بوابة الفجر:
2025-03-18@00:53:48 GMT

عادل حمودة يكتب: تاريخ عائلة «الأسد»

تاريخ النشر: 14th, December 2024 GMT

«سليمان» جد حافظ الأسد هزم مصارعًا تركيًا فهتفوا له «الوحش.. الوحش»العائلة نالت احتراما جعل كبار القرية يقولون «لست وحشا.. أنت أسد»حادث تصادم سيارة باسل الأسد فرض على بشار أن يخلف والده فى وقت لم يكن مستعدا فيه للسلطة

بدأت سلالة الأسد فى نهاية القرن التاسع عشر.. فى قرية تسمى قرداحة تتبع محافظة اللاذقية.

بدأت السلالة بقصة مثيرة.

ذات يوم هبط مصارع تركى القرية وراح يتحدى كل ما فيها من رجال، تجمع أهالى القرية للفرجة ولكنهم وجدوا رجال القرية يتساقطون واحدا بعد الآخر حتى شعروا بالخجل.

خرج من بين الصفوف رجل قوى البنية فى الأربعينيات من عمره، أمسك الرجل المصارع من وسطه ورفعه بقوة فى الهواء ثم طرحه أرضا.

استردت القرية كرامتها.. وراحت تهتف «الوحش.. الوحش».

كان اسم البطل سليمان.. وبعد ما فعل أصبح اسمه «سليمان الوحش».. وهو جد حافظ الأسد والد بشار الأسد.

لكن كيف تغير لقب الوحش إلى لقب الأسد؟.

على مدى جيلين من الزمن نالت العائلة احتراما كبيرا.. جعل الكبار فى القرية يقولون للجد: «أنت لست وحشا، بل أنت أسد».

الأسرة التى حكمت سوريا أكثر من نصف قرن

ورث «على سليمان» والد حافظ الأسد كثيرا من صفات أبيه.. كان قويا.. شجاعا.. محترما.. وراميا ممتازا.

حسب باتريك سيل -وهو كاتب وصحفى بريطانى تخصص فى الكتابة عن سوريا ونشر كتابا عن «حافظ الأسد والصراع فى الشرق الأوسط»- كان «على سليمان» وهو فى السبعين من عمره يلصق ورقة السيجارة فى جذع شجرة ثم يصيبها برصاصة من مسدسه.

اهتم باتريك سيل بالطائفة العلوية التى تنتمى إليها عائلة الأسد.. أكد أن العلويين طائفة شيعية متشددة..

حكمت هذه العائلة الشيعية دولة ذات أغلبية سنية.. ما أدى إلى تمييز دينى وصل بدوره إلى تمييز طبقى..

وتحالفات إقليمية مع دول ذات أغلبية شيعية مثل إيران.. وفى الوقت نفسه بدا حزب الله فى خدمة النظام عسكريا.

تمتع العلويون بالثروة والسلطة والوجاهة الاجتماعية.. وكنت شاهدا على ذلك، كنت هناك يوم وصل جثمان الشاعر السورى الكبير نزار قبانى إلى دمشق فى بداية شهر مايو ١٩٩٨.

جاء الجثمان من لندن حيث كان يعيش.. ولم يكن فى استقباله سوى وزير الدفاع «مصطفى طلاس» بصفته الشخصية.. لم تهتم الدولة بتشييع جنازته وإن تولى الشعب ذلك.

فى الوقت نفسه أبقت الدولة على جثمان الكاتب المسرحى سعد الله ونوس أسبوعين حتى تنظم احتفالا يليق به باعتباره شيعيا.. صحيح أن كلًا منهما يستحق التكريم.. لكن لا يجب أن يكون هناك تمييز فى التكريم لسبب مذهبى.

(١) وجها لوجه

عندما كنت مسؤولا عن تحرير روز اليوسف فى تسعينيات القرن الماضى تصدت المجلة للتنظيمات الإرهابية المسلحة.. كانت سوريا تواجه نفس المشكلة، ولكن بأساليب خفية.. وكان ملاحظا ارتفاع توزيع روز اليوسف فى سوريا.

فى هذه الأثناء تلقيت دعوة من العماد مصطفى طلاس وزير الدفاع الذى كان منصبه شرفيا بسبب زمالته لحافظ الأسد فى سنوات التدريب فى مصر، وحدد طلاس موعدا مع الرئيس حافظ الأسد.. فوجئت بأن الموعد كان فى الساعة الحادية عشرة ليلا.

