“لغة الأفق والاغتراب: الديناميكيات الثقافية في صراع الرؤى” للدكتور فرانسيس دينق
تاريخ النشر: 14th, December 2024 GMT
إبراهيم برسي
دائمًا ما كنت أعتقد أن صراع الرؤى هو مرآة للهوية المنقسمة بين الظلال والنور أو أنه رحلة استثنائية يأخذنا فرانسيس دينق نحو قلب الهوية السودانية، تلك الهوية التي تقف على حافة التمزق بين ظلال الماضي الثقيل ونور المستقبل المرتقب.
إنه كتاب لا يقتصر على كونه دراسة أكاديمية عن الصراع بين الشمال والجنوب، بل هو عمل فلسفي إنساني يستنطق الروح السودانية، محاولًا كشف الطبقات التي تغطيها وتشوهها، بحثًا عن نواة النقاء الأولى.
دينق لم يكتب عن السياسة بمعناها المباشر، بل كتب عن الإنسان بوصفه ساحة المعركة الحقيقية. فـ”الرؤية”، كما يقدمها الكتاب، ليست مجرد تصور فكري أو ثقافي، بل هي انعكاس للروح الجماعية، تلك التي تقف في مواجهة مصيرها بانقسام عميق بين الولاء للتاريخ السوداني الإفريقي والتمسك بأسطورة الانتماء العربي.
دينق يكتب عن الهوية وكأنها كائن حي، يتنفس، يعاني، ويموت. الهوية السودانية ليست ثابتة، بل هي كائن في حالة صراع دائم، تتصارع فيه القوى الثقافية والدينية والسياسية.
في كل صفحة من الكتاب، نجد أنفسنا أمام مرآة تعكس ذلك الصراع بين ما نحن عليه وما نريد أن نكون.
أما الجنوب في سرده، فهو ليس مجرد جغرافيا، بل هو رمز للذات المكبوتة التي تُقصى قسرًا من الحكاية الوطنية. الشمال، في المقابل، هو الذات المهيمنة التي تكتب الرواية وفق شروطها، مما يعمق شعور التهميش والاغتراب في الذات الجنوبية.
ربما أعظم ما قدمه الكتاب هو تفكيك الاغتراب السوداني بوصفه تجربة وجودية.
السوداني، كما يصوره دينق، هو شخص يعيش في جسد لا يتصالح مع روحه.
الهوية ليست مكانًا آمنًا بل هي ساحة حرب، وكل فرد فيها هو “شريك متشاكس” يحاول التوفيق بين جذور لا يعترف بها وواقع يرفضه. إنه صراع أوديب الذي يبحث عن الأب الحقيقي لكنه يخشى مواجهته، وعنترة الذي يمزق صورته في المرأة لكنه لا يستطيع التخلي عنها.
لغة دينق ليست وصفية فقط، بل هي حوارية تفتح أفقًا للقارئ للتأمل.
الكتاب يبدو وكأنه لا يريد أن يقدم إجابات بقدر ما يريد أن يثير الأسئلة. اللغة هنا ليست وسيلة بل غاية في ذاتها، فهي تعكس تعقيد الصراع من خلال تراكيبها الغنية التي تمزج بين السرد الأكاديمي والحميمية الأدبية.
في النهاية، يدعو الكتاب إلى التصالح مع الذات السودانية كخطوة أولى نحو التصالح مع الآخر.
الحل الذي يقدمه دينق ليس سياسيًا فحسب، بل هو روحي أيضًا. إنه يدعو السودانيين إلى تبني “رؤية جديدة” ترى في الاختلاف قوة، وفي التنوع ثراءً، وفي الماضي درسًا لا قيدًا.
وعلى الرغم من أن الكتاب يظل يعالج قضايا هوية السودان في إطار ثقافي وجغرافي، إلا أن فكرته الأساسية تتجاوز حدود الواقع السوداني وتفتح الأفق لقراءة أعمق حول التصالح مع الذات ومع الآخر في سياقات مختلفة.
