة كتهديد للهوية الإسلامية وكنوع من الهيمنة والسيطرة الغربية على المجتمعات الُمسلمة، وبالتالي فهم يرفضون العولمة والرأسمالية كأداة للهيمنة والسيطرة الغربية. على عكس موقف الإسلاموية فإن حزب العدالة والتنمية لعب ضمن القواعد الرأسمالية والليبرالية ولم يحاول مناهضتها لا نظريا ولا عمليا.

في القاموس الجديد استخدم حزب العدالة والتنمية لغة الديمقراطية، وحقوق الإنسان، والعولمة، والاقتصاد الحر، وذلك لحماية نفسه من العلمانيين وبنفس الوقت حصل الحزب على الشرعية لوجوده من خلال الديمقراطية. هذه الشرعية التي حصل عليها الحزب من خلال الانتخابات ضمنت له القوة في مواجهة القوى العلمانية في مؤسسات الدولة.

في النهاية يمكن القول، لقد انتهت إلى حد كبير الخيالات الفكرية والسياسية الإسلامية التي سادت في ثمانينيات القرن العشرين في تركيا حول أسلمة الدولة والمجتمع، وتطبيق الشريعة، وتأسيس دولة تدمج السياسي والديني وتقييم دولة على أسس الفكرة الشمولية للإسلام كدين ودولة وكنظام شامل لكل نواحي الحياة.

*أستاذ مساعد في قسم العلوم السياسية والعلاقات الدولية في اسطنبول صباح الدين زعيم.

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي أفكار كتب تقارير تجربة تركيا تركيا اسلاميون تجربة أطروحات سياسة سياسة أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة حزب العدالة والتنمیة الترکی الحرکات الإسلامیة الإسلامیة فی حزب الرفاه إلى السلطة بشکل واضح فی ترکیا

إقرأ أيضاً:

"العدالة والتنمية" يثير الجدل حول مقترح بتعديلات على قوانين الأسرة في المغرب

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق

أثار عبدالإله بنكيران الأمين العام لحزب العدالة والتنمية، الذراع السياسية لجماعة الإخوان بالمغرب، جدلا في الأوساط المغربية بسبب تعليقاته المتكررة على التعديلات المقترحة من الحكومة المغربية على مدونة الأسرة التشريعية، حيث أبدى رفضه لتطبيق الفتوى المعروفة بـ"الكد والسعاية" من خلال القانون المغربي لحفظ حقوق الزوجة المالية.

واعتبر المراقبون أن اعتراض بنكيران على تعديلات مدونة الأسرة يمثل نوعا من العداء الصارخ لحقوق المرأة وللأعراف الأمازيغية المقدرة من الدولة المغربية.

ويشير المقترح الحكومي بضرورة "تدبير الأموال المكتسبة أثناء العلاقة الزوجية، مع تثمين عمل الزوجة داخل المنزل واعتباره مساهمة في تنمية الأموال المكتسَبة خلال قيام العلاقة الزوجية" وفقا لوسائل إعلام مغربية محلية. 
ووفقا للمقترح الحكومي من حق المرأة أن تحصل على جزء من ثروة زوجها التي جمعها أثناء العلاقة الزوجية، في الإشارة لدورها في الالتزام بعمل المنزل وإتاحة الفرصة المناسبة لتنمية ثروة الزوج.

وفي الوقت الذي تلاقي فيه مثل هذه المقترحات ترحيبا في الأوساط المغربية المختلفة، فإن حزب العدالة والتنمية يقف معترضًا على مثل هذه التطورات الاجتماعية.

وفي تصريحات له عبر فيديو على الصفحة الرسمية للحزب، طالب "بنكيران" بضرورة إلغاء هذا المقترح وإزالته، معتبرا أن "العلاقة بين الزوجين مبنية على المكارمة، وأن اللقمة حين يضعها الزوج في فم زوجته تعتبر له صدقة" متسائلا: كيف نحتسب 40 سنة من العمل المنزلي؟ مضيفا أن هذا منكر وأن "عمل المرأة المنزلي لا يملك أن يأجرها عليه إلا الله".

ويستغل الحزب الإخواني حالة اللغط الدائرة حول التعديلات المقترحة نظرا لجرأتها، أولها إدراج شرط خاص بمنع تعدد الزوجات في عقد الزواج، وتقييد الزواج بحالات مثل إصابة الزوجة بمرض يمنع المعاشرة الزوجية أو إصابتها بالعقم، وعدم إسقاط حضانة الأم المطلقة حتى لو تزوجت، وإضافة النيابة الشرعية على الأبناء وتدبير شئونهم الإدارية والتعليمية بالاشتراك بين الأب والأم، وإخراج بيت الزوجية من التركة لضمان الحفاظ على مسكن الأرملة خوفا من طردها بعد وفاة زوجها، وتعويض المرأة حال طلاقها بنصيب من ثروة زوجها لكونها انشغلت في تدبير الأعمال المنزلية وشئون الزوج وأتاحت له الفرصة لتنمية ثروته، وهي فتوى فقهية تعرف باسم "حق الكد والسعاية".

وسط هذه المقترحات التي أثارت الجدل بداية من التعديلات وصولا للغة وزير العدل المغربي الذي اقترح أيضا تغيير المصطلحات الفقهية القديمة التي وصلت للتشريعات والقوانيين لتصبح متلائمة مع لغة العصر ضاربا المثل بكلمة "المتعة".

كل هذه التغيرات الجريئة المطروحة لمدونة الأسرة المغربية أعطت مساحة كافية لاستغلال حزب العدالة والتنمية كي يستثير عاطفة المغربيين الدينية لرفض هذه التعديلات، وفي السياق ذاته قال أمين الحزب عبدالإله بنكيران في إشارة لرفضه المقترحات المقدمة من الحكومة: "إنه حين جاء الاستعمار لبلادنا مس كل شيء إلا الأحوال الشخصية والأوقاف"، في إشارة من بنكيران إلى أن تصرفات الحكومة الحالية في نظره تفوق ممارسات الاستعمار لأنها فكرت إدخال تعديلات من شأنها أن تنصف المرأة في المجتمع المغربي.

وطالب بنكيران بأن تأتي الصياغة القانونية لهذه التعديلات بصورة وجيهة وصائبة، مشددا أن حزبه سيقف في وجه كل صياغة غير مناسبة، بكل السبل القانونية والمشروعة.

مقالات مشابهة

  • باحث في شؤون الحركات الإسلامية يكشف سبب كره الإخوان للدولة المصرية
  • عودة الرحلات التركية إلى بنغازي.. خطوة لتعزيز التعاون الليبي التركي
  • "العدالة والتنمية" يثير الجدل حول مقترح بتعديلات على قوانين الأسرة في المغرب
  • تعزيز العلاقات الليبية التركية: لقاءات بين السفير التركي ومسؤولي مجلس النواب والقيادة العامة
  • العدالة والتنمية: ولاية أردوغان الجديدة على جدول أعمالنا
  • السفير التركي يعلن عودة الرحلات الجوية التركية المباشرة إلى بنغازي
  • باحث بشؤون الحركات الإسلامية: أحداث سوريا أعطت التنظيمات المتطرفة دفعة معنوية
  • أمبن العدالة والتنمية في ديار بكر يشبه أردوغان بـ “النبي نوح”
  • خبير في شؤون الحركات الإسلامية: 30 يونيو انتصار ضد التنظيمات المتطرفة
  • باحث في شؤون الحركات الإسلامية: الإخوان منقسمون.. والشعب وعى الدرس جيدا