منى أحمد تكتب: القنديل بين الأصالة والحداثة
تاريخ النشر: 14th, December 2024 GMT
قادتني الصدفة إلي مشاهدة رائعة الروائي الكبير يحيى حقي قنديل أم هاشم وصراع العلم والمعتقدات المتوراثة, المتراكمة في الوعي الجمعي لشريحة كبيرة باختلاف طبقاتها.
جاءت النسخة السينمائية للطرح الإبداعي لحقي مشرقة بأنوارها ومجابهة بأفكارها لموروثات شعبية, ومجسدة لفكرة الصراع بين العادات والمورثات التي تقف علي النقيض من التطور العلمي, وهي من الروايات الرمزية غير المباشرة التي ُنسجت في إطار درامي, بمعالجات دلالية حول إشكالية التفاعل مع الثقافات الغربية والموقف المذبذب منها.
فقنديل أم هاشم كان صراع بين المجتمع الأصولي وبين الحداثة الوافدة, من خلال بطل الرواية إسماعيل الذي ولد وعاش في حي السيدة زينب بعاداته وتقاليده المتشبعة بنمطا من التدين الشعبي ,لينتقل فجأة لدراسة الطب في أوروبا.
وتصطدم مكونات التسامي الإيماني الظاهري لديه بحضارة الغرب المنفتح بكل منجزاته ومادياته,وتحدث الصدمة الحضارية ويعود لوطنه آسيرا لكل ما رأه من حريات وأفكار, فيقع بين مطرقة ما نشأ عليه وسندان ما اطلع عليه من حداثة.
أضيف إلي هذا الصراع تحدي أخر تمثل في إصابة أبنة عمه فاطمة بضعف في الأبصار, يهددها بالعمي في وسط اجتماعي يلجأ فيه بسطاؤه إلى العلاج ببركة الصالحين, والرمز هنا هو قطرات من زيت القنديل المبارك وهو الأمر الذي يرفضه العلم وجسدته المعالجة الدرامية بتحطيم د.إسماعيل قنديل المسجد.
لكنه هو الآخر يفشل في علاجها بالعلم وينفض عنه مرضاه ،بعد فشله الناتج عن تحديه لمعتقداتهم الدينية ويصبح علمه مرفوضا من جميع من حوله.
وتنهار ثقة إسماعيل فيما تلقاه من علم , فلا الزيت ولا العلم قدما العلاج لعين فاطمة , وتزداد حالته سوءا ويصبح بلا عمل , وبعد صراع كبير يقرر منهجًا جديًدا مستخدما العلم والايمان معًا.
ويبدأ مرحلة جديدة من علاج ابنة عمه ,معترفا ببركة زيت القنديل في الشفاء لكن مع الاستعانة بالأدوية, وبمرور الوقت تتعافي وتبصر مرة أخري,دون أن يعلم أحد هل العلاج بالدواء أم بالتسليم والرضوخ الروحاني للفكرة.
فعندما دخل بطل الرواية في دوامة الصراع الوجودي عبر معاناة داخلية مظلمة,أنتهت باكتشاف النور المتواجد في مكنونات النفس, والذى أدي التخلى الكامل عنه لتحويل العلم المكتسب إلى طائر بجناحٍ واحد.
وجاء رحاب أم هاشم بكل ما ترمز إليه من دلالات روحانية, ليمد جسرا يصل ما بين ما وصل إليه العلم وبين حياة الناس ومورثاتهم الراسخة,فالجانب الروحى الخلاق الذى يرمز إليه الحضور المضيئ للقنديل ،ويمتد إلى الزيت الذى يؤمن ببركاته من يقبلون عليه يصل في نهايته إلى اليقين بحتمية أقتران العلم المادي بالروحانيات.
ومن أجل هذا وصف حقي القنديل بأنه أبدي ويتعالى على كل الصراعات,فكل نور يبدأ باصطدام بين ظلام يجثم وضوء يدفع ,إلا هذا القنديل فإنه يضئ بغير صراع.
على كثرة نصوص الأدب العربي التي طرحت إشكاليات الصراع بين الأصالة والحداثة , تظل رواية قنديل أم هاشم متفردة بوصفها مرجعا أصيلا فند هذا الصراع علي ارض الواقع.
ورغم تنوع أعمال يحيي حقي ستظل رائعته قنديل أم هاشم هي الأشهر والأهم في أعماله ,التي تميزت بجمال الصياغة وروعة الفكرة والتراكيب اللغوية المتفردة في إيقاعاتها المتدفقة,والقدرة الفائقةعلى استخدام الإيحاء والتجسيد والتأثير.