“صراع الرؤى” ليس مجرد كتاب عن السودان، بل هو نص إنساني عالمي يتجاوز حدوده الجغرافية ليخاطب كل هوية تواجه صراعًا داخليًا. إنه لوحة أدبية فلسفية مرسومة بكلمات دينق، كل كلمة فيها هي لون، وكل جملة هي ضوء وظل، تضيء لنا طريقًا نحو فهم أعمق للذات، وللآخر، وللحياة ذاتها.
zoolsaay@yahoo.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: صراع ا
إقرأ أيضاً:
النرجسية في الفن السوداني: عندما يتحول السعي للتميز إلى صراع مرير
النرجسية في الفن السوداني: عندما يتحول السعي للتميز إلى صراع مرير.
راني السماني – يناير 2025
مقال رقم (4)
مقدمة:
الفن السوداني بين الإبداع والصراعات النفسية.
الفن السوداني ليس مجرد تعبير عن الجمال، بل هو انعكاس لهوية ثقافية واجتماعية عريقة.
من الموسيقى إلى الأدب، ومن المسرح إلى الفن التشكيلي، استطاع الفنان السوداني أن يشق طريقه ليصبح رمزاً للتنوع والإبداع.
ومع ذلك، فإن البيئة الإبداعية ليست دائماً متزنة، حيث تظهر تحديات عدة تؤثر على الإنتاجية والعلاقات المهنية بين الفنانين، ومن أبرز هذه التحديات هي النرجسية.
في هذا المقال، سنتناول تأثير النرجسية على الوسط الفني السوداني، وكيف يمكن توجيهها من صفة تهدد التماسك إلى عامل يساهم في بناء مجتمع فني أقوى وأكثر تعاوناً.
*النرجسية:*
تعريفها وتأثيرها.
النرجسية، كمفهوم نفسي، تشير إلى حالة من التركيز المفرط على الذات والشعور بالعظمة.
يعود أصل الكلمة إلى الأسطورة الإغريقية عن “نارسيس”، الذي وقع في حب صورته المنعكسة في الماء. هذه الصفة يمكن أن تظهر بأشكال متعددة، منها:
1- *النرجسية الطبيعية:*
• وهي صفة إيجابية تُعزز الثقة بالنفس وتدفع نحو التميز، لكنها تبقى في إطار التوازن.
2- *اضطراب الشخصية النرجسية (NPD):*
• وهي حالة نفسية معقدة تُعرَّف بالشعور المبالغ فيه بالاستحقاق، ونقص التعاطف مع الآخرين، والحاجة المستمرة للإعجاب.
*خصائص النرجسية:*
• شعور مبالغ فيه بأهمية الذات.
• الحاجة المستمرة للإطراء.
• صعوبة في تقبل النقد.
• قلة التعاطف مع الآخرين.
في بيئات العمل الفني، قد تتحول النرجسية من حافز للنمو إلى مصدر للصراعات التي تهدد الإنتاجية والعلاقات المهنية.
*الفن السوداني بين التنافس الصحي والأنانية المدمرة:*
الفن السوداني، بموروثه الثقافي العريق، يواجه تحديات لا تنحصر في النقص المؤسسي أو الاقتصادي، بل تمتد إلى قضايا شخصية مثل النرجسية.
بالرغم أن الوسط الفني السوداني مليء بالأمثلة على التعاون الناجح، حيث أنتج الكثير من الفنانين أعمالاً خالدة ألهمت أجيالاً، علي سبيل المثال، أعمال سرور وكرومة لهم الرحمة والمغفرة.
هناك أيضاً أمثلة على كيف يمكن للنرجسية أن تُفسد العلاقات وتُضعف الإنتاج في وسطٍ فني يُفترض أن يقوم على التعاون والعمل الجماعي.
*تساؤل استقصائي:*
في هذا السياق، لا بد أن نتساءل:
ماذا جرى لمجموعة عقد الجلاد؟
هل كانت الخلافات التي تناولتها الصحف حينها انعكاساً لنرجسية البعض، أم أنها خلافات طبيعية في إطار العمل الجماعي؟
*صراع بين البناء والهدم:*
في عالم الفن، يُعتبر التنافس مصدر إلهام للإبداع، حيث يسعى الفنانون للتميز وتقديم أعمال تترك أثراً خالداً في ذاكرة الجمهور.