عرفت همسا أن حافظ الأسد مصاب بمرض الأرق ولا ينام إلا فى ضوء النهار.. لاحظت أن بناية البيت متواضعة.. والدور الأرضى منها مكتبة بها مئات المئات من الكتب.

بدا واضحا أنه يعرف كل صغيرة وكبيرة فى الدول العربية حتى الحياة الشخصية لنجوم الفن.. يومها روى لى قصة طلاق نهلة القدسى من رئيس وزراء الأردن عبد المنعم الرفاعى وزواجها من محمد عبد الوهاب.. وروى لى ما جرى بينه وبين السادات بعد رحلة القدس.

وفى تلك المقابلة أخذت منه نسخة من كتاب بتريك سيل الذى أعتبره أفضل كتاب يروى سيرة حياته.

(٢) نهج عبد الناصر

حسب باتريك سيل: ولد حافظ الأسد فى ٦ أكتوبر ١٩٣٠.. فى أسرة فقيرة لكنها نالت احترام الكبار فى القرية بسبب نضال جده وأبيه.. كان أول من نال تعليما فى عائلته.. تعلم فى مدرسة القرية الأولية.. وأكمل تعليمه الثانوى فى اللاذقية.

انضم إلى حزب البعث وعمره ١٦ سنة.. ودخل الكلية الجوية بعد أن التحق بالأكاديمية العسكرية فى حمص عام ١٩٥٢ وتخرج طيارا فى عام ١٩٥٥.. سافر فى بعثة عسكرية إلى القاهرة هو ورفيق عمره مصطفى طلاس.

بعدها تولى قيادة القوات الجوية.. ثم أصبح وزيرا للدفاع وشهد وهو فى هذا المنصب هزيمة يونيو ١٩٦٧.

وفى ٢٢ فبراير ١٩٧١ تولى رئاسة الجمهورية وأمانة حزب البعث بعد أن قام بما سمى ثورة التصحيح.. وما إن تسلم السلطة التنفيذية والحزبية حتى أنقذ سوريا من وباء الانقلابات العسكرية.. فبعد استقلالها بثلاث سنوات أى فى عام ١٩٤٩ عرفت سوريا عشرين انقلابا بمعدل انقلاب كل سنة تقريبا حتى جاء حافظ الأسد.

كان سر حافظ الأسد أنه سار على نهج جمال عبد الناصر.. كرس علمانية النظام.. قدم امتيازات غير مسبوقة للطبقات الفقيرة.. تعليم مجانى.. رعاية صحية بلا مقابل.. إتاحة الفرص للكفاءات لتولى مناصب عليا.. استخدام حزب البعث فى السيطرة على كل المؤسسات بما فيها المؤسسة العسكرية.. والسيطرة على لبنان.. لكنه فى الوقت نفسه منح مميزات أكثر للعلويين.

(٣) انتقام بعد فشل اغتياله

فى ٢٦ يونيو ١٩٨٠ حاول الإخوان المسلمون اغتياله.. كان ينتظر مجموعة من الدبلوماسيين الأفارقة فى قصر الضيافة فى دمشق.

قبل أن يأتى الدبلوماسيون الأفارقة ألقيت عليه قنبلتين يدويتين ثم تعرض لوابل مكثف من الرصاص بواسطة مدفع رشاش.. ركل حافظ الأسد إحدى القنبلتين بقدمه بعيدا عنه.. ورمى أحد الحراس نفسه على القنبلة الأخرى.. جاء الهجوم فى سياق انتفاضة إسلامية فى سوريا.

فى اليوم التالى بدأ حافظ الأسد أعماله الانتقامية.. فوقعت مجزرة سجن تدمر -وهو سجن صحراوى يقع فى شمالى شرق دمشق- أودت المجزرة بحياة مئات من السجناء غالبيتهم محسوبون على جماعة الإخوان المسلمين.

وفى شهر فبراير ١٩٨٢ واجهت القوات السورية معارضة إسلامية مسلحة فى مدينة حماة.

الأسرة التى حكمت سوريا أكثر من نصف قرن(٤) الجماعة

جماعة الإخوان فى سوريا أسسها الشيخ مصطفى السباعى الذى تعرف على حسن البنا خلال دراسته فى الأزهر.. جمع مصطفى السباعى الفصائل الإسلامية فى تنظيم واحد بعد عودته إلى سوريا فى عام ١٩٤٥.

تركزت الجماعة فى حلب وحمص وحماة ودمشق.. وفيما بعد أصبح مصطفى السباعى مسئول المكتب التنفيذى لها فى المنطقة العربية.. حدث ذلك بعد مواجهة جمال عبدالناصر للجماعة فى مصر.

