إبراهيم برسي

دائمًا ما كنت أعتقد أن صراع الرؤى هو مرآة للهوية المنقسمة بين الظلال والنور أو أنه رحلة استثنائية يأخذنا فرانسيس دينق نحو قلب الهوية السودانية، تلك الهوية التي تقف على حافة التمزق بين ظلال الماضي الثقيل ونور المستقبل المرتقب.
إنه كتاب لا يقتصر على كونه دراسة أكاديمية عن الصراع بين الشمال والجنوب، بل هو عمل فلسفي إنساني يستنطق الروح السودانية، محاولًا كشف الطبقات التي تغطيها وتشوهها، بحثًا عن نواة النقاء الأولى.



دينق لم يكتب عن السياسة بمعناها المباشر، بل كتب عن الإنسان بوصفه ساحة المعركة الحقيقية. فـ”الرؤية”، كما يقدمها الكتاب، ليست مجرد تصور فكري أو ثقافي، بل هي انعكاس للروح الجماعية، تلك التي تقف في مواجهة مصيرها بانقسام عميق بين الولاء للتاريخ السوداني الإفريقي والتمسك بأسطورة الانتماء العربي.

دينق يكتب عن الهوية وكأنها كائن حي، يتنفس، يعاني، ويموت. الهوية السودانية ليست ثابتة، بل هي كائن في حالة صراع دائم، تتصارع فيه القوى الثقافية والدينية والسياسية.
في كل صفحة من الكتاب، نجد أنفسنا أمام مرآة تعكس ذلك الصراع بين ما نحن عليه وما نريد أن نكون.
أما الجنوب في سرده، فهو ليس مجرد جغرافيا، بل هو رمز للذات المكبوتة التي تُقصى قسرًا من الحكاية الوطنية. الشمال، في المقابل، هو الذات المهيمنة التي تكتب الرواية وفق شروطها، مما يعمق شعور التهميش والاغتراب في الذات الجنوبية.

ربما أعظم ما قدمه الكتاب هو تفكيك الاغتراب السوداني بوصفه تجربة وجودية.
السوداني، كما يصوره دينق، هو شخص يعيش في جسد لا يتصالح مع روحه.
الهوية ليست مكانًا آمنًا بل هي ساحة حرب، وكل فرد فيها هو “شريك متشاكس” يحاول التوفيق بين جذور لا يعترف بها وواقع يرفضه. إنه صراع أوديب الذي يبحث عن الأب الحقيقي لكنه يخشى مواجهته، وعنترة الذي يمزق صورته في المرأة لكنه لا يستطيع التخلي عنها.

لغة دينق ليست وصفية فقط، بل هي حوارية تفتح أفقًا للقارئ للتأمل.
الكتاب يبدو وكأنه لا يريد أن يقدم إجابات بقدر ما يريد أن يثير الأسئلة. اللغة هنا ليست وسيلة بل غاية في ذاتها، فهي تعكس تعقيد الصراع من خلال تراكيبها الغنية التي تمزج بين السرد الأكاديمي والحميمية الأدبية.

في النهاية، يدعو الكتاب إلى التصالح مع الذات السودانية كخطوة أولى نحو التصالح مع الآخر.
الحل الذي يقدمه دينق ليس سياسيًا فحسب، بل هو روحي أيضًا. إنه يدعو السودانيين إلى تبني “رؤية جديدة” ترى في الاختلاف قوة، وفي التنوع ثراءً، وفي الماضي درسًا لا قيدًا.
وعلى الرغم من أن الكتاب يظل يعالج قضايا هوية السودان في إطار ثقافي وجغرافي، إلا أن فكرته الأساسية تتجاوز حدود الواقع السوداني وتفتح الأفق لقراءة أعمق حول التصالح مع الذات ومع الآخر في سياقات مختلفة.

“صراع الرؤى” ليس مجرد كتاب عن السودان، بل هو نص إنساني عالمي يتجاوز حدوده الجغرافية ليخاطب كل هوية تواجه صراعًا داخليًا. إنه لوحة أدبية فلسفية مرسومة بكلمات دينق، كل كلمة فيها هي لون، وكل جملة هي ضوء وظل، تضيء لنا طريقًا نحو فهم أعمق للذات، وللآخر، وللحياة ذاتها.

zoolsaay@yahoo.com  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: صراع ا

إقرأ أيضاً:

فلكية جدة ترصد التباين الفلكي بين نصفي الكُرة الأرضية في ليالي مايو

جدة

تعيش الأرض في هذا الوقت من السنة, تباينًا فلكيًا بين نصفي الكرة الأرضية، ففي نصفها الشمالي تصبح الليالي أكثر دفئًا لكنها تتطلب البقاء مستيقظًا لفترات أطول لمراقبة السماء، مما يجعل من شهر مايو فرصة لمشاهدة مجموعة من الأجرام السماوية اللافتة, ومع اختفاء كوكبة الجبّار تبدأ كوكبات الصيف الباهرة في الظهور شيئًا فشيئًا.