لكن عندما تتحول النرجسية المفرطة إلى جزء من المعادلة، ينقلب التنافس من كونه محفزاً للإبداع إلى ساحة للصراعات الشخصية، والسيطرة المطلقة، أو إقصاء الآخرين، مما يُلحق ضرراً بالغاً بالعمل الفني ككل.
على سبيل المثال، قد يُلاحظ في بعض الحفلات أن أحد العازفين يعمد إلى رفع صوت آلته الموسيقية بشكل مبالغ فيه، ليطغى على أصوات الآلات الأخرى، سعياً لإبراز مهارته الشخصية.
مثل هذا التصرف يعكس شكلاً من النرجسية الفنية التي قد تُخل بالتوازن العام للأداء الجماعي، وتؤثر سلباً على التجانس الفني، مما يُضعف تأثير العمل الفني وجاذبيته لدى الجمهور.
أو أحياناً، في حالة الأعمال الغنائية أو الشعرية الجماعية، عندما يُخصص لكل فنان فاصل معين، قد يتعمد أحد الفنانين تجاوز الزمن المخصص له لتقديم المزيد من الأعمال، متذرعاً بتفاعل الجمهور أو طلبهم. مثل هذه التصرفات تؤدي إلى فوضى في التنظيم وتُضعف من روح التعاون بين المشاركين، مما ينعكس سلباً على جودة العرض الجماعي وتأثيره.
*كيف تؤثر النرجسية على التنافس؟*
1- *التقليل من شأن الآخرين:*
• النرجسية تجعل البعض يرى نجاح الآخرين تهديداً لمكانتهم الشخصية، مما يدفعهم للنقد غير البناء بدلاً من التعاون.
2- *رفض التعاون:*
• الخوف من تقاسم الفضل يدفع بعض الفنانين لتجنب المشاريع الجماعية، أو العمل علي هدمها، مما يؤثر سلباً على الكثير من المشاريع الفنية.
3- *تحويل التنافس إلى صراع شخصي:*
• التنافس المهني قد يتحول إلى معركة لإثبات الذات على حساب القيم الفنية،مما يخلق بيئة مشحونة بالتوتر.
*الصراع على القيادة داخل المجموعة:*
تحديات وحلول.
الصراع على القيادة يُعد أحد أكثر مظاهر النرجسية تأثيراً في الوسط الفني.
في المشاريع الجماعية، قد يتحول هذا الصراع إلى نزاعات علنية أو خفية، حيث يسعى البعض لفرض آرائهم أو إبراز أنفسهم على حساب الآخرين.
هذا النوع من الصراعات لا يؤدي فقط إلى ضعف التعاون داخل الفريق، بل قد يُعطل أيضاً تحقيق الأهداف.
المناخ المشحون بالتوتر يُثبط الإبداع، ويجعل المشروع ساحة للخلافات بدلاً من كونه فرصة للإبداع الجماعي.
*اختيار القائد:*
القيادة مسؤولية وليست امتيازاً.
القيادة ليست امتيازاً يُستخدم للسيطرة أو التعالي علي الآخرين، بل هي مسؤولية كبيرة تتطلب امتلاك مهارات أساسية لتحقيق النجاح.
*مهارات القيادة:*
• التواصل الجيد مع الفريق وليست التعالي.
• القدرة على اتخاذ القرارات الحكيمة.
• الإبداع والرؤية المستقبلية.
• العمل مع الفريق بتواضع حقيقي.
• المرونة والانفتاح على الأفكار.
*الخبرة والسن:*
عوامل مكملة وليست أساسية.
قلة الخبرة لا تعني بالضرورة الفشل، كما أن عامل السن لا يشكل معياراً قاطعاً لتحديد كفاءة القائد أو نجاحه.
فالخبرة قد تكون ميزة إضافية، لكنها ليست الشرط الأساسي لاختيار القائد.