اعتبرت الجماعة حافظ الأسد رئيسا غير مسلم كونه من العلويين.. وفى الوقت نفسه تحالف الأسد مع الشيعة فى لبنان وإيران والعراق.. لتظل الخلافات الدينية أساس الخلافات السياسية.. التى وصلت إلى صدامات عسكرية تصاعدت بعد رحيل حافظ الأسد فى ١٠ يونيو عام ٢٠٠٠.

(٥) الوريث

حسب عرف سائد فى العائلات السامية العربية واليهودية: يتولى الابن الأكبر إدارة أعمال العائلة حتى لو كان ذلك العمل حكم البلاد.. ويتبع الابن الثانى مهنة علمية (الطب أو القانون).. ويحصل الابن الثالث على وظيفة حكومية مؤمنة.. وغالبا ما يكون الابن الرابع بلا فائدة.

اختار الأسد ابنه الأكبر باسل ليخلفه.. كان باسل الأسد مهندسا مدنيا مظليا وفارسا رياضيا.. وكان أول دفعته فى الكلية الحربية وقيادة الأركان والقفز بالمظلة.

تسلم قيادة الحرس الجمهورى.. وكانت كل مواصفاته ترشحه لخلافة أبيه.. ولكن فى ٢١ يناير ١٩٩٤ فقدته العائلة.

كان يقود سيارته من نوع مرسيدس بسرعة عالية تصل إلى ٢٥٠ كيلومترًا فى الساعة وسط ضباب كثيف..  كان متجها إلى مطار دمشق ليستقل رحلة خاصة مستأجرة إلى فرانكفورت فى طريقه إلى عطلة تزلج على الجليد فى جبال الألب.. اصطدمت سيارته بحاجز.. وبسبب عدم وضع حزام الأمان توفى على الفور.

(٦) الوريث البديل

فقدت العائلة الوريث الأول.. وجاء الدور إجباريا على الوريث الثانى.

ولد بشار الأسد فى ١١ سبتمبر عام ١٩٦٥.. درس الطب فى جامعة دمشق وحصل على شهادته منها فى عام ١٩٨٨.. أدى الخدمة العسكرية وعمل طبيبا فى الجيش.. ثم سافر إلى بريطانيا فى عام ١٩٩٢ ليبدأ تدريبه فى مرحلة متطورة من طب العيون.

كان التدريب فى مجموعة سانت مارى للمستشفيات فى لندن.

سمعت منه عندما التقيت به فى افتتاح معرض للمعلوماتية فى دمشق: «إن الوقت الذى قضاه فى بريطانيا أثر على رؤيته لمستقبل سوريا.. وأنه شعر أن سوريا تحتاج التغيير.. وأن التكنولوجيا ستقضى على المسافات بين الدول المتقدمة والدول المتخلفة».

بعد وفاة باسل عاد بشار إلى دمشق لحضور جنازته لكنه فوجئ بأن عليه أن يصبح رئيسا بعد رحيل الأب.. لم يكن وقتها مهيئًا بشكل رسمى على الإطلاق ليكون خليفة حافظ الأسد.. مات الأب قبل أن يستكمل كافة الخطوات اللازمة ليصل ابنه إلى الحكم.

سارت عملية تحضيره على ثلاثة مستويات: أولا: إيجاد تأييد لبشار داخل الجيش والأمن والاستخبارات.. ثانيا: ترسيخ موقعه لدى عامة السوريين.. ثالثا: العمل على تعريفه بجوهر دوره فى المستقبل.

لكن.. بدا بشار فى الحقيقة غير متحمس فى البداية ليلعب دورا لم يفكر فيه.. ظهر باهتا وهو يتكلم فى المؤتمرات والمناسبات.. وتغير الحال فى أواخر التسعينيات فبدا أنه اتخذ قرارا خطيرا لا سبيل للرجوع عنه.. قرار أن يتولى الرئاسة بعد والده.. تهيأ نفسيا.. وتوافق مع حياته الجديدة.

مات الأب فى توقيت غير مناسب.. مات قبل أن يعينه نائبا للرئيس.. مات قبل أن ينعقد مؤتمر لحزب البعث يمكن فيه ترقية بشار سياسيا.. وكانت هناك مشكلة أخرى هى أن الدستور يشترط أن لا يقل عمر المرشح لمنصب الرئيس عن أربعين عاما.. لكن المجلس النيابى عدل الدستور.

وفى الاستفتاء الذى أجرى يوم ١٠ يوليو جاءت نسبة ٩٧.٣ من الأصوات تؤكد ترشح بشار.. وبعد أسبوع واحد وبالتحديد فى ١٧ يوليو تم تنصيب الرئيس الجديد.