المصدر: صدى البلد
كلمات دلالية: يحيى حقي قنديل أم هاشم المزيد قندیل أم هاشم
إقرأ أيضاً:
عمار يا مصر | إيمان كمال تكتب: القوى الناعمة.. أصالة وتأثير تخطى الحدود
على اسم مصر التاريخ يقدر يقول ماشاء
أنا مصر عندى أحب وأجمل الأشياء
بحبها وهى مالكة الأرض شرق وغرب
وبحبها وهى مرمية جريحة حرب
بحبها بعنف وبرقة وعلى استحياء
فى قصيدة «على اسم مصر» للمبدع صلاح جاهين تجسيد حقيقى لـ«أدق مشاعر المصريين» تجاه مصر، التى تمتلك مكانة فريدة فى تاريخ الحضارة الإنسانية، وقوة ثقافية مؤثرة فى الشرق الأوسط والعالم بالفن والسينما والإبداع والأدب والموسيقى والثقافة، فالقوى الناعمة كانت سببا قويا فى المكانة التى تتمتع بها مصر، ويمكن اعتبارها هى الميزة التى منحت مصر تلك المكانة والصدارة، رغم الأحداث المريرة والأزمات المتعاقبة خلال السنوات.
أسماء عظيمة عززت تلك المكانة على أصعدة عالمية وعربية، نجيب محفوظ الذى جعل الأدب المصرى الأصيل جزءًا لا يتجزأ من التراث الثقافى العالمى، وغيره من الأدباء عبر أجيال متعاقبة، يوسف السباعى، أنيس منصور، إحسان عبد القدوس، يوسف إدريس، خيرى شلبى، إبراهيم أصلان، وشعراء مثل أمل دنقل وصلاح جاهين أسهموا فى تعزيز صورة مصر كمصدر إبداع أدبى وفكرى لا ينضب.
أما السينما المصرية فتعد واحدة من أبرز أدوات القوى الناعمة، جعلت مصر تُعرف بـ«هوليوود الشرق»، منذ تأسيسها فى أوائل القرن العشرين، قدمت مصر أفلامًا أثرت فى المشهد الثقافى العربى. وأسماء ملهمة ومؤثرة مثل يوسف شاهين، صلاح أبو سيف، وفاتن حمامة، سعاد حسنى، شادية وعادل إمام، جسدت الحلم والواقع العربيين، مما جعل السينما المصرية مركزًا للإلهام والتأثير، ونفس الحال فى الدراما التليفزيونية التى صنعتها أسماء كبيرة -على سبيل المثال- أسامة أنور عكاشة، يحيى العلمى، محمد صفاء عامر، إسماعيل عبد الحافظ ومحمد فاضل وآخرون عبر أجيال وأجيال حققت لمصر الريادة فى الفن والإبداع.
بينما تخطت الموسيقى والأصوات المصرية لغة الحدود، وضعت مصر على الخريطة الموسيقية فى العالم بأسماء أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب وعبد الحليم ومحمد فوزى.
حتى اليوم، تواصل الأجيال الجديدة مثل عمرو دياب وشيرين عبد الوهاب تمثيل الموسيقى المصرية، وهى مجرد نماذج من مئات النماذج الأخرى من القوى الناعمة المؤثرة فى عالم الإبداع والفنون.
نجحت أياد مبدعة فى الرسم والتخطيط وغيرها من الحرف الإبداعية أيضا أن تشكل نسيجا يكمل الصورة الإبداعية التى تتمتع بها مصر.
الآلاف بل ملايين المبدعين فى المجالات المختلفة، فالأسماء فى هذا المقال ما هى إلا نماذج فقط لأسماء أخرى لا تقل فى التأثير الإبداعى والموهبة.
على الرغم من هذا الإرث الإبداعى المتواصل عبر السنوات، تواجه القوى الناعمة المصرية تحديات فى الحفاظ على مكانتها وسط المنافسة الإقليمية والدولية، مثل ضعف الإنتاج مقارنة بالعقود الذهبية، وتراجع دور الأدب فى الحياة اليومية وغيرها من التحديات التى لا تزال تلك القوى تعمل على الحفاظ على دورها، فالأمر ليس مجرد خيار، بل ضرورة لتحقيق التقدم والاستقرار.