في بعض الحالات، قد يمتلك القائد الشاب أو الأقل خبرة رؤية مبتكرة ومهارات قيادية تميزه عن غيره.
نعم، ربما قد يفتقد القائد الجديد لبعض التجارب، إلا أنه يمكنه التعويض عن ذلك بحماسه ورغبته القوية في التعلم والتطور، وعندما يجتمع هذا الشغف مع خبرات فريق عمل متنوع، تُحقق نتائج مبهرة تستفيد من تكامل الرؤى والمهارات، وهذا ما يمكن تسميته بالقيادة الجماعية.
*كيفية التغلب على صراعات القيادة:*
لتجنب الصراعات وتحقيق النجاح، من الضروري بناء بيئة عمل قائمة على:
1- *اختيار القيادة بناءً على الكفاءة:*
• القائد الحقيقي هو من يُحفز الفريق ويُوحّد جهوده لتحقيق أهداف مشتركة، بعيداً عن الفردية أو السيطرة المطلقة.
2- *وضوح الأدوار:*
• يجب أن يشعر كل فرد في المجموعة بأهمية دوره في تحقيق النجاح الجماعي.
3- *تعزيز ثقافة الحوار:*
• ينبغي تعزيز النقاش البناء بين الأفراد بدلاً من السماح بوجود نزاعات خفية تُضعف الثقة داخل المجموعة وتؤدي إلى ظهور تكتلات تُعيق تقدم المشروع.
فالقائد الناجح يحرص على التعامل بحيادية تامة، ويُظهر تقديره لجميع أعضاء الفريق بغض النظر عن أعمارهم، خبراتهم، أو انطباعاته الشخصية عنهم.
كما إنه يدرك أن النجاح الحقيقي ينبع من الجهد الجماعي المشترك، وليس من اعتماد الإنجاز على فرد واحد فقط.
4- *أكرر:*
• أن قلة الخبرة لا تعني الفشل، فالقائد الشاب قد يجلب رؤى جديدة وطاقة تساعد في مواجهة التحديات، خاصة إذا كان مدعوماً بفريق يمتلك الخبرة.
*خطوات للتغيير الإيجابي ودعوة للتكاتف والعمل الجماعي:*
يمكن مواجهة النرجسية في الوسط الفني من خلال:
1- *تعزيز قيم التواضع:*
• التواضع ليس ضعفاً ولا يُقلل من قيمة الفرد، بل أداة لبناء جسور التعاون والاحترام المتبادل.
2- *تنظيم ورش عمل جماعية:*
• المشاريع المشتركة تساعد في تخفيف التنافس السلبي وتُشجع على تبادل الأفكار وخلق بيئة إبداعية متكاملة.
3- *التذكير والتركيز على الرسالة الفنية:*
• يجب أن يدرك الفنان أن رسالته تتجاوز ذاته، وتعبر عن قضايا مجتمعه، وليس ساحة لإبراز الذات فقط.
4- *التعلم من النجاحات:*
• بدلاً من رؤية نجاح الآخرين كتهديد، يمكن أن يكون دافعاً للإلهام والتطور، كما يجب أن يكون النجاح مرهوناً بالإنجاز الجماعي، لا بالمكاسب الشخصية.
*الخاتمة:*
التغيير يبدأ بنا.
آن الأوان لبعض الفنانون السودانيون أن يحتضنوا قيم التعاون والتفاهم، لأن الإبداع الحقيقي لا ينبع من الأنانية، بل من المشاركة.
ولنعلم جميعاً، النرجسية ليست عائقاً لا يمكن تجاوزه، بل هي فرصة لتحويل التركيز نحو الجماعة.
دعونا نعيد للفن السوداني مكانته كمساحة للإلهام والتواصل، وليس للصراعات والتنافس السلبي.
دعونا نعيد تعريف التنافس ليكون وسيلة للإلهام والإبداع المشترك.
*فالتغيير يبدأ بنا.*
هذه المقالة هي جزء من سلسلة كتابات عن نرجسية الفنان السوداني ودوره في المجتمع.
الوسومالفن السوداني الفنان النرجسية راني السماني