الأسرة التى حكمت سوريا أكثر من نصف قرن(٧) الزوجة والعائلة

ولدت زوجته أسماء عام ١٩٧٦.. هى ابنة الدكتور فارس الأخرس وهو أخصائى فى جراحة القلب على مستوى عالمى.. وسليل عائلة سنية مرموقة من حمص.

تزوج بشار وأسماء فى أول يناير عام ٢٠٠١.. والمقصود أنها ليست علوية وذات خلفية مدنية.. والأهم أنها تخرجت فى كلية كينجز المتخصصة فى علوم الكومبيوتر فى عام ١٩٩٦.. كما أنها سجلت نفسها فى برنامج أم بى إيه فى كلية الأعمال جامعة هارفارد.

حاولت أسماء أن تلعب دور المستشار الاقتصادى والاجتماعى للتغيير ولكن سيطرة عقلية حزب البعث عليه انتصرت على أفكارها.

وفيما يخص العائلة فقد ترأس شقيقه الأصغر ماهر الحرس الرئاسى النخبوى.. وقاد حملة القمع ضد الانتفاضة.. وكانت شقيقتهما بشرى صوتًا قويًا فى دائرته المقربة.. كما أن زوجها نائب وزير الدفاع آصف شوكت لعب دورًا مؤثرًا.. لكنه قُتل فى تفجير عام ٢٠١٢.

تزوج بشار وأسماء الأخرس فى أول يناير عام ٢٠٠١.. والمقصود أن العروس ليست علوية وذات خلفية مدنية  ترأس شقيقه الأصغر ماهر الحرس الرئاسى النخبوى.. وقاد حملة القمع ضد الانتفاضة.. وكانت شقيقتهما بشرى صوتًا قويًا فى دائرته المقربة

المصدر: بوابة الفجر

كلمات دلالية: الاسد عادل حمودة الكاتب الصحفي عادل حمودة الصحفي عادل حمودة الإعلامي عادل حمودة بشار الأسد حافظ الاسد حزب البعث الطائفة العلوية النظام السوري باسل الأسد أسماء الأخرس ماهر الأسد قرداحة سوريا السياسة السورية انقلاب سوريا العلاقات الإقليمية العائلة الحاكمة تاريخ سوريا حزب الله ايران الدستور السوري الانتخابات السورية تاريخ البعث السيطرة العسكرية حافظ الأسد حزب البعث الأسد فى قبل أن فى عام

إقرأ أيضاً:

حرب الساحل وأبعادها الإقليمية.. هل تنجو سوريا الجديدة من الفخ؟

"لا مُلك لمن لا هيبة له" توارث العرب هذه المقولة جيلا بعد جيل، بينما ينسبها البعض للخليفة الأموي عبد الملك بن مروان، فهي ما زالت مقولة حية وخلاصة حكيمة تؤكد الأحداث على مر الزمان صحتها. فالهيبة وقاية لمن يحكم، وإسقاط الهيبة هدف لمن يريد هز مقعد الحكم وزلزلة الأرض من تحت قدمي الحاكم.

وحين ننتقل من التاريخ إلى الواقع، نجد أن الدولة الوليدة في سوريا عاشت لحظات قلق وترقب إثر أحداث الساحل التي استهدفت هيبة الحكم، وأرادت إثبات قدرة فلول نظام الأسد على إثارة الفوضى.

اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2مصطفى طلاس.. وزير الدفاع المرعب الذي أهدى سوريا لبشار الأسدlist 2 of 2شرخ في جدار الغرب.. الطلاق بين الولايات المتحدة وأوروباend of list

ولم تكد تنتهي الأحداث في الساحل، إلا وأعلن مجلس سوريا الديمقراطية (مسد) المظلة السياسية لقوات سوريا الديمقراطية (قسد) رفضه الإعلان الدستوري للمرحلة الانتقالية الذي اعتمده الرئيس أحمد الشرع، ووصف المجلس الإعلان بأنه غير شرعي، ولا يتوافق مع اتفاق الشرع ومظلوم عبدي قائد قسد، وذلك بحجة أن النص على أن الشريعة الإسلامية مصدر أساسي للتشريع يأخذ البلاد نحو الفوضى.

وفي الجنوب السوري، صرح شيخ عقل الطائفة الدرزية حكمت الهجري بأن "حكومة دمشق متطرفة، وأنه لا وفاق ولا توافق معها"، وتزامن حديثه مع دخول وفد من 50 شخصا من رجال الدين الدروز من السويداء إلى الجليل شمال فلسطين المحتلة لزيارة قبر النبي شعيب بواسطة حافلات برعاية جيش الاحتلال، في حدث هو الأول من نوعه.