وأفاد رئيس الجمعية الفلكية بجدة المهندس ماجد أبو زاهرة أنه في أعلى الأفق الغربي يظهر كوكب المريخ بلون برتقالي خافت إلى جانب كوكبة التوأمان, ويستمر في انتقاله نحو كوكبة الأسد مرورًا بالسرطان, وقد ابتعد المريخ كثيرًا عن الأرض حتى تجاوزت المسافة بينهما 225 مليون كيلومتر، مما يجعل رؤيته بالتفاصيل شبه مستحيلة عبر التلسكوب, ليبدو فقط كنقطة حمراء صغيرة، إلا أن اقترانه بالقمر في الثالث من مايو, ومروره عبر عنقود خلية النحل “النثرة” النجمي خلال الأيام التالية يقدمان عرضًا رائعًا.

وأشار إلى أن كوكبة الأسد تحتل الأفق الجنوبي الغربي, وتتميز بشكلها المميز الذي يشبه علامة استفهام مقلوبة، ويتوسطها نجم قلب الأسد اللامع، وفي نصف الكرة الجنوبي تظهر الكوكبة مقلوبة أثناء عبورها السماء من الشرق إلى الغرب، في حين تظهر مجموعة نجوم المغرفة الكبرى مقلوبة في الأفق الشمالي من النصف الشمالي, وتُعد هذه النجوم من كوكبة الدب الأكبر, ويُمكن باستخدام الامتداد لمقبض المغرفة تحديد موقع النجم العملاق “الساطع”, ألمع نجوم كوكبة الراعي التي تهيمن على السماء الشرقية.

وقال: “إلى الجنوب الشرقي من كوكبة الراعي, تظهر كوكبة العذراء التي تتضمن نجم السماك الأعزل كألمع نجومها, وتضم الكوكبة مجموعة العذراء من المجرات على بُعد يزيد عن 50 مليون سنة ضوئية, ومن ضمنها المجرة الضخمة 87 التي كشفت صورها الأولى عن قرص الغبار الساخن المحيط بثقبها الأسود المركزي، وتحت قدمي العذراء توجد كوكبة الميزان التي تشهد في الثاني من مايو, مرور الكويكب “فيستا” في أقرب نقطة له إلى الأرض، حيث يُمكن رؤيته بسهولة باستخدام المناظير وسيواصل الكويكب تحركه السريع خلال الشهر، ويمكن متابعته لعدة ليالٍ متتالية”.

ويحل القمر في طور البدر المكتمل في الثاني عشر من مايو، ورغم جماله إلا أن ضوئه الساطع يخفي الكثير من الأجرام السماوية الخافتة، لذلك يُعد النصف الثاني من الشهر فرصة مثالية لرصد أعماق السماء.

وأضاف رئيس الجمعية الفلكية بجدة: أن من أبرز الظواهر المنتظرة في هذا الشهر, زخات شهب الدلويات التي تبلغ ذروتها بين الخامس والثامن من الشهر، وتُعد هذه الزخات من بقايا مُذنب هالي، وفي النصف الجنوبي من الأرض يُمكن مشاهدة مما يصل إلى 40 شهابًا في الساعة في المناطق المظلمة, أما في ساعات الفجر فستتاح الفرصة لرؤية كوكبي الزهرة وزحل في الأفق الشرقي، حيث يظهران قريبين من بعضهما في بداية الشهر, ثم يفترقان لاحقًا, وسيمر هلال القمر بين الكوكبين في 22 و 23 و 24 من مايو في مشهد فلكي بديع يستحق المشاهدة والرصد.

مقالات مشابهة

  • عاصفة زاكورة تكشف غياب الحزم والصرامة في منع زراعة “الدلاح” التي تستنزف الفرشة المائية
  • وزير العدل يؤكد مواصلة ملاحقة كل الدول التي اجرمت في حق الشعب السوداني
  • “شارع المتنبي” في “أبوظبي للكتاب” يحيي روح بغداد الثقافية
  • “أبوظبي للتراث” تثري أمسيات معرض الكتاب بمشاركات نوعية
  • فلكية جدة ترصد التباين الفلكي بين نصفي الكُرة الأرضية في ليالي مايو
  • «رئيس الرؤى السلوكية»: الإمارات رائدة عالمياً في التفكير السلوكي
  • ديباك شوبرا: الذكاء الاصطناعي أداة لاكتشاف الذات
  • “مجمع الملك سلمان العالمي” يختتم مؤتمر “اللغة العربية وتعزيز الهوية الوطنية السعودية”
  • مصدر حكومي: السوداني “يدرس” إلغاء موازنة 2025 بسبب العجز المالي الكبير
  • البابا ترامب الأول | الرئيس الأمريكي يبدي رغبته في خلافة الراحل فرانسيس