إعلان

وتشير تلك الوقائع المتناثرة جغرافيا ما بين شرق سوريا وغربها وجنوبها، والمتفاوتة من حيث تداعيات كل منها، إلى حجم التحديات الداخلية التي تجابه الإدارة الجديدة في دمشق.

وهي تحديات تتقاطع مع الرؤية الإسرائيلية بضرورة تقسيم سوريا إلى 4 كيانات، واحد للعلويين في الساحل، وآخر للدروز في السويداء، وثالث لقسد في شمال وشرق سوريا، ورابع لحكومة دمشق، ضمن رؤية تستند إلى تناقضات وطموحات تحرك جهات محلية هنا وهناك.

هجمات الساحل الدموية

بعد دخول فصائل الثوار إلى دمشق، نعمت سوريا بفترة هدوء نسبي وسلام مجتمعي، فلم تحدث عمليات انتقامية أو إراقة للدماء رغم المرارات والجراحات المتفاقمة خلال سنوات الثورة، والتي أسفرت عن مقتل نحو مليون شخص، واختفاء أكثر من 100 ألف آخرين قسريا، فضلا عن تهجير ونزوح ملايين السوريين.

وجاء مشهد دخول الثوار إلى دمشق حضاريا وسلميا مقارنة بما حدث على سبيل المثال عند دخول القوات الأميركية إلى بغداد في عام 2003 حيث عمت الفوضى وانتشرت أعمال السلب والنهب لمقدرات العراق وثرواته. وبدا أن سوريا تتنفس الصعداء بعد أن اختنقت بأجواء الظلم والاستبداد ما يزيد على 6 عقود.

يُقال إن عقارب الساعة لا تعود للخلف، لكن أيادي العابثين يمكن أن تحطم الساعة ذاتها، وهو ما حاولت فعله فلول نظام الأسد بداية من الساعة الثالثة عصر يوم الخميس السادس من مارس/آذار الجاري، ولمدة يومين.

ففي التوقيت المذكور، وبعد ساعات من إعلان العميد غياث سليمان دلا أحد قادة الفرقة الرابعة بجيش الأسد تأسيس "المجلس العسكري لتحرير سوريا" لمواجهة النظام الجديد، بدأت تتوالى الأخبار عن سلسلة هجمات في منطقة الساحل تستهدف عناصر الأمن والجيش.

ووقع الهجوم الأول في قريتي بيت عانا والدالية بريف جبلة، ثم بعد ساعتين اتسع نطاق الهجمات ليشمل مناطق مختلفة في مدن جبلة وبانياس واللاذقية، وحوصرت قوات من وزارة الدفاع داخل الكلية البحرية التي تضم مستودعات أسلحة سيؤدي سقوطها إلى امتلاك المهاجمين لقدرات تسليحية كبيرة، كما تعرضت عشرات المواقع والنقاط الأمنية والعسكرية لهجمات متزامنة.

إعلان

وبينما حاول المسؤولون في الحكومة الجديدة استيعاب صدمة الهجوم المفاجئ، وتقدير أبعاده، تعرضت أرتال الدعم والمؤازرة الحكومية التي تحركت من مدينة اللاذقية باتجاه مدينتي جبلة والقرداحة إلى كمائن دامية، وحصار على الطرق، كما قطع المهاجمون الطرق السريعة بين إدلب وحمص وحماة باتجاه محافظتي اللاذقية وطرطوس، فضلا عن استهداف المهاجمين للمشافي لحصار المصابين من قوات الأمن داخلها.

ومع اتساع نطاق الهجمات لتشمل منطقة جغرافية جبلية وعرة تقترب مساحتها من نصف مساحة دولة لبنان، وتوالي الاستغاثات من عناصر الأمن والجيش المحاصرين، وتجاوز أعداد الضحايا من الأمن نحو 200 شخص فضلا عن عشرات المفقودين، أُعلن النفير العام في كافة المحافظات السورية لنجدة القوات المحاصرة في الساحل، فتدفق عشرات آلاف المقاتلين بحسب مصادر مطلعة، ونجحوا في القضاء على المجموعات المسلحة التي قطعت طريق "إم 4" (M4) ووصلوا من إدلب والشمال السوري إلى مدينة اللاذقية فجر يوم الجمعة السابع من مارس/آذار، ومنها إلى مدينة جبلة لفك الحصار عنها، ودخلوا المدينة بعد اشتباكات استمرت نحو 4 ساعات.

وبالتزامن مع ذلك تحركت قوات دعم ومؤازرة من حمص وحماة باتجاه طرطوس وبانياس، ودارت اشتباكات عنيفة على طريق حمص طرطوس، وانتهت الأحداث بانسحاب المهاجمين إلى عمق القرى الجبلية بحلول السبت الثامن من مارس/آذار.

وفجرت تلك المواجهات طاقات الغضب الكامنة في صدور بعض المقاتلين حديثي الانتساب للقوات المسلحة وأجهزة الأمن، فحدثت تفلتات، ووقعت انتهاكات بحق بعض المدنيين غير المتورطين في الهجمات، بذريعة أنهم يمثلون حاضنة اجتماعية للمسلحين الذين شنوا الهجمات، وأنهم كانوا قاعدة لدعم نظام الأسد الأب والابن، وهنا بدا أن الألغام التي أراد المهاجمون وضعها في وجه الإدارة الجديدة بدأت تنفجر لتهدد السلم الأهلي، وتستهدف النموذج الوطني الجامع الذي أرادت الحكومة الجديدة في دمشق تقديمه داخليا وخارجيا.

جانب من قوات الدعم الحكومية التي قدمت إلى اللاذقية وطرطوس في الساحل السوري لمواجهة المهاجمين (مواقع التواصل)  خطورة الأزمة

حكوميا، ومع اتضاح نطاق الهجمات وما أعقبها من حدوث نفير عام تضمن حدوث تجاوزات ضد المدنيين، أدركت الإدارة في دمشق خطورة ما يحدث، وأن من ضمن أهدافه ضرب ثقة المواطنين في وعود السلطة بحمايتهم، وربما تؤدي لاستنساخ الأحداث في مناطق أخرى مما يؤثر على شرعية الحكومة وقدرتها على توفير الأمن، كما يوحي بأن البلاد تعيش في فوضى وأن الدولة ضعيفة مما يغري الطامحين للحكم الذاتي أو الراغبين في الانفصال بكيانات صغيرة تتمركز فيها أقليات عرقية ودينية.

إعلان

إن المخاطر الخارجية لأحداث الساحل لا تقل عن المخاطر الداخلية، فهي تفتح الباب أمام التدخلات الأجنبية تحت لافتة التدخل الإنساني لحماية الأقليات ومنع حدوث إبادة جماعية بحق السكان، وهو مدخل يمس سيادة سوريا ويدفع باتجاه تدويل مشكلة محلية، ويجعل الإدارة الجديدة محلا للابتزاز.

وهو سيناريو تكرر في دول أخرى مثل دارفور بالسودان، فتدخل آنذاك مجلس الأمن لإصدار قرارات أسفرت عن فرض عقوبات اقتصادية على السودان، وإحالة مسؤولين سودانيين للتحقيق أمام المحكمة الجنائية الدولية، فضلا عن تشكيل لجنة أممية لتقصي حقائق.

وقد أدت التدخلات الدولية في مناطق أخرى مثل البوسنة والهرسك لفرض حظر توريد سلاح على الأطراف المتنازعة، وتشكيل بعثة عسكرية أممية لحماية المدنيين وتأمين إيصال المساعدات الإنسانية، ولكن مع إخفاق البعثة في حماية مسلمي البوسنة، أوكلت المهمة إلى قوات عسكرية من حلف الناتو.

محاولات علاج الأزمة

في مواجهة الأحداث المتلاحقة، سارعت الحكومة السورية لاتخاذ عدة خطوات لإنهاء الأزمة، وبدأت بفرض حظر للتجول في محافظتي طرطوس واللاذقية، في حين أمرت وزارة الدفاع بإخلاء منطقة الساحل ممن لا صلة لهم بالعمليات العسكرية، وشددت على عدم التعرض لأي شخص داخل منزله، مع الإنذار بتحويل المخالفين للتعليمات إلى القضاء.

ثم أعلنت وزارة الدفاع بعد 3 أيام من بدء الاشتباكات انتهاء العمليات العسكرية في محافظتي اللاذقية وطرطوس، وسحب وحدات الجيش من منطقة الساحل إلى ثكناتها، وتولي وزارة الداخلية وجهاز الأمن العام مهام حفظ الأمن بالمنطقة.

ومن جهته، تعهد الرئيس السوري أحمد الشرع في خطاب موجز بالحفاظ على السلم الأهلي ومحاسبة كل من يتجاوز ضد المدنيين، كما أصدر قرارا رئاسيا بتشكيل "لجنة وطنية مستقلة" للتحقيق في الانتهاكات التي تعرض لها المدنيون، فضلا عن التحقيق في الاعتداءات على المؤسسات ورجال الأمن والجيش، ثم أصدر الشرع قرارا رئاسيا ثانيا بتشكيل "لجنة عليا للحفاظ على السلم الأهلي" تختص بالتواصل المباشر مع الأهالي بالساحل لتقديم الدعم لهم بجوار عملها على تعزيز الوحدة الوطنية، كما بدأت الشرطة العسكرية في ملاحقة وتوقيف عدد من مرتكبي التجاوزات.

إعلان تباين المواقف الإقليمية والدولية

مع انتشار فيديوهات للضحايا من عناصر الأمن فضلا عن فيديوهات أخرى تكشف حدوث تجاوزات ومقتل أعداد من المدنيين في منطقة الساحل، برزت تباينات في المواقف الإقليمية والدولية وفقا لمصالح كل دولة، والشواغل التي توليها الأهمية في الملف السوري.

فجل الدول العربية تعطي الأولوية لاستقرار سوريا تمهيدا لبدء إعادة الإعمار وعودة اللاجئين، بينما دوليا وإقليميا تتضارب أهداف العديد من الدول، فإسرائيل لديها أولوية تتمثل في إضعاف حكومة دمشق وإشغالها بالملفات الداخلية وصولا لتجزئة سوريا وتفتيتها، بينما روسيا تريد تأمين قواعدها العسكرية في حميميم وطرطوس، والحفاظ على علاقاتها الاقتصادية والأمنية مع سوريا.

وفي حين تريد الدول الأوروبية في المجمل خروج الروس من سوريا، وإشراك الأقليات العرقية والدينية في النظام السياسي الجديد، وإعادة اللاجئين، تركز الولايات المتحدة على ملف مكافحة الإرهاب ومنع عودة ظهور تنظيم الدولة الإسلامية "داعش".

ووفق هذا التباين في الأهداف جاء التباين في المواقف، فنددت وزارات الخارجية في تركيا والأردن وقطر والسعودية والكويت والبحرين ومصر بالهجمات التي شنتها "مجموعات خارجة عن القانون استهدفت قوات الأمن"، وأن تلك التحركات "تستهدف أمن سوريا واستقرارها وتحاول دفعها للفوضى والفتنة والصراع".

لكن الموقف الإيراني بدا مغايرا، حيث أشارت وزارة الخارجية الإيرانية إلى أن الانتهاكات بحق الأقليات تجرح مشاعر الرأي العام، وتعتبر اختبارا حقيقيا لحكام سوريا، بينما شددت الخارجية العراقية على ضرورة تغليب لغة الحوار بدلا من التصعيد العسكري، وحذرت من أن استمرار العنف سيؤدي إلى تفاقم الأزمة، في حين أصدر حزب الله بيانا نفى فيه الاتهامات الموجهة له بالضلوع في الأحداث، ووصفها بأنها ادعاءات لا أساس لها من الصحة.

إعلان

غربيا، جاء موقف الاتحاد الأوروبي متوازنا وأقل صخبا، وكذلك الموقف البريطاني الذي دعا لرسم مسار واضح لتحقيق العدالة الانتقالية. لكن المواقف الأكثر انتقادا جاءت من واشنطن، حيث ندد وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو بمن سمّاهم "الإرهابيين الإسلاميين المتطرفين الذين قتلوا الناس غرب سوريا"، ودعا "السلطات المؤقتة لمحاسبة مرتكبي المجازر بحق الأقليات".

وبشكل أكثر عدوانية نشر وزير الدفاع الإسرائيلي يسرائيل كاتس بيانا قال فيه "إن الجولاني استبدل ثوبه ببدلة، وقدم وجها معتدلا، والآن خلع القناع وكشف عن وجهه الحقيقي، إرهابي من مدرسة القاعدة يرتكب أفعالا مروعة ضد السكان المدنيين".

أما موسكو، فقد فتحت قواتها في حميميم أبواب القاعدة العسكرية أمام أعداد كبيرة من المدنيين الذين طلبوا الحماية، فضلا عن فلول النظام الذين هربوا بعد فشل هجماتهم، بينما أعرب الكرملين عن قلقه من أعمال العنف، ودفع بالتنسيق مع واشنطن بملف أحداث الساحل إلى مجلس الأمن الذي عقد مشاورات مغلقة انتهت بإصدار بيان صاغته الولايات المتحدة وروسيا يدين أعمال العنف في اللاذقية وطرطوس، ويحث على بدء تحقيقات سريعة وشفافة ومستقلة وفقا للمعايير الدولية، ومحاسبة مرتكبي الانتهاكات، فضلا عن دعوته حكومة دمشق لاتخاذ "تدابير حاسمة للتصدي للتهديد الذي يشكله المقاتلون الإرهابيون الأجانب".

لقد حمل بيان مجلس الأمن عبارات مطاطة قابلة لتفسيرات مختلفة، فهو من جهة يتسق مع ما أعلنته الحكومة السورية من إجراءات تجاه التحقيق في الأحداث ومحاسبة مرتكبي الانتهاكات، لكنه من جهة أخرى يفتح الباب أمام تدخلات دولية قد تسعى لفرض إملاءات على الحكومة السورية فيما يخص نهج التحقيق، فضلا عن إقصاء المقاتلين الأجانب الذين انخرطوا في الثورة السورية، إذ سبق أن تعهد الشرع بمنحهم الجنسية السورية تكريما لجهودهم في إسقاط نظام الأسد.

دروس من الأزمة

لقد انتهت الاشتباكات سريعا مثلما اندلعت فجأة، لكن ارتداداتها ما زالت تتفاعل. فميدانيا انسحب المهاجمون إلى الجبال الوعرة واندمجوا بين السكان في القرى المتناثرة الحصينة جغرافيا، وهو ما يعني امتلاكهم قدرات مستقبلا على شن هجمات جديدة.

إعلان

فهم ليسوا مقاتلين هواة إنما كانوا جزءا من جيش الأسد وأجهزة أمنه، وتمرسوا لسنوات في القتال ضد فصائل الثورة، ولديهم شبكات من العلاقات داخل سوريا وخارجها تكفل لهم توفير التمويل والإمدادات اللوجيستية، فضلا عما بأيديهم من أسلحة احتفظوا بها من حقبة نظام الأسد.

كما أنهم يعملون وسط بيئة تضررت من سقوط النظام، فمئات الآلاف فقدوا رواتبهم ومصادر دخلهم بعد حل جيش نظام الأسد وأجهزة أمنه المتعددة. وهذا لا يعني قدرتهم على إسقاط النظام الجديد أو إعادة النظام الأسد، إنما يشير لقدرتهم على تهديد الأمن وإثارة الفوضى والانتقاص من هيبة الإدارة الجديدة.

على جانب آخر، كشفت الهجمات عن ضعف أجهزة الأمن الجديدة في منطقة الساحل، إذ لم تتوافر لديها معلومات مسبقة عن الهجمات التي شارك فيها حسب التقديرات الرسمية نحو 4 آلاف مسلح، وهو ما سيتطلب تعزيز قدرات أجهزة جمع المعلومات، وإعداد خطط احترافية مسبقة تعتمد على قوات تدخل سريع مجهزة ومدربة ومنضبطة للتصدي لأي هجمات مستقبلية دون إعلان النفير العام الذي تتخلله أجواء من الفوضى وضعف الانضباط.

دوليا، امتلكت بعض الدول الساعية للضغط على حكومة دمشق ورقة قابلة للتسويق دوليا، وستستخدمها للابتزاز والمساومة، مما سيتطلب من الإدارة الجديدة تعزيز السلم الأهلي، وتعويض المتضررين، ونشر ثقافة التسامح، والعمل قدر الإمكان على تجنب تكرار تلك النوعية من الأحداث سواء في منطقة الساحل أو في غيرها من المناطق التي توجد فيها مكونات وكتل مناوئة، وتفكيك المشاريع المعادية بأقل قدر من الدماء.

مقالات مشابهة

  • العراق يعلن ضبط أكثر من طن من حبوب الكبتاغون المخدرة قادمة من سوريا
  • مؤتمر بروكسل... اختبار لإعمار سوريا وسط التوترات
  • عادل الباز يكتب: الخطة (ط): التطويق (1)
  • الذكرى الرابعة عشر للثورة.. سوريا بدون نظام الأسد
  • احتفالات في سوريا بالذكرى الـ14 للثورة ضد حكم الأسد
  • على الخريطة.. ما الذي يريده نتنياهو في جنوب سوريا
  • مظاهرة في واشنطن تنديدًا بـ"المجازر ضد العلويين" في سوريا
  • سوريا.. مروحيات عسكرية تُلقي الزهور في ذكرى الثورة ضد الأسد
  • حرب الساحل وأبعادها الإقليمية.. هل تنجو سوريا الجديدة من الفخ؟
  • تقسيم سوريا.. بين المُؤامرة والواقع (2- 2)